ريهام عزيز الدين / جيم
زووم إن
في إحدى مساءات عام 2013، وصلَتني رسالةٌ من مُحرّر الجريدة الشهيرة مفادها أن مقالتي الأولى ستظهر في عدد اليوم التالي. فركتُ عينيّ وقرأتُ الإيميل مراتٍ عدة. لم أنَم ليلتها، وحين أشرقَت الشمس ركضتُ في الشارع الذي لم يكن اكتظّ بعد بعوادم السيارات والهياكل البشرية. وصلتُ إلى “فرشة الجرائد” (أي المفروشة على الرصيف) ووقفتُ ثابتةً لبرهةٍ كمَن تنتظر لحظة التتويج، “إنتي ريهام عزيز اللي مقالتها موجودة في ملحق ضربة شمس!” استفقتُ سريعًا على ابتسامة النصر القريب تعتلي وجهي. لكن… لم يتعرّف عليّ البائع! تبخّر حلم التحقّق قبل أن يُولد. في طريق العودة إلى البيت، واجهتُ نفسي بالحقيقة التي كنت أراوغها. كان قراري بنشر ما أكتبه سيؤجّج غضب العائلة، أوّلًا لأني أصررتُ على إرسال صورتي المُرفقة بالمقالة من دون غطاء الرأس، وثانيًا لأني أكتُب، ما يعني “إضاعة الوقت” في مهنةٍ ضبابيةٍ تُعطل المسار الواضح المُتوقع منّي إما زوجةً لأحدهم أو أستاذةً جامعية. كما أن تاريخ العائلة لا يضمّ ولو شخصًا واحدًا انطلق في المسار عينه، فلماذا أجرؤ على فعل ما لا يحمل مرجعيةً تليق بتقاليد العائلة التي تضرب جذورها في الصّعيد؟
في السنوات الأولى التي خُضت فيها مغامرة الكتابة، لم أكن أنشر باسمي الحقيقيّ، بل راوغتُ عبر التخفّي وراء اسم “ريهام مهدي” لأمنح التجربة مساحةً آمنةً كي تنمو بعيدًا عن تشويش الغضب القادم من كلّ حدبٍ وصوب.
منحني عام 2017 منعطفًا وتجذيرًا، قدّمتُ نفسي بعلانيةٍ مطلقةٍ مُخلّفةً ورائي كثيرًا من المرارة ومحاولات الكرّ والفرّ. مضيتُ أتساءل: هل شهد تاريخ الكتابة والإبداع لدى النساء عبر الأزمنة رغبةً في إخفاء هوياتهنّ؟ لماذا فعلنَ ذلك؟ هل كان إخفاءً قسريًا أم اختفاءً مؤقتًا ضروريًا كي تنضج التجربة؟ أم كان شيئًا آخر؟
زووم آوت
شهد التاريخ العديد من الأديبات اللّاتي كنّ يُخفين هويّاتهنّ ويكتبن بأسماءٍ مُستعارةٍ رجالية، أشهرنّ الكاتبة الفرنسية آمانتين لوسيل أورور دوبين (Amantine Lucile Aurore Dupin) التي عُرِفت باسم “جورج ساند” (George Sand). لجأت آمانتين لدينامية الإخفاء تلك كي تنتزع لأدبها الاحترام الذي لم يكن يُمنح سوى للأدباء الذكور في تلك الحقبة الزمنية. لم تقتصر تلك المراوغة على الكتابة الأدبية فحسب، بل ارتدَت آمانتين ملابس وُصفت بأنها رجاليةً في زمنها، وعُرف عنها تدخين السيجار الكبير على الملأ، مُحطمةً بذلك الصورة النمطيّة عن المرأة الكاتبة التي يجب أن تكون حالمةً ورقيقةً ورومانسيّة.
تقول آمانتين إنّ “ارتداء الملابس الرجالية منحها راحة وحرية في التحرك في أماكن لم يكن مسموحًا للنساء ولوجها”،1 لكن هذا الخيار وضعها تحت مقصلة الوصم والتحقير، إذ ربط النقاد بين شكلها وطريقتها في تقديم نفسها أمام المجتمع من جهة، وموهبتها الأدبيّة من جهةٍ أخرى، واصفين ما تكتبه بـ”التخريبيّ”. وحتى حين حاول بعض الأدباء إنصاف كتاباتها، ظلّوا يعلّقون على شكلها وهويّتها الجندريّة، كما فعل الأديب الفرنسي فيكتور هوجو الذي قال “جورج ساند فكرة، تبوأت مكانها الاستثنائي في وقتها. لدينا رجالٌ عظماء، وهي امرأةٌ عظيمة. ولكني لا أعرف على وجه الدقة هل أخاطبها بأخي أم أختي!”.2
أما الروائيّة البريطانية ماري آن إيفانز (Mary Ann Evans) التي عُرفت باسم “جورج إليوت” (George Elliot)، فحياتها تصلح لأن تكون رواية مُشوّقة في حدّ ذاتها؛ بدءًا بالشائعات التي تحدّثت عن كتابتها مقالاتٍ لصاحب دار النشر “تشابمان” لمدة ثلاث سنوات، ووصولًا إلى اختيارها إصدار روايتها الأولى باسم “جورج”، الرجل الذي ربطتها به علاقةٌ عاطفيةٌ لما يزيد عن عشرين عامًا، وظلت تجلب لها الوصم والنبذ في المجتمع الفيكتوريّ شديد المحافظة حتّى بعد وفاته، لمجرّد أنه كان متزوجًا.
الأديبات في القرن التاسع عشر تحديدًا سُحقن في صراعٍ مع ذواتهنّ ومع المجتمع لإخفاء هويّاتهنّ باستخدام أسماءٍ رجالية، وهو صراعٌ يتغلغل في نسيج النساء
يشير كثيرٌ من النقاد إلى أنّ استبدال اسم الكاتبة ماري آن إيفانز على غلاف روايتها باسم رجل، كان هدفه منح القرّاء والقارئات فرصةً لاستكشاف الرواية بعيدًا عن الرأي السائد بأنّ الكاتبات النساء لا يكتبن سوى رواياتٍ رومانسية. لكن بعد أن لاقت الرواية رواجًا أدبيًا مُلفتًا واكتُشفت هويّة كاتبتها، بات مستحيلًا الفصل بين حياتها الشخصية وما تكتبه، فظلّت الأعين تلاحقها بسبب علاقتها بالفيلسوف جورج لويس، ولاحقًا بسبب زواجها بشابٍ يصغرها سنًا.
يمكن القول إنّ الأديبات في القرن التاسع عشر تحديدًا سُحقن في صراعٍ مع ذواتهنّ ومع المجتمع لإخفاء هويّاتهنّ باستخدام أسماءٍ رجالية، وهو صراعٌ يتغلغل في نسيج النساء كما وصفَت الأديبة فيرجينيا وولف (Virginia Woolf) ويؤجّج رغبتهنّ في “حجب أنفسهنّ امتدادًا لإرث العفّة الذي لا يزال يتملكهنّ”.3
يُحسب للمبدعات العربيات أنهنّ – وإن حجَبن هوياتهنّ أحيانًا – لم يستبدلنها بأسماء رجال، فالمصرية زينب فواز نشرت روايتها الأولى باسم “فتاة مصرية”، لكنها في الطبعة الثانية أفصحَت عن هويتها. أما ألِيس بطرس، فكانت أول امرأةٍ تنشر قصّةً قصيرةً عام 1891 باسم “صائبة”. من جهتها، نشرَت الأديبة اللبنانية ميّ زيادة بأسماء مستعارةٍ عديدة، نذكر منها “عائدة” و”إيزيس كوبيا”، وكانت أوّل امرأةٍ تكتب في جريدة الأهرام المصرية. أمّا الكاتبة المصرية عائشة عبد الرحمن التي لم تعتد أسرتُها المحافظة انخراط النساء في العمل الثقافي، فكانت تنشر باسم “بنت الشاطئ” في إشارةٍ إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل. وكانت الحقوقيّة والأديبة مقبولة الشلق أوّل امرأةٍ سوريةٍ تحوز إجازةً في الحقوق، كما كانت تنشر قصصَها ومقالاتها باسم “فتاة قاسيون”.4
وإن اختارت الأديبات الأوليات إخفاء هوياتهنّ لدوافع مختلفة، فقد برزَت لاحقًا حيلةٌ خبيثةٌ بثّت سمومها ضدّ الإنتاج الأدبي النسائي وكانت أشبه بالإخفاء القسري عبر التشكيك بحقيقة أنهنّ كتبنَ أعمالهنّ بأنفسهنّ، لاسيما إذا ما حقّقت أعمال الكاتبة نجاحًا ملحوظًا. ونسوق مثالًا على ذلك قضية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي وثلاثيّتها “ذاكرة الجسد” (1993)، و”فوضى الحواسّ” (1997)، و”عابر سرير” (2003)؛ إذ أُشيع بأنّ الشاعر نزار قبّاني – صديقها المقرَّب آنذاك – كان قد كتبها.5
أما مسيرة الأديبة المصرية أليفة رفعت، فشهدَت دينامية حجبٍ مختلفة، إذ قلّما تجدين أعمالها متاحةً للقراءة، كما اقترن اسمها بوصف “المثيرة للجدل” ليزيد من تجاهل النقّاد لإنتاجها الإبداعي في مجال القصة القصيرة. وفي محاولتي لمعرفة المزيد عن حياتها، لم أجد سوى مقالة وحيدة للكاتبة صافيناز كاظم بعنوان “الأديبة التي فرّت إلى الله”.6 ذكّرني العنوان بموجة تحجيب واحتجاب الفنانات المصريات في منتصف الثمانينات. لم أفهم يومًا كيف يُمكن للبعض اعتبار الفنّ أو الأدب خطيئةً تستوجب التوبة إلى الله!
في المشهد الأدبي المعاصر، طوّعت الأديبات الغربيات الإخفاء كاختيارٍ حرٍ لا كقيد، إما حفاظًا على خصوصيّاتهنّ الإبداعية كما فعلَت الإيطالية “إيلينا فيرانتي” لسنواتٍ طويلة، أو لمنح أنفسهنّ مزيدًا من التجريب واستكشاف المغامرة الأدبية كما فعلَت الكاتبة الشهيرة ج. ك. رولينج (J. K. Rowling) لمعرفة ما إذا كانت سلسلة “هاري بوتر” (Harry Potter) ستلاقي ترحيبًا لدى القرّاء الذكور، كما اخترعَت اسم “روبرت غالبريث” (Robert Galbraith) لتكتب رواياتٍ خياليةً عن الجرائم.
فعل الكتابة بالنسبة للنساء هو مغامرةٌ مضاعَفةٌ لأنها تبحث عن حماية الموهبة الأدبية من ناحية، وصون الحياة الشخصية من الانتهاك والتشويش والوصم من ناحيةٍ أخرى
عند التفكير في الحيَل التي كانت تلجأ إليها الأديباتُ لولوج عالم الأدب المُحتكر من قبل الذكور، ندرك حجم التحدّيات والمسارات الشاقّة التي يتوجّب على النساء اجتيازها في كلّ مرّةٍ يُقرّرن فيها الخروج من الصندوق والقطع مع السائد والمألوف. وعلى الرغم من أن اللحظة الآنية ما عادت تفرض كل تقنيّات المراوغة تلك، أعتقد أنّ ثمة خيطٌ رفيعٌ ما زال يربط الحاضر بالماضي، فحواه أنّ فعل الكتابة بالنسبة للنساء هو مغامرةٌ مضاعَفةٌ لأنها تبحث عن حماية الموهبة الأدبية من ناحية، وصون الحياة الشخصية من الانتهاك والتشويش والوصم من ناحيةٍ أخرى.
كنتُ أودّ أن أحسم موقفي فأقول كما قالت إحدى الأديبات العربيات – بيَقين العارفين – إنّ الأديبات النساء صرنَ يتبوّأن المكانة ذاتها مع الأدباء الرجال، ولا داعي على الإطلاق لنعرات الأدب النسوي وادّعاءات النضال، بحسب قولها! لكني لن أفعل، بل أتساءل: هل جرّب أحد الكُتاب أن يستكشف الكتابة والنشر تحت اسم امرأة؟ وأيّ مواضيع كان ليتناول؟ أم أننا سنكتفي فقط بالتهليل والمباركة في كل مرّةٍ “يحرّر” فيها الرجلُ المرأةَ بأدواته ولغته، ويتحدّث باسمها وعنها وإليها!
في واقع الأمر، حين تشرع المرأة الكاتبة في فعل تخليق الكتابة، تكون في داخل رأسها غرفتان: الأولى تجلس فيها بالقدر الكافي كي تحدّق بالصفحة البيضاء بينما تمنحها الشخوص والأفكار واللغة نسيجًا مترابطًا عمّا تود أن تكتب عنه بدقةٍ كاملة؛ والثانية تجلس فيها لتراقب العالم بينما تدور في ذهنها كل احتمالات الانتهاك الوشيكة التي سيتوجّب عليها أن تخطو فوقها بكلّ قوة. تلك القوة التي تأتي من اختيارها الواعي بأن تمنحها مغامرةُ الكتابة ما تتوق إليه من التحرّر الأعظم، ذاك التحرّر الذي وصفَته فيرجينيا وولف – بينما كانت تقبع في غرفةٍ تخصّها وحدها – قائلةً “أليسَ التحرّر الأعظم هو حرية التفكير في كل شيءٍ على حقيقته؟”؛ وأزيد: والإعلان عمّا نفكّر فيه بلا مواربة.
* هذا النص جزءٌ من سلسلة مقالات بعنوان “الأدب النسوي: أداة إبداعٍ ومقاومةٍ وتحرّر”، وهي عبارة عن مجموعة نصوصٍ تحمل إشاراتٍ للكشف والتبصّر في الذات الكاتبة لدى النساء وما يواجهن من تحدياتٍ من السلطة بأشكالها المُعلنة والمبطّنة. تُتضمّن كل مقالةٍ معارف متنوعةً من علم النفس المعرفي لاسيما علم نفس الإبداع، الأنثروبولوجيا اللغوية، الدراسات الثقافية، النظرية النقدية والتقاطعية النسويّة، مرفودةً بمُقارباتٍ من الثقافة العربية المعاصرة بُغية التعرّف إلى مفهوم البيئة الآمنة للنساء المبدعات، لاسيما في مجال الكتابة.
في سلسلة “الأدب النسوي: أداة إبداعٍ ومقاومةٍ وتحرّر”:
- 1.Patricia Thomson, “George Sand and English Reviewers: The First Twenty Years”, Modern Language Review, Vol. 67, No. (3): 501–516, July 1972, London: Modern Humanities Research Association. Available at: https://www.jstor.org/stable/3726119. Retrieved on 2 November 2021.
- 2.Victor Hugo, The Saturday Review: Politics, Literature, Science and Art, London, Spottiswoode and Co., 1893, p. 77.
- 3.فيرجينيا وولف، “غرفة تخص المرء وحده”، ترجمة: عهد صبيحة، سوريا، دار نينوى، 2017، ص 68.
- 4.سها عرّاف، “بأسماء مستعارة: عن النساء والكتابة”، موقع فُسحَة، 2019.
- 5.سها عرّاف، نفس المرجع السابق.
- 6.صافيناز كاظم، “حكاية أديبة فرّت إلى الله”، مقالة ضمن كتاب “صنعة لطافة”، القاهرة، دار العين، 2007.