النسويات والسيرة الذاتيّة: كيف نتحرر من سجن الهامش؟

ريهام عزيز الدين شغوفة بقراءة السير الذاتية. تصحبنا في هذا المقال في رحلة قصيرة نستكشف من خلالها أدب السيرة الذاتية لدى النساء وأهميته في تشكيل وعيهنّ وذواتهنّ.

ثماني سنواتٍ في القاهرة استسلمتُ فيها لغواية التحديق من النوافذ التي تمنح العابرين بالمجّان تفاصيل حياتيةً حميمةً يمكننا تخيّلها كيفما شئنا طالما لم يُسدِل أصحابُ البيت ستائرهم. ثمة غواية ما في التلصّص على عوالم الآخرين، لا أدري هل تلك طبيعةٌ إنسانيةٌ تنبعُ من فضولٍ غريزي أم رغبةٌ في التقاط التفاصيل خارجنا من دون التورط فيها؟

يحدثُ الأمر نفسه مذ أدركتُ شغفي بقراءة السِّير الذاتية. كلما أحببتُ شخصًا ما، تقمّصتُ دور المحقّقة وتتبّعتُ سيرته/ا وتلصّصتُ على تفاصيله/ا. كنتُ أقرأ سيَر ليلى مراد، وفاطمة المرنيسي، وشارلي شابلن (Charlie Chaplin)، وأناييس نن (Anaïs Nin)، ونيكوس كازنتزاكيس (Nikos Kazantzakis)، وأجاثا كريستي (Agatha Christie)، وليف أولمان (Liv Ullman) والحاضرة دومًا سوزان سونتاغ (Susan Sontag) ويومياتها: “كما يسخر الوعى للجسد”، و“ولادة ثانية” وغير ذلك، حتى أني كثيرًا ما شعرتُ بيَد الصداقة والرفقة تمتد إليّ وتربّتُ على كتفي مُتجاوزةً محدودية الزمان والمكان.

بدأ المسار يتخذ تبئيرًا أعمقَ حين بدأتُ في تتبّع سِيَرٍ ذاتيةٍ نسويّةٍ بعينها مثل “رحلة جبلية، رحلة صعبة” لفدوى طوقان، “القبيلة تستجوب القتيلة” لغادة السّمان، “أوراقي حياتي” لنوال السعداوي، “أوراق شخصية” للطيفة الزيّات، “أثقل من رضوى” لرضوى عاشور وغيرها. كنتُ أسير كقفاءةِ أثر. ألَم يخبرنا قاموس اللغة أن السِيرة مفردةٌ تعني “الذهاب نحو وجهةٍ ما”؟ يبدو أني تلقيتُ مكافأةً لقراءتي كل تلك السِيَر بأن سرتُ “سَيْرًا ومَسِيرًا وتَسْيارًا ومَسِيرةً وسَيْرورَةً” في حيواتٍ وعوالم ثريةٍ من دون أن أغادر منزلي. إن كنتُمنّ من محبّي ومحبّات قراءة هذا الجنس الأدبي وتشاركوننا الفتنة النائمة وشغفنا بالتلصّص الإيجابي على حيواتِ نساءٍ مُلهمات، أصحبكمنّ معي في هذه الرحلة القصيرة التي سنتوقّف خلالها في بعض المحطّات كي نلتقط أنفاسنا ونفكّر.

التاريخ الشخصي: وثيقةٌ نسويّة

تقول مُعلمة الكتابة الإبداعية باتريشيا فوستر (Patricia Foster) في كتابها “تحت جلدي مباشرةً” (2004): “إنّ كتابة السيرة الذاتية تساعد كثيرًا في التبصّر بمراحل تطوّر الهوية النسوية”، مُضيفة: “هناك رغبةٌ لدى القارئ المعاصر في ألا يُسلّم زمام عقله للمخيلة أو اللايقينيّات، فقد أصبح عالم الفانتازيا متخمًا، ضيقًا ومحدودًا. تمنحني كتابة الخيال قربًا من تجارب وخبراتٍ بعينها، لكنه يتركني فور أن أفرغ من القراءة فأشعر بالخواء، وهذا ما دفعني للكتابة عن ذاتي وهويتي مرتكزةً على أرضٍ صلبة”.1 الجدير بالذكر أن فوستر، في رحلتها الذاتية الإبداعية، هجرَت الفنون البصرية وتفرّغَت لكتابة القصص القصيرة، ثم تخصّصَت في كتابة السير الذاتية وتحوّلت إلى تدريسها.

في مقالها “كتابة وقراءة السيرة الذاتية لتشكيل الوعي: إذا كان الشّخصي سياسي، هل يمكن النظر إلى السيرة الذاتية على أنها وثيقةٌ نسويّة؟” (2005)، تتفق أستاذة الدراسات النسوية والمؤرّخة هيلين بنّان (Helen Bannan) مع استنتاجات فوستر سابقًا قائلة: “كان دومًا الإفصاح عن الذات من ركائز البيداغوجيا النسوية وتوجهاتها، بل الإصرار على أن يكون للكاتبة موقفٌ واضحٌ وصريحٌ ومحددٌ يُعد من أهم مؤشرات المسار النسوي”. وتضيف: “السيَر الذاتية التي تكتبها النساء هي مصادر ثريةٌ للغاية للفهم والتبصّر. من ممارستي التعليم، وجدتُ أن الطالبات والطلاب يميلون دومًا للمقالات التي تحمل صوتًا شخصيًا للكاتب/ة. مقالات السيرة الذاتية تلك تمنح رؤيةً متجذّرةً  للخبرات والتجارب وسياقًا محددًا يُمكِّنهم لاحقًا من الوقوف على مسافةٍ لتحليل كل تلك النصوص ومن ثمّ تكوين معارفهنّ/م وحقائقهنّ/م المستقلة”.2

لعلّ كتابة أدب السيرة الذاتية بأنماطه المختلفة، مثل اليوميات والمراسلات والحوارات، يدفع عن المرأة الكاتبة التهمة التي تُلصق بها دومًا، ألا وهي تهمة “التحديق بالذات” من خلال كتابة رواياتٍ عن عالمها الداخليّ بينما ينشغل الأدباء الرجال بتأريخ رحلاتهم في الحياة كأبطال. تأتي تهمة “التحديق بالذات” بوصفها سُبّةً أو خللًا نفسيًا، كما تدفع البعض إلى توجيه سهام النقد نحو الكاتبات النسويّات ونعتهنّ بـ”النرجسية”. يمكننا دحض تلك الادعاءات بما قدّمه عز الدين إسماعيل في كتابه “التفسير النفسي للأدب” (1963)، لاسيما في تقصّيه هوية الكاتب وادعاء النرجسية بقوله: “إن الأديب الحق ليس الذي تقوده رغبةٌ في تمجيد ذاته، بل تقصّيها. وإذا كان لا بد من إحساس الكاتب بذاته ونرجسيته، فيجب أن يُدرك المبدع أن نرجسية الفنان نرجسيةٌ محوّرةٌ أو منقولة، أو لنقل إنها نرجسيةٌ مُلغاةٌ يعوّضه عنها العمل الفني بنرجسيةٍ أرحب”.3

لعلّ كتابة أدب السيرة الذاتية بأنماطه المختلفة، مثل اليوميات والمراسلات والحوارات، يدفع عن المرأة الكاتبة التهمة التي تُلصق بها دومًا، ألا وهي تهمة “التحديق بالذات”

هذا ما طرحته الباحثة الأكاديمية آنا إيلزه (Anne Else) في دراستها للدكتوراه المعنوَنة “تغيير البنيان: السرد الذاتي، النظرية النسوية، والكتابة كممارسة” (2006)، وصاغته بسؤالٍ محدد: “كيف يُمكن للنساء فهم ذواتهنّ باعتبارهنّ ذواتٍ ناطقةٍ ناقدةٍ ضمن سياقٍ تاريخي ما يحتجن إلى خلخلة الهيكلة المجتمعية بالاحتكام لمنطقٍ ما، ومساءلة كل تلك البُنى والروابط والديناميّات المجتمعية ومن ثمّ تغييرها، من دون أن يتحدَثن بصوتٍ مرتفعٍ ويوثّقن هذا الصوت؟”.4

حين نقترب من الإنتاج المعرفي كما قدّمته السيَر الذاتية النسوية، يصبح لدينا إرثٌ يجمع بين السرد الذاتي، وتأريخ الحراك النسوي وتقنيّات المراوغة والبقاء التي قادتها النسويات الأولَيات في سياقاتهنّ ليتحرّكن خارج الهوامش الضيقة المفروضة عليهنّ. عندها، تتحول قراءاتنا لهذا اللون الأدبي من مجرد قراءةٍ أدبيةٍ ممتعةٍ إلى توثيقٍ وتأريخٍ يمكن الالتفات إليه، الانتقاء منه، تفكيكه والبناء عليه. كما يُتاح لنا أيضًا فهم كيف كانت النسويّات يتحرّكن ويُفكّرن ويتعلّمن في السنوات الأولى من تشكّل الوعي النسوي، وكيف تتسع ذواتهنّ وينطلقن من كل ما هو شخصي ليُصبحن جزءًا من همّ جماعي. بالإضافة إلى ذلك، يُتاح لنا الاستفهام عمّا إذا كان الانخراط في بُنيةٍ جماعيةٍ يصبح فقدًا للذات الوليدة، أم يسمح بنحتها أبعد من تصوّراتها المسبقة في سيرورةٍ ممتدةٍ لسفر تكوينٍ من نوعٍ خاص؟

ديناميّات الحماية، الإخفاء والظهور في السيَر الذاتية النسوية

“ككاتبٍ، يجب أن يكون لديك الإرادة القوية والشجاعة المماثلة لشجاعة السير في الطريق العام عاريًا! سيتوجّب عليك في كل مرةٍ تخطّ كلمةً على الورق أن تُعلن الكثير عن ذاتك، بل وستتعلّم كيف تصبح صادقًا في الكتابة عن كل ما لم يُشعرك بالراحة والطمأنينة من قبل، تضعه خارجك، تمشي عاريًا، ثم تودع كل ذلك في كل مرةٍ تقرر الكتابة”. – نيل جايمان

تُذكرنا هذه المقولة للكاتب الإنكليزي نيل جايمان (Neil Gaiman) بمثلّث الكتابة: الصدق، والشجاعة والرؤية بعينٍ مغايرة. لكن هل يمكننا تخيل مشاقّ كتابة سيرةٍ ذاتيةٍ لامرأةٍ أو نسويةٍ في مجتمعاتنا! يذكر الكاتب والأكاديمي العراقي حاتم الصكر (2014)، أن هناك “تناظرٌ بين عودة السيرة الذاتية كجنسٍ أدبي من هامش اهتمامات الكُتّاب والقرّاء إلى مركز اهتمامهم، وبين إسهام المرأة التي هي  جزءٌ من هامشٍ اجتماعي بحكم موقعها وعلاقاتها وعملها والوعي بدورها. فكأنما أصبح التناظر متحققًا عبر الاهتمام بالسيرة الذاتية كتابةً وقراءة، والاهتمام بكتابة السيرة الذاتية النسوية. ولكن المرأة سيكون لها حضورٌ (خاص) داخل الجنس السِيري المُستعاد من الهامش، ينعكس في خصوصية تجربتها ذاتها، المتشكلة تحت وطأة ظروفٍ لا تماثل ظروف تجارب الرجل كاتب السيرة. فهو يكتب في مجتمعٍ ذكوري، ساهم باعتباره رجلًا في صياغة لغته، خطابه، وأعرافه، فيما تكتب المرأة في المجتمع الذكوري ذاته، كصوتٍ هامشي مضغوطٍ أو مقموع، مما يلوّن سيرتها الذاتية بالمزيد من المحذورات والمحظورات والإكراهات التي تعاني منها السيرة الذاتية عامة”.5

ولعلّ أبرز ديناميات المراوغة حول تلك المحظورات المتوقعة هو عدم ذكر الجنس الأدبي على غلاف الكتاب، أو وضع عباراتٍ مثل “أوراق” و”شذرات” و”أعمال غير كاملة” للإشارة دومًا إلى أن ثمّة صندوقٌ لم يُفتح بكلّيته. هذا بالتحديد ما استهلّت به فدوى طوقان سيرتها الذاتية “رحلة جبلية، رحلة صعبة – سيرة ذاتية” (1985) بالقول: “لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كل الخصوصيات. هناك أشياء عزيزة ونفيسة، نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفلة، فلابد من إبقاء الغلالة مسدلة على بعض جوانب هذه الروح صونًا لها من الابتذال. ما كشفت عنه هو الجانب الكفاحي الذي ذكرت قبل قليل. كيف استطعت في حدود ظروفي وقدراتي، أن أتخطى ما كان يستحيل تخطيه لولا الإرادة والرغبة الحقيقية في السعى وراء الأفضل والأحسن، ثمّ إصراري على ان أعطي حياتي معنى وقيمة أفضل مما كان مخططًا لها”.6

حين نقترب من الإنتاج المعرفي كما قدّمته السيَر الذاتية النسوية، يصبح لدينا إرثٌ يجمع بين السرد الذاتي، وتأريخ الحراك النسوي وتقنيّات المراوغة والبقاء التي قادتها النسويات الأولَيات في سياقاتهنّ ليتحرّكن خارج الهوامش الضيقة المفروضة عليهنّ

أما غادة السمّان، فاختارت لسيرتها الذاتية “القبيلة تستجوب القتيلة” المسارَ الإبداعي عبر تخيّل صحافيّين وصحافيّات وهميّين يستجوبونها بشأن كل ما يتعلق بها،7 فكأنها بذلك جمعَت مسافةً كافيةً لتتأرجح بين الطريقة التقليدية القديمة التي يُقسِم فيها الكاتب/ة منذ البداية على أن يكون صادقًا في ما يكتبه من مذكراتٍ ويوميات، والتجريب الذي منحها قدرة العبور نحو الضفة الأخرى حيث هناك دومًا مساحاتٌ لا يمكن الجزم بين الحقيقي والمُتخيل فيها! ولربما تقنية المراوغة تلك تقودنا إلى فهم كتابة السيرة الذاتية كفعلٍ إبداعي، لا كأدبٍ توجيهيّ يتحول تدريجًا إلى كتابٍ مقدسٍ لا يجب المساس به أو الاشتباك معه بالنقد والتحليل.

السيرة الذاتية والذاكرة: ألعاب خِفةٍ ذهنية!

يذكر حاتم الصكر أن كتابة السيرة الذاتية تعتمد على “خلق الماضي”،8 وهذه إشكالية ينبغي أن نتمعّن فيها، فما هو الماضي؟ ومَن ترويه؟ وكيف ترويه؟ تمنحنا اللغة الفرنسية إشارةً مهمةً في هذا الصدد، فمفردة السيرة الذاتية بالفرنسية هي “mémoire”، وهي مشتقةٌ من اللاتينية “memoria”، أي الذاكرة. ما الذي يوجد في الذاكرة البشرية؟ وهل يمكن للمرء أن يتذكر ماضيه؟ أو على نحوٍ أكثر دقة: ما الذي يتذكّره المرء ممّا حدث في زمنٍ مضى؟

تقدّم الباحثة والمعالجة النفسية تارا بينيت-جولمان (Tara Bennett-Goleman) في بحثها المستفيض في علم النفس المعرفي، كيف يتعامل العقل مع كل ما يتعلّق بالذاكرة. وفي كتابها “الخيمياء الوجدانية: كيف يمكن للعقل أن يُشفي القلب؟” (2001)، تشير إلى أن العقل بمثابة أرشيفٍ للملفات التي ينتقيها “اللاوعي”، وهي الملفات ذات الدلالة الانفعالية الأعمق، وتكتسب عمقها الانفعالي من أن صاحب/ة الذكرى لم يكن وقت حدوثها متيقظًا بالقدر الكافي لمعالجة الانفعالات المصاحِبة للتجربة، فتكتّلَت وتعملَقَت داخل اللاوعي كبُركانٍ هائلٍ قابلٍ للانفجار إذا ما ظهر شرخٌ ما يحرّكه. وتتابع جولمان قائلةً إن إعادة زيارة الماضي وترميمه هى أحد مداخل التعافي النفسي من الصدمات، لاسيما تلك المتّسمة بالانفعالية الشديدة التي تتفتّت فيها الذات إلى أجزاء متصارعة. بناءً عليه، يبدأ الطريق إلى الالتئام في جمع أجزاء الذات كلّها تحت ضوء الوعي، ثم إضفاء معنًى مختلفٍ أو جديدٍ على كل ما حدث.9

تضع المؤلفة والمعلّمة والمصوّرة الفوتوغرافية الأميركية، مورين موردوك (Maureen Murdock)، تلك الإشكالية في سياق كتابة السيرة الذاتية النسوية في كتابها “حقيقة لا يمكن تصديقها: السيرة الذاتية والذاكرة” (2003). تقول موردوك: “أتّفق مع طبيعة الذاكرة كونها انتقائيةً متشظية، لكنها في الوقت عينه تحمل إرثًا انفعاليًا هو حقيقة مشاعر الذاكرة. ومن الضروري الاعتراف بتلك المشاعر كجزءٍ أصيلٍ في عملية تشكيل وتطوير الهوية النسوية لاحقًا، بل إن كتابة السيرة الذاتية في جوهرها تحمل شقّ التشافي بالكتابة ذاتها وعبر مراحلها. هنا تظهر قوة كتابة السيرة الذاتية كأداةٍ استعاديةٍ للصوت والسردية التي تود الراوية أن تمنحهما لقصّة حياتها، ما يعيد إليها قوتها المُستلبة”. ثم تستطرد موردوك في موضعٍ آخر من الكتاب نفسه قائلة: “هناك دومًا الاحتياج الإنساني للتواصل، ومن خلال تتبّعي آثار كتابة السيَر الذاتية للنساء، أرى تطورًا تاريخيًا  وتقدمًا في قدرة النساء على التعبير بأصواتهنّ الحقيقية عمّا يمثّل أهميةً لهنّ على مرّ العصور، وفي ذلك انعتاقٌ هائل”.10

كيف ستبدو السيَر الذاتية النسوية المعاصرة؟

تختلف باتريشيا فوستر مع رؤية بعض النقاد أن كتابة السيَر الذاتية هو جنسٌ أدبي في طريقه إلى الأفول بنسيجه القديم، وأنه أدبٌ ميتٌ أو مغامرةُ الكاتب/ة لتأبين نفسه/ا. في هذا الصدد، تقول: “في عصورٍ سابقة،  كانت الرواية والشّعر رافدَي الأدب اللذان يخبران عن القصة التي لم تروَ، يُخبر الكاتب/ة من خلالهما عن هويته/ها وعمّا يصبو إليه في العالم، وهذا ما تفعله بدقةٍ تامةٍ مقالاتُ السيرة الذاتية بصِفتها المعاصرة”. وتضيف فوستر: “هناك نوعٌ من مقالات السيرة الذاتية يحمل في جوهر سطوره قلبًا ذكيًا قادرًا على تحريك أفكار ومشاعر القرّاء، بل وإفساح المجال أمامهم/ن لفهم سياقاتٍ ثقافيةٍ مرتبطةٍ بالعصر الحالي”. وترى الكاتبة أن جوهر الثقافة المعاصرة كما يعبّر عنها الأدبُ بجميع أشكاله يكمن في “قدرته على مساعدة المرء في إيجاد موضعٍ لذاته وسط عالمٍ شديد التغيّر والتحوّل، فلا يرتبك ولا تُصاب هويته الفردانية بالتهديد والصراع المتكرّر بسبب ما يحدث حوله في العالم من تحولاتٍ مستمرة”. وتعتبر فوستر أن “السيَر الذاتية النسوية تقدّم سرديةً تتجاوز السائد، وتتيح رؤية ما يقبع في الهامش الذي لطالما نُبذ وأُلحق به الخزي والعار، كأنها اشتهاءٌ روحاني لكل ما لم يُسمع صوته عبر الأزمنة، وتوقٌ للوصل والفهم والاقتراب والبوح”.11

تطوّر الجنس الأدبي للسيرة الذاتية على نحوٍ أكثر مُعاصَرة، سيحتفظ بالسّمة القديمة لهذا النوع ألا وهي الرغبة في تتبّع مسار امرأةٍ بطلةٍ استطاعَت التغلّب على العقبات والتحدّيات التي واجهتها في زمنهاأميل إلى الاعتقاد بأنّ تطوّر الجنس الأدبي للسيرة الذاتية على نحوٍ أكثر مُعاصَرة، سيحتفظ بالسّمة القديمة لهذا النوع ألا وهي الرغبة في تتبّع مسار امرأةٍ  بطلةٍ استطاعَت التغلّب على العقبات والتحدّيات التي واجهتها في زمنها، كأننا نقترب من توثيق رحلة بطل/ةٍ ما كما عرَضها جوزيف كامبل (Joseph Campbell) في كتابه “البطل بألف وجه”. من ناحيةٍ أخرى، ولأن واقعنا المعاصر يفرض أيضًا إشكالياتٍ كثيرةً بشأن مفهوم “البطل/ة” كمُخلّص/ة، أرى أنّ الوقت حان لنتخلّص من القالب القديم المتهالك الذي يُحيل فعل قراءة السيرة الذاتية إلى فعل سلطةٍ خفيةٍ بين الكاتبة والقارئة، وأن يتحرّر نصّ السيرة الذاتية النسوية من سِمات الأدب التوجيهي، أي أدب النصائح المُعلبة الذي يصنع دينامية سلطةٍ بين الكاتب والقارئ، فيظهر الكاتب بصفته الطرف الأكثر فهمًا ومعرفة، يتكلّم كحكيمٍ ويسرد كنبيّ. وقد يتحوّل النص كما وصفه فيليب لوجون (Philippe Lejeune) إلى نصٍ علائقي يبني علاقةً بين الكاتبة والقارئة، علاقة تجد طريقها بين امرأةٍ تختار أن تشارك نورها وعتمتها مع أخرياتٍ عابراتٍ للزمان والمكان. لكن وجودنا في استلاب السلطة وأطرافها وطبقاتها المتشابكة يجعل قراءة تلك السيَر بمثابة نوافذ على طرقات الحياة، تستقبلنا، تفتح لنا ذراعيها، تمنحنا علاماتٍ استرشاديةً لبعض الوقت وتتركنا نشتبك مع بعضه الآخر. نبتسم حين نجد الفجوات التي حجبَتها الكاتبة. تتشكّل بيننا رابطةٌ سرّية. وأيّ رابطةٍ يمكن أن نراهن عليها إذا ما أتت من مشاركة يوميّات الحياة وتفاصيلها ودقائقها، بما في ذلك لحظات الهشاشة الكبرى ولحظات التحقّق الغامرة؟ لربّما كان هذا هو الاتصال الذي نبحث عنه؛ أن نتّصل حين ترى إحدانا انعكاسَها في عين الأخرى من دون أن تفقد ذاتها، فتسمح للتقاطع بالحدوث وتستكمل مسارها وفقًا لإيقاعها، لترويَ هي أيضًا سيرتها الذاتية لامرأةٍ عاديةٍ أخرى.


  * هذا النص جزءٌ من سلسلة مقالات بعنوان “الأدب النسوي: أداة إبداعٍ ومقاومةٍ وتحرّر”، وهي عبارة عن مجموعة نصوصٍ تحمل إشاراتٍ للكشف والتبصّر في الذات الكاتبة لدى النساء وما يواجهن من تحدياتٍ من السلطة بأشكالها المُعلنة والمبطّنة. تُتضمّن كل مقالةٍ معارف متنوعةً من علم النفس المعرفي لاسيما علم نفس الإبداع، الأنثروبولوجيا اللغوية، الدراسات الثقافية، النظرية النقدية والتقاطعية النسويّة، مرفودةً بمُقارباتٍ من الثقافة العربية المعاصرة بُغية التعرّف إلى مفهوم البيئة الآمنة للنساء المبدعات، لاسيما في مجال الكتابة.

 

في سلسلة “الأدب النسوي: أداة إبداعٍ ومقاومةٍ وتحرّر”:

  • Patricia Foster, “Just Beneath My Skin: Autobiography and Self-Discovery”, Athens, GA, University of Georgia Press, 2004, p. 76 and p. 82.
  • 2.Helen M. Bannan, “Writing and Reading Memoir as Consciousness-Raising: If Personal is Political, Is the Memoir Feminist?”, Feminist Collections, Volume 26, No. 2-3, Winter-Spring 2005, pp. 1-4.
  • 3.عز الدين إسماعيل، “التفسير النفسي للأدب”، القاهرة، مكتبة غريب، 1984، ص 24.
  • 4.Anne Else, “On Shifting Ground: Self- narrative, feminist theory and writing practice”, PhD thesis, New Zealand, Victoria University of Wellington, 2006, p. 1 . Available at: https://core.ac.uk/download/pdf/41335646.pdf. Retrieved on Sept. 15, 2021.
  • 5.حاتم الصكر، “البوح والترميز القهري: دراسات في كتابة السير الذاتية”، سلسلة إبداع عربي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2014، ص 13.
  • 6.فدوى طوقان، “رحلة جبليّة، رحلة صعبة”، الأردن، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1985.
  • 7.غادة السمّان، “القبيلة تستجوب القتيلة، بيروت، منشورات غادة السمّان، 1981.
  • 8.حاتم الصكر، “أقنعة السيرة وتجلّياتها”، عمان، دار أزمنة للنشر، 2017.
  • 9.Tara Bennett-Goleman, “Emotional Alchemy: How the Mind Can Heal the Heart”, New York, Harmony Books, 2001, pp. 324-340.
  • 10.Maureen Murdock, “Unreliable Truth: On Memoir And Memory”, New York, Seal Press, 2003, pp. 24-83.
  • 11.Patricia Foster, “Just Beneath My Skin: Autobiography And Self-Discovery”, Athens, University of Georgia Press, 2004, pp. 83-109.
شاركنَ المنشور