“برشام! .. إنت بتقول إيه؟ لا طبعًا”. فاجأَني صديقي إسلام بهذا الردّ السريع والقاطع حينما سألتُه عن إمكانية تناوله عقاقير منع الحمل بدلًا من تناول زوجته عقاقير الهرمونات الأنثوية. دُهش بداية، ورفض التفكير في المسألة ظنًّا منه أنها ترتبط بنشاطه الجنسي وتؤثّر سلبًا على قدراته.
وسائل منع الحمل حاضرًا وتاريخًا
لعقودٍ طويلة، اقتصر استخدام وسائل منع الحمل على النساء حصرًا، وتنوّعَت هذه الوسائل بين تناول العقاقير الهرمونية الأنثوية، أو الخضوع لعلاجٍ بالحقن الهرمونية، أو وضع اللولب المعدني. لكن سادَت في العصور القديمة طرقٌ عدّة، مثل زيادة حرارة خصيتَي الرجل بهدف تقليل الخصوبة، وهي وسيلة كانت شائعة لدى اليونانيّين القدامى. وبالفعل، اتضح أن هذه الطريقة كانت ذات فاعلية، إذ وجدَت دراسةٌ أن زيادة حرارة الخصيتَين ببضع درجاتٍ يمكن أن يقلّل عدد الحيوانات المنوية القادرة على الوصول إلى البويضة. ففي عام 1956، اكتشفَت الطبيبة السويسرية مارث فويجيلي (Marthe Voegeli) أن جلوس الرجال في حمّامٍ ساخنٍ بدرجة حرارةٍ تبلغ 46.6 درجة مئوية (116 درجة فهرنهايت) لمدة 45 دقيقة يوميًا ولمدة ثلاثة أسابيع يصيبهم بالعقم لنحو ستة أشهر، ثم تعود الخصية إلى حالتها الطبيعية بعد ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الحلّ غير مكلف، ولم تظهر له أعراضٌ جانبية، لكنه غير شائعٍ ولا يرشحه الأطباء لعدم وجود أدلة علمية على فاعليته.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، ففي عام 1968، قادت الصدفة طبيبٌ نفسي إلى اكتشاف تأثير دواء الثيوريدازين الذي يعالج الفصام على الخصوبة، إذ اشتكى أحد مرضاه من تأثير الدواء على نشاطه الجنسي، مشيرًا إلى أن هزّاته الجنسية أضحَت جافّة، أي أنه كان يشعر بالنشوة الجنسية لكن من دون خروج سائلٍ منوي. ودفع هذا ببعض الباحثين للبحث في إمكانية إنتاج حبوب منع حملٍ للرجال، فاكتشَفوا دواءً آخر، هو فينوكسي بنزامين الذي يُستخدم لمعالجة ضغط الدم، ويحدُّ من القذف بالطريقة نفسها. لكنّ تلك الحبوب واجهَت مشكلةً عويصة، إذ أفقدَت الرجال جزءًا من النشوة التي يبلغونها مع إفراز السائل المنوي.
منذ أكثر من قرن، واجهَت الناشطة النسوية الأميركية، مارغريت سانغر (Margaret Sanger)، هجومًا شديدًا من السلطات والقوى الأمنية بسبب ترويجها معلوماتٍ تساعد النساء على تجنّب الحمل وتعزّز قدرتهنّ على تنظيم الأسرة، بعدما قضَين عقودًا يتضرّرن من كثرة الإنجاب أو الإجهاض.
لعقودٍ طويلة، اقتصر استخدام وسائل منع الحمل على النساء حصرًا، وتنوّعَت هذه الوسائل بين تناول العقاقير الهرمونية الأنثوية، أو الخضوع لعلاجٍ بالحقن الهرمونية، أو وضع اللولب المعدني
نشرَت سانغر في عام 1914 سلسلة مقالاتٍ عن صحّة النساء وسُبل منع الحمل، وقوبلَت أفكارها برفضٍ تامّ ونقدٍ حادٍّ. كما واجهَت اتهاماتٍ بانتهاكها قانون “كومستوك” الصادر في عام 1873، الذي يجرِّم الترويج لمعلوماتٍ أو لوسائل تنظيم الحمل والإجهاض في الولايات المتّحدة. لكنّ شرارة الحراك الشعبي التي أطلقَتها الناشطة النسوية المذكورة، دفعَت بالولايات المتّحدة إلى إلغاء قانون “كومستوك” بعد خمسة عقود، وإطلاق يد الأطباء لصناعة عقاقير طبّيةٍ تمنع الحمل. وعلى الرغم من أن هذه الجهود أعطَت النساء الحقّ – إن جاز التعبير – في تقرير مسألة الإنجاب أو عدمه، إلا أنها ألقَت على عاتقهنّ أعباءً جسديةً ونفسيةً عدّة.
لكن ماذا لو توفّر دواءٌ جديدٌ يشرك الرجال في عملية منع الحمل، هل يقبلون استخدامه؟ بالفعل، وجد باحثون حبوبًا هرمونيةً تحدّ من نشاط الحيوانات المنوية مقابل آثارٍ جانبيةّ أقلّ حدّةً من الهرمونات الأنثوية. وبحسب دراسةٍ نشرَتها مجلّة “ناتشر” (Nature)، فإنّ الحبوب الجديدة التي جُرِّبت على الفئران، تجعل الحيوانات المنوية خاملةً لمدّة ساعتَين بعد القذف في الرحم، وتجعل المستخدِم غير قادرٍ على الإنجاب مؤقتًا. تُعدُّ هذه الأبحاث مُبشّرة، لكنّها لا تزال تحتاج إلى فترةٍ طويلةٍ من البحث والتطوير قبل نيل الموافقة اللازمة للاستخدام البشري.
مشاركةٌ على مضض
في جلسةٍ ودّيةٍ ضمّت أربعة أصدقاءٍ من ضمنهم ثلاثة تزوّجوا حديثًا، بدأتُ الحديث بشكلٍ مواربٍ عن الطرق التي يتبعها كلٌّ منهم لتجنّب الحمل، وضرورة نقل تجاربهم إلى الأصدقاء في مواجهة الظروف الاقتصادية العصيبة التي يمرّ بها المصريّون راهنًا.
يقول عمر، (32 عامًا): “تعتمد زوجتي على اللولب النحاسي، وقد وضعَته في وحدةٍ صحّيةٍ قريبةٍ من المنزل بسبب انخفاض تكلفته، فقد وصلَت إلى 25 جنيهًا بالمقارنة مع 400 إلى ألف جنيهٍ فيما لو وضعَت اللولب نفسه في عيادةٍ خاصّة”. في الواقع، كان اللولب الملاذ الآمن، لكنّ زوجته أصيبَت بالتهاباتٍ في المهبل وعانت مضاعفاتٍ أثّرَت على علاقتهما الجنسية، إذ كانت تُصاب بالأذى في أثناء الإيلاج وعقب كلّ علاقةٍ حميمية. ويضيف عمر: “تأثرتُ بشدّةٍ بالأضرار التي لحقَت بزوجتي، لكن في الوقت نفسه لا أستطيع الخضوع لأيّ عمليةٍ جراحية، أو حتى تناول عقاقير لمنع الحمل لأنها قد تؤثّر على صحّتي بشكلٍ عام، وصحّتي الجنسية بشكلٍ خاص”.
أما بالنسبة لأحمد (31 عامًا)، فاتفق مع زوجته قبل الزواج على تأجيل الإنجاب في العام الأول من أجل تدبير احتياجاتهما المادية والتأقلم مع الحياة الزوجية ومسؤولياتها. ويقول: “اتفقنا قبل الزواج على اعتماد وسيلتَين لمنع الحمل، الأولى كانت أن أستخدم أنا واقيًا ذكريًا، لكنّ سعر العلبة 45 جنيهًا وتحتوي على 3 واقياتٍ فقط، والثانية أن تتناول زوجتي حبوب منع الحمل حتى نضمن الحماية الكاملة”.
أسوةً بعمر، رفض أحمد فكرة طرح عقاقير هرمونية ذكرية من شأنها التأثير على الحيوانات المنوية حتى لو كان ذلك يقتصر على تجميد أو إخمال نشاطها، فالأمر بالنسبة إليه قد يؤثّر على نشاطه الجنسي في ما بعد، أو قد يُفقده قدرته على الإنجاب. وفي النتيجة، انحاز إلى القذف الخارجي بالإضافة إلى إيقاف زوجته تناول الأدوية الهرمونية.
الخوف على القدرة الجنسية
حتى الآن، ليس لدى الذكور إلّا ثلاث طرقٍ آمنةٍ وفعّالةٍ لاستخدام وسائل منع الحمل: الأولى هي الواقيات الذكرية التي تمنع الحمل بنسبة 98% إذا ما استُخدِمت بشكلٍ صحيح؛ والثانية هي الخضوع لعملية تنظير القناة الدافقة، التي تُعتبر فعّالةً بنسبة 99% في وقف خروج الحيوانات المنوية، لكنّ أثرها دائم؛ والثالثة هي القذف خارج الرحم. ويُضاف إلى تلك الطرق الدواءُ المذكور أعلاه المُكتشف حديثًا، والذي يعمل على شلّ حركة الحيوانات المنوية بعد القذف داخل الرحم، لكنّه لا يزال قيد الدراسة.
أسباب رفض العقاقير الهرمونية الذكرية مُتعدّدة. يفسّر استشاريّ الطب النفسي ياسر يسري في مقابلةٍ مع “جيم” الأمر بقوله إنّ “طبيعة الرجل لا تمنعه من مشاركة المرأة في تحمّل مسؤولية الإنجاب، وهذا ما يحدث فعلًا عبر القذف الخارجي أو استخدام الواقي الذكري. أمّا استخدام الوسائل الأخرى مثل العقاقير التي تؤثّر على الخصوبة، فمرفوضٌ لدى معظم الرجال لأنّ ثمّة اعتقاد بأنّها تصيب قدرتهم الجنسية أو الإنجابية مستقبلًا”. ويضيف يسري أن “سبب رفض الرجال التعقيم الجراحي يعود إلى اعتقاد البعض أنه سوف يؤثّر على القدرة الجنسية أو هرمون الذكورة، إذ يُخيّل للرجل أن العملية ستقضي على قدراته الجنسية. والرجل عمومًا يشعر بالإحباط إذا ما شعر بعجزه عن الإنجاب، حتى إن كان الأمر بإرادته”.
طبيعة الرجل لا تمنعه من مشاركة المرأة في تحمّل مسؤولية الإنجاب، وهذا ما يحدث فعلًا عبر القذف الخارجي أو استخدام الواقي الذكري. أمّا استخدام الوسائل الأخرى مثل العقاقير التي تؤثّر على الخصوبة، فمرفوضٌ لدى معظم الرجال
من جهتها، تقول نورهان بدر في مقابلةٍ مع “جيم”، وهي مديرة مشروع الحبّ ثقافة الذي يعمل على التوعية بالصحّة الإنجابية والجنسية في مصر: “هذا الدواء يمثّل خطوةً إيجابية، وقد يطرح قريبًا إذا لم تظهر له أيّ أعراضٍ جانبيةٍ على ذكور الفئران، ونجح في نيل موافقات استخدامه”. وتضيف بدر: “قد يلقى العقار قبولًا حال التصريح بترويجه ووصوله إلى مصر، لكن قد تقف الأفكار المحمولة عن مسؤولية الحمل عائقًا أمامه، إذ يعتقد غالبية الرجال أن الحمل هو مسؤولية المرأة وحدها. في حين يجدر بالنساء أن يتخوّفن من تناول العقاقير أو الحقن الهرمونية أو استخدام اللولب المعدني، بسبب التغيّرات التي قد يتعرّضن لها”.
الطريق إلى حبوب منع حملٍ للذكور من وجهة نظرٍ نسوية
لا تختلف كثيرًا النظرة الذكورية حيال استخدام وسائل منع الحمل من بلدٍ إلى آخر، وإن تفاوتَت درجاتها. وتعزّز ذلك توجّهاتُ السوق، إذ في عملية تطوير وسائل منع الحمل وتسويقها، تنطلق معظم الشركات من فرضيةٍ مفادها أنّ مسؤولية الحمل ومنعه ملقاةٌ على عاتق النساء.
منذ عقودٍ تعمل الحكومة المصرية على طرح مبادراتٍ عديدةٍ لتنظيم الأسرة، لاسيّما وسائل منع الحمل، بهدف مكافحة الزيادة السكانية. وجلّ تلك الخدمات يُقدم للنساء، مثل تركيب اللولب، وبيع الواقيات الذكريّة وحبوب منع الحمل الهرمونية، وكلّه بأسعارٍ مخفّضةٍ مقارنةً بالعيادات والمستشفيات الخاصة.
لكنّ الإعلانات التي تنشرها الشركات الخاصّة والحكومة تُلقي بالمسؤولية على عاتق النساء، ومن أشهرها إعلان السّت شلبية في ثمانينات القرن الفائت، الذي توجّه للمرأة تحديدًا ليُخبرها عن معاناتها في رعاية عددٍ كبيرٍ من الأطفال. واستمرّ الأمر على هذا المنوال لردحٍ من الزمن قبل أن يتطوّر تدريجًا وتظهر حملاتٌ تخاطب الرجل لتحثّه على مشاركة المرأة مسؤولية تنظيم الأسرة، لكن من منطلقٍ اقتصاديّ يُحاكي دوره الجندري النمطي وفقًا للمنظور السائد.
الإعلانات التي تنشرها الشركات الخاصّة والحكومة تُلقي بالمسؤولية على عاتق النساء، ومن أشهرها إعلان السّت شلبية في ثمانينات القرن الفائت
تفسّر الناقدة والباحثة النسوية، علياء طلعت، في مقابلةٍ مع “جيم” سببَ تأخّر الوصول إلى حبوب منع حملٍ آمنةٍ للذكور، بأنّ الأبحاث لم تتعامل مع هذا الاحتمال بشكلٍ جدّي لأن الإنجاب ومنعه هي كلها أمورٌ يفترض النظام الأبوي أنها تتعلّق بأجساد النساء فقط. وتقول: “يتم تحميل المرأة أعباءً إضافيةً سواء لناحية تحمّل التقلّبات الهرمونية، أو وضع أجهزةٍ داخل جسدها مثل اللولب من دون أيّ غضاضة، لأنّ الأبوية تفترض أن دور الرجل في الإنجاب يقتصر على العملية الجنسية فقط، والتي تحدث من أجل إسعاده”. وأبدَت طلعت دهشتها من تأخّر الأبحاث العلمية للخروج بحبوب تنظيم النسل للذكور أسوةً بالإناث، لاسيّما أنّ العلم توصّل إلى أدويةٍ للنساء قبل أكثر من 80 عامًا ثم وقف عاجزًا أمام الوصول إلى أدويةٍ للرجال! وأضافَت: “لقد أعفى النظام الأبوي أجسادَ الرجال من المشاركة في منع الحمل. وقياسًا على تجارب من دوائر اجتماعية، واطّلاعي على أوراقٍ علميةٍ وحديثي مع طبيبات، فإنّ استخدام الواقيات الذكرية يكون بهدف حماية الرجال في العلاقات غير الآمنة أكثر من إشراكهم في منع الحمل الذي يُعدُّ مسؤولية النساء”.
وعن موعد طرح عقاقير منع الحمل الذكرية، قالت طلعت: “عندما تعتقد الشركات التجارية أنها ستجد سوقًا لها، سيتم الترويج لتلك العقاقير وللأفكار النسوية خلفها، على الرغم من أن النسوية تقف ضدّ هذه الشركات، فالرأسمالية تستخدم مختلف الأفكار والمعتقدات والتطلّعات من أجل تسويق منتجاتها وجني الأرباح فحسب، لا اقتناعًا بهذه الأفكار”.
قد يجد الرجالُ الأمرَ غريبًا ومستهجنًا في البداية، لاسيّما في مجتمعاتنا العربية، وتحديدًا إذا ما تعلّق بالخصوبة والعلاقة الجنسية. لكن ربّما إن خرجَت مستقبلًا أبحاثٌ موثوقةٌ تطرح حبوبَ منع حملٍ للرجال تماثل نظيرتها الأنثوية، قد يتقبّلها الرجال تدريجًا.