لبنان، سوريا والعراق: كيف تقود النساء معركتهنّ ضدّ التغييب القسري؟

زينب ترحيني| جيم

“سألَني المعالج مرّةً عمّا أرجوه من جلسات العلاج النفسي. أجبتُ بأنّ الأمثل بالنسبة لي هو التمكّن من التعايش مع ألمي؛ أن أحقّق نوعًا من المساومة معه. تابع وسألني: لماذا لا أرغب في هزيمته؟ كانت الفكرة مخيفةً بالنسبة لي؛ هزيمة الألم تعني غيابه. فهل تختفي دوافعي مع اختفاء الألم؟ هل سأتوقّف عن فعل ما يلزم من أجل الوصول إلى أبي؟

في فترةٍ لاحقة، انتبهتُ إلى أنّ الدافعَين المحرّكَين لي في هذه المعركة هما الإحساس بالذنب والألم. والدي مسجونٌ وأنا غير قادرةٍ على إنقاذه، وهذا يُشعرني بالذنب. أمّا الألم، فأشعر بقدرته على هزيمتي في اللحظات التي يكون فيها شديدًا. مؤتمر بروكسل الأخير،1 كان تجربةً قاسيةً شعرتُ خلالها بالتهديد. شعرتُ بأنّ أبي غير مرئي في هذا المكان، لم أسمع كلمةً واحدةً عن المعتقلين. شعوري بلا مرئيّة والدي هدَّد وجودي. ما أريد قوله هو أن حياتي بكاملها تتمحور حول هذا الشعور بالألم، وحول علاقتي مع الغياب، وهذا مخيف”.

     ــ وفا مصطفى، ابنة المخفي قسرًا في سوريا، علي مصطفى

في الثاني من شهر تموز/يوليو من عام 2013، اختُطف علي مصطفى من منزله في العاصمة السورية دمشق. في يوم الاختطاف، كان مصطفى وحيدًا في المنزل، بانتظار وصول زوجته. قبل وصولها، ونقلًا عن شهود عيان، حضر في حوالي الساعة العاشرة صباحًا عناصرُ بزيّ مدنيّ – يُعتقد أنهم ينتمون إلى قواتٍ تابعةٍ للنظام السوري، لا سيّما أنّ المنزل واقعٌ في حيّ المهاجرين بالقرب من قصر الرئيس السوري بشّار الأسد – واختطفوه إلى مكانٍ غير معلومٍ حتى الآن. مرّت عشر سنواتٍ على حادثة الاختطاف، ولم تتلقّ العائلة معلومةً واحدةً جدِّيةً بشأن مصيره أو مكان وجوده.

منذ فترة، تلقّت العائلة وثيقة “رسمية” تُفيد بوفاة مصطفى. ولكن بعد التحقّق من دقّتها، تبيّن أنها لا تتطابق مع هذا النوع من الوثائق الرسمية. ومنذ تاريخ الخطف، صارت حياة ابنته البكر، وفا، معركةً مستمرّةً عنوانها اقتفاء الأثر، ولا شيء ممّا تعيشه يدور حولها أو يُمثّل الحياة التي تخيّلَتها لنفسها. أكثر من ساعتَين من الحديث، لم تستخدم خلالها، ولو لمرّةٍ واحدة، كلمة “حياتي” بل استبدلَتها بـ “هذه الحياة” بوعيٍ تامّ؛ هذه الحياة التي تعيشها هي انشغالٌ مستمرٌّ بفكرة غياب الأب. كلّ فعلٍ آخر تراه ترفًا. وكلّ محاولةٍ لتغيير هذا الواقع تبوء بالفشل. مهمّتها الوحيدة في هذه الحياة هي إنقاذ والدها؛ حياته على المحكّ، ويجب إنقاذه، أو على الأقلّ المحاولة.

بحسب ما تُفيد الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يوجد 154,398 شخصًا ما زالوا قيد الاعتقال في سوريا، من بينهم 111,907 حالات إخفاء قسري (حتى شهر آب/أغسطس 2022). هذا الرقم يجعل من سوريا “أحد السياقات التي بها أكبر عددٍ من الأشخاص المعتقلين والمختطفين والمفقودين على مستوى العالم”، حسب بيانٍ للمبعوث الخاص للأمم المتحدة لسوريا غير بيدرسن (Geir Pedersen). وكانت الحكومة السورية أعلنَت، في عام 2018، إصدار شهادات وفاةٍ لمئات المعتقلين، ليتبيّن في وقتٍ لاحقٍ أنّ بعضهم لا يزال على قيد الحياة. ويجعل هذا من عملية البحث والتأكّد من المعلومات الواردة ومدى صدقية مصدرها أمرًا شديد التعقيد.

************

“مهما حاولنا ترويض الأسى، ومهما ناقشنا المسائل مع ذواتنا وحاولنا إقناعها، ثمّة لحظات سوف يخرج فيها الأسى من دون إذن، وأي محاولةٍ للتحكّم به سوف تبوء بالفشل. مهما حاولتُ التعامل بعاديّةٍ مع كثيرٍ من الأحداث، ثمّة أشياء تفرض نفسها، أشياء مُحمّلة بالذكريات والمشاعر: ذكرى الاختطاف، ذكرى الميلاد… هكذا في لحظةٍ يُمكن أن تتحوّلي إلى كتلة مشاعر. العواطف أشياء لا يُمكن تمرينها ولا تنظيمها. تعتقدين أنك قادرةً على التخطّي وعلى ممارسة حياةٍ عادية، لكنك لا تدرين متى وأين وكيف تتورّطين؛ تنزلقين في غفلةٍ منك وتكتشفين ضعفك من جديد. كلّ هذا قد يخرج في لحظة. عند ولادة أول حفيدٍ لي، غمرني الفرح. وفي اللحظة نفسها، اختنقت. تساءلتُ لماذا عدنان ليس معنا؟ ما الذي فعلَه كي يُحرم ونُحرم منه؟ يوجد أشياء لا يُمكن ضبطها. لا مفتاح ولا دليل استعمال لها.

هذه المشاعر المتناقضة، بكليّتها، هي أساس الاستمرار في البحث على الرغم من مرور السنين. تلك العلاقة الخاصّة، العاطفية، هي المحرّك الأوّل والأساسي للاستمرار، وأيضًا للصبر”.

     ــ وداد حلواني، زوجة المخفي قسرًا في لبنان، عدنان حلواني

معروفة وداد حلواني، وكذلك زوجها عدنان. في 24 أيلول/سبتمبر من العام 1982، في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، خُطف الرجل من بيته، أمام زوجته وولدَيه. حضر إلى البيت أفرادٌ بزيّ مدنيّ، أظهروا بطاقاتٍ تُفيد بأنهم عناصر تابعين للدولة اللبنانية. وجّهوا مسدّسَين إلى رأس عدنان، وأخذوه معهم. أخبروا وداد أنهم بحاجةٍ للتحقيق مع عدنان – لمدةٍ لا تتجاوز خمس دقائق – في شأن حادث سيارة. طمأَن عدنان زوجته، ورافقهم. 41 عامًا مرَّ ولم يعُد. تجزم وداد في مقابلاتٍ إعلاميةٍ عديدةٍ معرفتها بالجهة الخاطفة: المخابرات اللبنانية. وفي مرحلةٍ سياسيةٍ أخرى، وفي معلوماتٍ شبه مؤكّدة، تمّ تسليم عدنان إلى إحدى ميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية. مشوار وداد للبحث عنه جعلَها تكتشف المئات ثمّ الآلاف مثل عدنان. سقطَت الفردانية عن مشوارها، وصارَت المعركة جماعيةً اسمها “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان”.

“هذه ليست سيّارة مسروقة أو بيت مهدوم… هذا بني آدم من لحم ودم، لنا معه قصصٌ وذكرياتٌ وعلاقةٌ محمّلةٌ بالمشاعر”، تقول وداد. حلقةٌ لا متناهيةٌ من الضحايا، تبدأ بالشخص المفقود، وتتمدّد كشجرةٍ ضاربة الجذور بضحاياها غير المباشرين. غالبية هؤلاء من النساء اللواتي يعشنَ تجربةً واحدة: ينتظرنَ، يأملنَ، يخضنَ معركة لم يخترنَها، يتذكّرنَ ويُحاولنَ العيش. تجربةٌ واحدةٌ بقسوتها، ومُتعدّدةٌ في أدواتها. تسرد وداد كيف حُرمَت لفترةٍ طويلةٍ من مساحةٍ يُمكنها البكاء فيها. الانتظار قاتلٌ والحِمل كبير.

تصل أعداد المخطوفين والمغيّبين في خلال فترة الحرب الأهلية في لبنان إلى 17 ألف مفقود. بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2018، وبعد معركةٍ خاضها أهالي المفقودين لسنواتٍ طويلة، صدّق مجلس النواب اللبناني على قانون “المفقودين والمخفيّين قسرًا”. في ذلك اليوم، رأى الإعلام للمرّة الأولى دموع وداد حلواني التي كانت حاضرةً في مجلس النوّاب إلى جانب الصحافيّين والصحافيّات. خطوةٌ كرّسَت، بعد سنين من العذاب والقهر، حقّ الأهالي الأساسي في معرفة مصير أحبّائهم، ولو أنّ القانون بحكم المغيّب حاليًا.

************

“انفصلتُ عن زوجي في سنٍّ مُبكرة، ورفضتُ الزواج ثانيةً خوفًا من خسارة الحقّ في حضانة ابني، على الرغم من خسارتي الفعليّة له. لكنّي أملتُ استعادته. عشتُ على فكرة حضوره، وتخيّلته يكبر ويصير شابًا. لطالما نصحَتني أمي بأن أتزوَّج، ورفضتُ. تركَّزَت أحلامي على ابني الوحيد. أرادَت لي أمِّي أن أتزوَّج كي تُبعد عنّي الوحدة في وقتٍ لاحق، لكن أنا كنتُ مطمئّنة: ابني سيكون إلى جانبي.

الفقد كبيرٌ وقاسٍ. ساعدني وقوفي إلى جانب النساء من عائلات المخفيّين في تفريغ بعضٍ من حمولة الفقد الذي يبتلعني تباعًا. يصفُني كثيرون بالمرأة الصدامية، الغاضبة والمنفعلة. يقولون “لو كنتِ أكثر هدوءًا لربّما أتت النتائجُ أفضل”. لكنّ هذا أسلوبي وهذه طريقتي، وما في داخلي من مشاعر غضبٍ تجاه كلّ مسؤولٍ عمّا أعيشه وتعيشه عائلاتٌ كثيرةٌ في العراق، أحتاج إلى تحريره بطريقةٍ ما.

أذكر أنَّنا نظَّمنا مرّةً وقفةً أمام القائمقامية في الأنبار بالعراق. منع الخجل والخوف والعادات الاجتماعية الكثير من النساء من المشاركة. طلبنا ممّن استطعن المشاركة التزام الهدوء والسيطرة على مشاعرهنّ، فلربّما يصل صوتهنّ بشكلٍ أفضل إلى الإعلام. مع وصول أعضاء مركز المحافظة، فقدَت النساء السيطرة وبدأن بالصراخ وتوجيه الاتهامات، انفعلنَ ورفضنَ أيّ تعويضٍ آخر غير أحبائهنّ حتى ولو كانوا أمواتًا. حصل ما لم نخطّط له. خرجَت المشاعر حرّةً، طليقةً وصادقة. أثار هذا الغضبُ الضجّةَ اللازمة. المشاعر لا تُرسم على الورق. يوجد في داخلنا أشياء لا تعبِّر عنها الكلمات، كثيفةٌ بحجم الكون. أسمع في كثيرٍ من الأحيان عباراتٍ مثل “أنتِ يا وداد بهذا العمر ماذا تفعلين؟ تعلّمي الاستماع أكثر من الصراخ”؛ وأنا صدقًا لا أعرف كيف سوف ينتهي بنا الطريق، ولكن أنا أتمنّى… ومقتنعة بأنّ الأجيال القادمة هي أملنا في الاستمرار”.

     ــ وداد حمّادي, والدة وسام، أحد المخفيّين قسرًا في العراق

لا تعود وداد بالتفاصيل إلى حادثة اختفاء ابنها، ولا تذكر آخر ما وصلَها منه أو عنه. طوال مدة الحديث معها، لا تلفظ اسمه. الألم كبيرٌ وهي تعلم؛ خسرَت وداد حضانة ابنها عندما كان عمره تسعة شهور. لم ترَه من جديدٍ حتى بلغ العاشرة؛ وجدَته أمها متروكًا أمام بوابة المنزل. عاش سنةً واحدةً مع وداد، قبل أن يخرج وحده ومن دون إعلام أحد، ويعود إلى بابل حيث يعيش أهل والده. منذ ذلك الحين لم تتمكّن من رؤية ابنها من جديد. في عام 2006، وفي خضم الأحداث الطائفية في العراق، تلقّت اتصالًا من ابن عمّة ابنها، يسألها فيه عن وسام: “خالة، وسام آتٍ من بابل إلى بغداد، ألَم يأتِ لزيارتكم؟”. اختفى وسام في منطقةٍ فاصلةٍ بين بابل وبغداد، اسمها منطقة اللطيفيّة.2 تملك وداد صورةً واحدةً لابنها – صورة قديمة – لا تُساعدها كثيرًا في البحث عنه: “أنا أبحث عن شيءٍ لا أعرفه”. لا تملك أوراقًا رسميةً ولا صورًا، ولا هي تعرف شكله أصلًا؛ سألها أحد العناصر الأمنية مرّةً “كيف تريدين منّي مساعدتك وأنتِ لا تملكين شيئًا؟”. تعبّر بيُسرٍ عن شعورها بالظلم والحزن والفقد، وتحكي بسلاسةٍ عن قتل حلمها برؤية ابنها يكبر إلى جانبها. لكنها لا تحكِ كثيرًا عنه، وبلهجتها العراقية تقول: “أحسّ صدق مو من حقّي أحكي. أنا أتهرّب من الحكي عنه، إنه غصّة بقلبي”. لكنّها مشغولةٌ بنساءٍ أخريات، خساراتهنّ أكبر من خسارتها على حدّ قولها، وأدواتهنّ للتعبير قليلةٌ وناقصة. نساءٌ يُشبهن وداد في حزنها، وانتظارها ووجعها. بهذا تعزّي نفسها، وبهذا تخوض المعركة.

حسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، العراق هو إحدى الدول صاحبة الأعداد الأكبر من المخفيّين والمفقودين. وتواجه الجمعيّات الحقوقيّة العاملة في هذا الملف صعوبةً كبيرةً في حصر الأرقام، وكذلك في عمليات البحث عن المخطوفين بسبب تداخل الأطراف المسؤولة عن جرائم الخطف والإخفاء (ميليشياتٌ مسلّحةٌ عديدة، وقواتٌ حكوميةٌ وتنظيم داعش…)، بالإضافة إلى تقاعس السلطات الرسمية العراقية. في خلال حديثنا مع وداد حمّادي، أشارَت إلى أنّ ثمّة قرًى كاملة في محافظة الأنبار، على سبيل المثال، جميع رجالها مختفون. إنّها تصفيةٌ موصوفة. في إحدى الحالات، فقدَت عائلةٌ واحدةٌ تسعةً من أفرادها (الأب وأبنائه)، حسب ما تنقل حمّادي. وتزيد الطائفية في العراق من صعوبة الملفّ وتعقيده، لاسيّما أن السلطات الرسمية تستخدمها شمّاعةً لعرقلة عمليات البحث والحقّ في معرفة المصير.

************

يُحيي العالمُ في 30 آب/أغسطس من كلّ عام، اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري. تاريخٌ يُعيد الضوء، ولو قليلًا، إلى المعاناة المُمتدّة في حياة عائلات الضحايا. لوائح الأسماء طويلةٌ في مختلف دول منطقتنا، ولكلٍّ منها سياقاتٌ سياسيةٌ مختلفة. يتكرّر المشهد: لجانٌ نسائيةٌ في رحلة بحثٍ مستمرّةٍ لسنين. انتظارٌ جماعيّ وفرديّ لخبرٍ أو إشارة، أو لتفاعلٍ حكومي وسياسيّ مع حقّ الأهالي في معرفة مصير أولادهنّ وآبائهنّ وأزواجهنّ… في معظم الحالات، المغيّبون رجال، لهذا تجد النساء أنفسهنّ مُجبراتٍ على خوض معركةٍ لم يخترنَها ولا خطر لهنّ يومًا أنهنّ سيُضطرَرن إليها. نراهنّ ونسمع قصصهنّ في مختلف دول المنطقة، من لبنان، وسوريا والعراق، إلى اليمن، ومصر والسودان وغيرها… تحدّثنا إلى البعض منهنّ في محاولةٍ لفهم كيفيّة عملهنّ على امتداد كلّ تلك السنين؛ كيف يتعاملنَ مع الحمولة العاطفية والسياسية في آنٍ واحد؟ كيف يُوفِّقن بين السياسة وفعل التورّط العاطفي؟ وكيف يصير هذا التورّط جزءًا من طريقهنّ إلى العدالة؟

يدور جزءٌ من معركة أولئك النسوة حول استعادة المرئية، واستخدام كافة أشكال التعبير بوجه فِعلَيْ التخويف والقمع

تكرّر مصطلح التورّط العاطفي في غالبية اللقاءات. جميعهنّ نساءٌ يخضنَ هذه المعركة منذ سنوات. يُشرنَ إلى التعب، لكنهنّ مستمرّات. يحكينَ عن ثقل الغياب وكيف يتورّطنَ أحيانًا في أحاديث مع صور أحبّائهنّ المُعلّقة على الجدران، لكنهنّ ثابتاتٌ وواضحاتٌ في مطالبهنّ. لا يخفنَ سردَ مواقف عن لحظاتٍ مشحونةٍ بالعواطف، قد تبدو غير عاقلةٍ لأشخاصٍ لم يختبروا فعل التغييب القسري، لكنهنّ واعياتٌ تمامًا لِما يسردنَ وما يعشنَ. فسحة الأمل التي يمتلكنَ تعتاش على شحناتٍ عاطفيةٍ قد تأتي مُتناقضةً أحيانًا. انتظارٌ طويلٌ يمتدّ على مدى سنواتِ أعمارهنّ. لكنّ هذه الحمولة التي يفترشنَ الحيّز العام بها، فعلٌ يمارسنَه باضطرار، لاسيّما أنّ جزءًا من هذه المعركة هو سعيٌ لاسترداد صفة المرئية. فعل الإخفاء القسري المُمارَس على يد أنظمةٍ سياسيةٍ وميليشياتٍ مُسلّحةٍ وغيرها، يهدف في كثيرٍ من الأحيان إلى أمرَين: أوّلًا، بثّ الرعب العام من خلال ممارسة التغييب القسري على مجموعةٍ من الأفراد، وبالتالي إبلاغ عموم الشّعب بالمصير المُحتمل لِمَن يخرج عن الطاعة. وثانيًا، محو أيّ أثرٍ للضحية، جسديًّا ومعنويًّا.

لهذا، يدور جزءٌ من معركة أولئك النسوة حول استعادة المرئية، واستخدام كافة أشكال التعبير بوجه فِعلَيْ التخويف والقمع. لكن بشكلٍ أساسيّ، معركتهنّ هي تعزيز حضور المخفيّين قسرًا في الحيّز العام عبر تحرير الكلام عنهم، وعن قصصهم، وعن علاقاتهنّ الخاصّة بهم، وعن حزنهنّ على فقدانهم. ففي فعل تعزيز حضور المخفيّين في الحيّز العام، والتعبير عن الحبّ والشوق والشعور بالفقد، ثمّة استعادةٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ لهم فردًا فردًا، استعادةٌ لحضورهم وتكثيفٌ له بوجه محاولة محو أثرهم.

ما قد تسمعه النساء من تعليقاتٍ مُتفرّقةٍ في أثناء سعيهنّ لتحصيل خبرٍ عن أحبائهنّ المفقودين، من قبيل: “شوفي حياتك”، “تزوَّجي وحبِّي. الوقت بينسّي” أو “عم تضيّعي حياتك بالهمّ والقهر”، يُعيدنا إلى ما ناقشَته الباحثة والكاتبة النسوية، سارة أحمد (Sara Ahmed)، في كتابها “وعد السعادة”.

تشير أحمد في مقدِّمة كتابها3 إلى كيفية استخدام السعادة لتبرير القمع أو للتخفّف منه. في قضايا الإخفاء القسري، يكون الموقف مركّبًا ومُربكًا لأهالي المفقودين. حيواتٌ كثيرةٌ تسير في خطٍّ زمنيٍّ واحد، حياة المفقود أو المخطوف وما تتضمّنه من سباقٍ مع الزمن في محاولة الوصول إليه، وحيوات ناسه وأقربائه في السياقات اليومية الروتينيّة لأيّ إنسان. مَن هم خارج دائرة المعركة، البعيدون “عاطفيًا” عن المخفيّ والقضية، سوف يرون في استمرارية البحث على مدى سنوات، عمرًا ضائعًا في الحزن. تقول أحمد في مقدمة كتابها إنّنا نعيش مرحلة تحوّلٍ في مفهوم السعادة؛ فمنذ عام 2005، ارتفع بشكلٍ ملحوظٍ عدد المنشورات التي تتناول علم السعادة واقتصادها، لهذا لجأتُ إلى قراءة وتحليل أعمال أكاديميةٍ نسويةٍ تشرح خطورة هذا المفهوم وكيفيّة استخدامه لتبرير سياقاتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ قائمةٍ على القمع. هنا، على سبيل المثال، في محاولةٍ لإخراجهنّ من معركتهنّ بذريعة “العثور على السعادة”، يجعل النظامُ السياسي والاجتماعي هؤلاء النسوة مسؤولاتٍ عمّا يعشنَ من مشاعر “سلبية”؛ فحسب منطقه، السعادة مسؤوليتهنّ. وفي هذا المنطق الخبيث تناسٍ للفعل الأصلي: سلب حقهنّ وحقّ المفقودين من أحبّائهنّ بعيش حياةٍ حرّةٍ وعادلة.

في فعل تعزيز حضور المخفيّين في الحيّز العام، والتعبير عن الحبّ والشوق والشعور بالفقد، ثمّة استعادةٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ لهم فردًا فردًا، استعادةٌ لحضورهم وتكثيفٌ له بوجه محاولة محو أثرهم

يُعيدنا هذا إلى “ساحة مايو” وسط العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيرس، مركز نضال النساء الأرجنتينيّات اللواتي يتجمّعنَ للمطالبة بعودة أبنائهنّ المخفيّين والمفقودين. مارَس الحكم العسكري في الأرجنتين، ما بين عامَي 1976-1983، عنفًا سريًّا وصامتًا من خلال تعميمه جريمة الإخفاء القسري: ثلاثون ألف معارضٍ أخفاهم النظام آنذاك، ويُفترض أنهم قُتلوا. لكن بالإضافة إلى هذه المأساة، تبرز مأساة خطف أطفالٍ مولودين لعائلاتٍ معارِضةٍ للحكم الديكتاتوري آنذاك، وتسليمهم إلى عائلات العسكريّين لتبنّيهم بعد تغيير أسمائهم وهويّاتهم. في بدايات تحرّك الجدّات والأمهات من أجل معرفة مصير أبنائهنّ، نعَتَهنّ العسكرُ بالجنون، ولم يكن خروجهنّ إلى الشارع مقبولًا مجتمعيًّا. لكنهنّ ثابرنَ واستخدمنَ كافة أشكال التعبير من أجل المطالبة بحقهنّ. خلقنَ لحركتهنّ رمزًا يُمكّنهنّ من التعرّف بعضهنّ إلى بعض: القماشة البيضاء المربوطة حول الرأس، رمزًا للقماط الذي يُلفّ به الأطفال حديثو الولادة. مظاهراتٌ دائريةٌ عصرَ كلّ يوم خميس، التفَّت بذكاءٍ على الأحكام العُرفية السّارية آنذاك، والتي كانت تمنع تجمّع أكثر من ثلاثة أشخاصٍ في الساحات والشوارع. نجحَت النسوة في الاستمرار في نضالهنّ على الرغم من تعرّضهن في عام 1976 إلى قمعٍ عنيفٍ على يد السلطات العسكرية التي خطفَت 12 فردًا على صلةٍ بحركة الأمّهات، أُضيفوا إلى أعداد المخفيّين قسرًا في البلاد. المقاومة الملحوظة التي أبدَتها نساء “ساحة مايو” في الأرجنتين، حوّلَت التغييب إلى حضور. أسّسنَ عبر نضالهنّ لذاكرةٍ جمعيّةٍ أزاحَت النسيان عن المخفيّين والمفقودين. وما اعتُبر في بداياته “عيبًا” وضربًا من الجنون، صار تأريخًا لمرحلةٍ من القمع والترهيب في تاريخ البلاد. وبعد عقودٍ من الترهيب والقهر، شهدَت الأرجنتين (وما زالت) محاكماتٍ للعسكريّين المشاركين في عمليات تصفية المعارِضين. وفي عام 2022، أعلنَت جدّاتُ ساحة مايو العثور على الطفل رقم 131 من مجموع الأطفال الذين جرى خطفهم وتبنّيهم قسرًا بعد ولادتهم لأبوَين معارضَين إبّان الحكم العسكري.

تردّني هذه الحوادث إلى قضية الإخفاء القسري في معظم دول منطقتنا غير المحكومة بمدّةٍ زمنية، ولا بجهةٍ واحدةٍ قد تكون مسؤولةً عن عمليّات الخطف. في العراق أو اليمن، على سبيل المثال، تبحث النساء عن مفقودين ومخطوفين في فتراتٍ زمنيةٍ ومراحل عنفٍ مختلفة. وهذا يجعل من عمليات البحث والوصول إلى نتائج أمرًا أكثر صعوبةً وأشدّ تعقيدًا. رأينا وجوهًا تشيخ على شاشات التلفزيون من أفراد لجان أهالي المفقودين والمخطوفين. نساءٌ كثيراتٌ رحلنَ، إمّا بقرارهنّ أو لأنّ العمر بلغ منتهاه. وحدهنّ يواجهنَ السلاح والطائفية والقتل، ويسعينَ جاهداتٍ للوصول إلى نهاياتٍ وإن كانت حزينة، لكنها تبقى أكثر رحمةً لهنّ من الانتظار القاتل.

شاركنَ المنشور