وصلت إلى مدونة المنصة من ريمة اسماعيل*
تحية إلى نساء السويداء ..
ما الذي يحدث في دواخلنا نحن النساء حين تشتعل الحرب؟
قبل أكثر من عقد اشتعلت الثورة في سوريا، كنت وصديقاتي نتابع الأخبار كما الرجال، لكن بفضول أقل نسبياً من المهتمات بالشأن العام.
لكن خلط الأوراق واشتعال الحرب، ليس كتطاولها وامتدادها على مساحات الأمكنة والأيام، فقد وصلنا الحريق، ولم تعد القضية مجرد متابعة ما يحدث لنميّز القاتل من الضحية، ومن قام بإشعال النار وتذكّيتها من حامل الدلاء لإطفائها، فقد فرخت الحرب حروباً وتضاعفت آثارها، معاركاً لا تنتهي بموسيقا الختام كما في الأفلام، إنما أخذت تنفر دماءها على ثيابنا وطعامنا والأسرّة، صارت عيوننا ترقب الأخبار، لا لنعرف المنتصر من المهزوم، بل لنهلع الى الميدان عند انتهائها فنحصي عدد القتلى ونكفّنهم بدموعنا … نلملم الأطراف المبتورة، ونفتتح في جورة القلب ميتماً لأطفالهم، الذين صاروا مشاريع قتلى هم الآخرين … انشغلنا بتعليق السيرومات وتبديل الحفاضات وزيارة المقابر.
مع استمرار كل هذا الهمّ والدّخان سنوات طويلة، ذبلت حدائق الأنوثة فينا، وغدا شغلنا الشاغل أن نقرأ الرايات المرفوعة ومرجعياتها، لا وصفات الطبخ أو الدايت أو آخر دورات اليوغا، ولا أن نتبادل فلاشات الأفلام الفائزة بالأوسكار. غدت رحلاتنا إن كان هناك من إمكانية، إلى مراكز الإيواء أو المشافي أو المقابر. في الزحمة نسينا الأغاني والفساتين المكشكشة …كنا نذبل كما تذبل أصص ورودنا على الشرفات. لم ننتبه إلى الأغاني، التي تشنها الحرب علينا، لم نحفظ كلماتها كما اعتدنا من قبل. أغاني حربنا السورية جاءت ملوثة بالصراخ والمفاخرة الجوفاء، ملطّخة بصدأ الأيدولوجيات ومساميرها الفجّة، لم يكن لها نكهة أغنية ” بيي راح مع العسكر ..حمل سلاح راح وبكّر”، العابقة بالفخر، وباحتمال الشهادة في معركة مع عدو واضح المعالم.
في أغاني حربنا القذرة هذه صار الـ”بيّ” “لا يروح” مع العسكر، إنما يساق سوقاً ليصبح قيد احتمال الجوع، أو الخطف، أو الرصاصة الصديقة كما العدوة .
وصار الشهيد بطلاً محتملاً، أو لصاً صرعته الهرولة على الغنائم، وأغنية “بتضلك حبيبي ياتراب الجنوب” التي كانت تشعل فينا الحماس إلى حرب “واضحة” لإحقاق العدل، اختفى معناها مع حربنا التي جاءت مسخ حرب، فتكاد لا تعرف إلى أيٍّ من الطرفين تريد أن تميل.
وهكذا بعد السنتين أو الثلاث الأوائل، لإندلاع الأحداث، تركنا للرجال مهمة التحليل والتشجيع والاحتراب وتراجعنا نحن النساء، أو ربما تقدّمنا، لنسند جدار الحياة في محيطنا ونمنعه من الانهيار. سنوات مرت وكل مقاومتنا تتجلى بمحاولة ألّا نقع، ننشغل بتعليم أطفالنا، وقد ساءت أحوال التعليم في البلاد، وبزرع الحديقة الصغيرة أمام الدار بالبصل والحبق، بتوزيع أقلام التلوين على أبناء القتلى على كلا الضفتين، وبتدبير المنزل ورتق الفراغات، التي خلفها الراحلون في نسيج البيت و روحه.
كنا بسبب الحسرة أميل للصمت على غير عادتنا، لكن في المقابل كنّا عنيدات كما لم نكن من قبل.
في اللحظة التي ناست فيها قلوبنا كسراج شحّت ذبالته وارتعشت قيد الإنطفاء … في تلك اللحظة، وحين كاد يبلغ صبرنا منتهاه المستسلم، جاءت ثورة السويداء، ثورتنا… نعم! أقولها “ثورتنا” على الرغم أننا لا نستحق تماماً أن نتقاسم نسبها مع نساء السويداء الماجدات… لا نستحق ذلك نحن المُبعدات أو المبتعدات عن دائرة الفعل، سواء بحكم الظروف الجغرافيّة والأمنيّة، التي لا تخفى على أحد، أو بكامل إرادتنا لأن البعض منّا لم يزل مُغيباً تحت تأثير عجزه عن قراءة الواقع المستجد، أو تحت تأثير ماكينة الإعلام الرسمي التحريضيّة، وبما تبثّه من شيطنة لهذه الثورة ومن ترهيب و تشويه لأهدافها.
لكن حين قالت لي جارتي الخمسينية الطيبة هامسة قرب أذني: ” … والله هنن أجدع مننا … الله ينصرهم … وك أحلى شي إنه النسوان أكتر عدد من الرجال تقريباً … وك مو بس عم يهتفوا ضد الجوع … وك عم يهتفوا ليرجع المينا متلو متل المطار … ياااه ياريتني بقدر كون معهم! “، حينها فقط ابتسم قلبي بكامل نصاعته … نعم! ومية نعم! وك الشمس ما بتتخبى بغربال … ثورة السويداء أملنا… ثورة السويداء ثورتنا نحن النساء في كل أنحاء سوريا.
اسم مستعار*
العمل الفني للفنانة السورية ديما نشاوي
كل المواد التي تنشر تعبّر عن رأي كاتباتها ولا تعبّر بالضرورة رأي المنصة.