نجلاء أبو مرعي | المدن
“لقد دفعني ذلك للتفكير بحجم الثقل الذي نُجبر على تحمّله”… العبارة للاعبة المنتخب الأميركي لكرة القدم، ميغان رابينو، مُعلّقةً على القُبلة التي طبعها بغتة رئيس الاتحاد الإسباني لويس روبيالس، على شفتَي جينيفر هيرموسو، لاعبة المنتخب الإسباني، خلال حفلة تتويج الفريق بالفوز في بطولة كأس العالم للسيدات.
بكلمات قليلة، أوجزت رابينو ألماً كبيراً تختزنه تحت عباءة “مرونة”، تستعين بها لاعبات كرة القدم، ونساء في مجالات أخرى، للتعامل مع ممارسات يومية، وأحياناً في لحظات مفصلية، سواء بتجاهلها أو بالتحايل عليها، أو مواجهتها.
ليونة ومرونة مطلوبتان للبقاء في الميدان… إلى أن يتغير الحال…
كلمات رابينو، أعادتني مجدداً إلى اللقطة المصوّرة التي جرى تداولها، حيث اللحظة الواحدة التي سجلتها العدسة، تمتد في الزمن بعيداً وتكتنز كثافة من ماضيها، وتحيل إلى مستقبلها. رغم جمود الحركة، فإن الصورة تضج بالاختزال والإشباع اللذين يتناغمان بشكل بليغ.
فعل، بالكاد امتد لثوانٍ معدودة، قَرصَنَ ثمرة مسار طويل.
بحركة، قال روبيالس إنها عفوية ولا تحمل أي نيات سيئة، خطف هذا الرجل الفرحة المستحقة أولًا، تلك التي لم تأت إلا من خوض لاعبات المنتخب مشقةً حقيقية طوال عام سبق هذا التتويج، سببها اعتراضات على المدرب والاتحاد وعلى ممارسات يَرَين في بعضها تحرشاً، وتؤثر في صحتهن الذهنية. اعتراضات تجاهلها الاتحاد. حَوَّل روبيالس الأنظار عن الابتهاج بالفوز، صرفَ الانتباهَ عن لاعبات المنتخب، وشدَّه إليه.
وكرَّس ثانياً، تفاعلات نمطية مع لاعبات كرة القدم. منها على سبيل المثال، أنهن حسناوات يركضن على عشب أخضر بسراويل قصيرة. بقُبلة واحدة، سرق روبيالس تعب المنتخب، واختزل بطولة في لحظةٍ محورها فعلته، وأشبع الصورة النمطية تنميطاً. قرصان محترف.
يعترض التفكير، تساؤل لا ينتظر جواباً إلا ما رَجِع من صدى قهقهات ساخرة… هل يقدم يورغن كلوب على تقبيل محمد صلاح بهذا الشكل، بحجة الانسياق الكامل خلف انفعال “عفوي”، في ذروة الجذل والتستوستيرون؟!
هل ينشغل بال لاعبي كرة القدم، الذين يعرضون “مفاتنهم” في الملعب، باحتمالات تشييئهم جنسياً، حينما يخلعون سترتهم، وهم يركلون كرة في المرمى، أو ينحنون لربط شريط حذاء؟ محمد صلاح وغيره من اللاعبين، يخلعون ستراتهم ويستعرضون حزمات عضلاتهم للتباهي والفتنة في أكثر من مناسبة، غير آبهين بذلك، ولا بالبطاقة الصفراء التي سينالونها. فالاحتفال بالهدف باتباع هذا الطقس أو التقليد، أهم من العقوبة، ولا يعتبر استدعاءً لتجاوز الخطوط التي وضعتها “فيفا”، والتي على أساسها علّقت المنظمة الكروية الدولية روبيالس عن العمل مؤقتاً، إلى حين استكمالها مسار التحقيق الذي فتحته بهذا الصدد. ولا يستدعي خلع سترة اللاعب، أي جدل ولا يتصدر العناوين، كما حصل مع اللاعبة النيجيرية أوشولا، التي وجدت المواقع الرياضية بخلعها سترتها بعد تسديد الهدف في إحدى مباريات البطولة، فرصة للإشارة إلى أنها خامس لاعبة منذ العام 1999، “تخلع سترتها” بعد التسجيل.
وهكذا نتنبه مجددًا إلى أن هذا تقليد من تقاليد اللعبة، وهو حصراً للرجال. ذكَّرَ روبيالس، العالم، بأن كرة القدم في الأصل لعبة للرجال، للذكور، وأن كل ما حققته النساء فيها لا قيمة له، بعد… بل إن كل ما تخوضه النساء في إسبانيا، لا قيمة له، بعد…
ممحاة. هي قُبلة محت المساق الذي أسسته وسَعَت فيه الإسبانيات، تحديداً منذ منتصف السبعينيات، محاولة التعافي من عهد فرانكو والكاثوليكية الوطنية، وصولاً إلى تشريعات تخوض فيها مع مجلس النواب ضمن ما يسمى بالخطة الاستراتيجية الثالثة. من أسس هذه الخطة، ضمان حقوق المرأة في كل مناحي الحياة اليومية، إلغاء العنف الجندري، منح المرأة موقعاً عادلاً في الاقتصاد وردم الفجوة في الراتب، والحرص على حوكمة تقودها حكومة شاملة ديموقراطية.
وهي قُبلة كاتمة أيضاً. تكتم الصوت الذي خرج من حناجر نساء إسبانيات، وهدرت في مدريد وبرشلونة وغيرها، تأكيداً على مطالبهن وحقوقهن. وتجعل من نقاش الناشطات في المؤتمر الدولي للغة الإسبانية، وحملتهنّ على عدد من الكتّاب الإسبان لما ترينه ارتكازاً متعمداً على لغة وتعبيرات مذكّرة، نقاشاً متهافتاً.
“عفوية” مزقت صورة إسبانيا المتباهية باحتلالها موقعاً بين عشرين دولة في العالم في أعلى سلّم المساواة الجندرية، وفق تقييم منتدى الاقتصاد العالمي للعام الماضي. ومِن حرص وزيرة الاقتصاد ناديا كالفينو، على هذا “الإنجاز”، خرجت من منتدى رواد مدريد في أيار الماضي، رافضة أن تكون الوحيدة بين مجموعة من الرجال عند التقاط الصورة التذكارية.
سعي مستمر في إسبانيا، من المُواطنة العادية إلى الوزيرة، لعدم اختزال النساء في الاقتصاد، في السياسة، في الإعلام، في الإدارة، في الرياضة… دفعٌ من أجل ألا يُفسح المجالُ للنساء إلى حدود الإدارات الوسطى فقط، من أجل تأمين الشروط التي تسمح لهن باستكمال المسيرة إلى موقع قيادي… هذا كله، ينقضُّ عليه رجل بفعل واحد، وخلفه الاتحاد–المنظومة، ليقول لهن في إسبانيا ولنا في باقي العالم، ليس كافياً بعد…