فرح يوسف| مبادرة الإصلاح العربي
قبل عقد من الزمان، شاهد العالم برعب النظام السوري يشن هجومه الأول بالأسلحة الكيماوية على الغوطتين الشرقية والغربية من دمشق في 21 آب/أغسطس 2013، مما أدى إلى وفاة مأساوية لما يقارب 1500 ضحية.
في الشبكة الكثيفة من التعقيدات الجيوسياسية المحيطة بالنزاعات، غالباً ما تضيع القصص الفردية، لا سيما عندما تعكس تجارب خاصة بالنوع الاجتماعي. مذبحة الأسلحة الكيميائية في سوريا تذكير مخيف بالكيفية التي تلعب فيها ديناميات النوع الاجتماعي دوراً في الطريقة التي تُرتكب بها الجرائم وتُختبر وتُسترجع أو تُستذكر. لضمان قدر من العدالة الحقيقية، هناك حاجة ماسة للنظر في مثل هذه الحوادث من منظور حساس للنوع الاجتماعي، والتأكيد على مساءلة تعترف بهذه التجارب الفريدة.
يطرح هذا النص ثلاثة أسئلة محورية: لماذا هناك حاجة ملحة لمنظور يراعي الفوارق بين الأنواع الاجتماعية؟ كيف شكلت ديناميات النوع الاجتماعي آثار المجزرة؟ وكيف يمكننا تمهيد الطريق نحو نظام عدالة يتضمن بصدق وفعالية الحساسيات الجندرية؟
الحاجة إلى منظور حساس للنوع الاجتماعي:
في حوار مع تهامة درويش، ناجية ومسعفة في الغوطة الشرقية، عملت في مجمّع عيادات الفيحاء، وكانت متطوعة في الهلال الأحمر، ولاجئة حالياً في فرنسا، تقول: “هناك حلقة جندرية مفقودة على مدار السنوات العشر الماضية؛ في أعقاب المجزرة كان الصوت النسائي خجولاً، فالنساء في الكوادر الطبية لم ترغب بالتواجد في دائرة الضوء، لاعتبارات أمنية بالأساس، ولهواجس مجتمعية تفرضها البيئة المحافظة”. تقول تهامة درويش أن صوت النساء ما زال ضعيفاً، مما يشجعها، أو يجبرها أحياناً، على المشاركة في الفعاليات، والتذكير بفظائع المجزرة، والسعي للمحاسبة، حتى حين تكون منهكة.
هذه الحلقة المفقودة تقود إلى نقط عمياء جندرياً في السردية التاريخية، مما ينعكس على الضحايا والناجين/ات، ومسار المساءلة والمحاسبة والتعافي. غالباً ما احتلت الحاجة الملحة لإلقاء اللوم وتحديد الجناة مركز الصدارة في أعقاب الضربات. في حين أن هذه خطوة حاسمة في متابعة المساءلة، غير أنها غطّت في كثير من الأحيان على العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي حدث في السياق الأوسع للنزاع، والمرتبط بمجازر السلاح الكيماوي. من منظور يراعي النوع الاجتماعي، يشير هذا إلى وجود فجوة كبيرة في الاستجابة العالمية، فجوة تزيد من استمرار إخفاء تجارب النساء في أوقات الأزمات.
وجد GPPI المعهد العالمي للسياسات العامة أن «النساء والأطفال يتأثرون بشكل غير متناسب بالعنف العشوائي، بما في ذلك الهجمات بالأسلحة الكيميائية»، مشيرا إلى أن تجارب النساء لا يتم الإبلاغ عنها بسبب التحيز الجندري البنيوي في جمع البيانات. ويؤدي هذا التحيز، حسب المعهد، إلى نقص في فهم المجتمع الدولي لآثار النزاع السوري، مما يضعف بالتالي فعالية السياسات المعتمدة. كذلك، يعزو المعهد الفجوة الجندرية في التوثيق والمعرفة إلى كون المراسلين الأساسيين في سوريا، بما في ذلك الصحفيون والمستجيبون الأوائل، من الذكور في الغالب، مما يحد من استعداد النساء لمشاركة تجاربهن في مجتمع محافظ ويزيد من إسكات وتهميش الأصوات النسائية.
النظر إلى مجزرة السلاح الكيماوي من منظور حساس للنوع الاجتماعي أساسي لكشف الطرق المركّبة، والخفية في كثير من الأحيان، التي يتقاطع فيها النوع الاجتماعي مع تأثيرات الصراع. تميل التحليلات التقليدية إلى تهميش التجارب الفردية، ونقاط الهشاشة، وآليات التكيف لدى مختلف الأنواع الاجتماعية، مما يقود لفهم منقوص لطيف التأثيرات الناجم عن مثل هذه الحوادث. غالباً ما تواجه النساء والأقليات الجندرية في سياقات النزاع مخاطر متزايدة مثل العنف الجنسي والاستغلال والتمييز القائم على النوع الاجتماعي. يراعي هذا المنظور أيضاً الأدوار الحيوية التي تلعبها النساء كمقدمات الرعاية وبناة السلام، مما يبرز أهمية وكالتهنّ أثناء الأزمات وبعدها. بينما نركز على المنظور الجندري، لا نهمل أن الجندر يتقاطع مع مكونات أخرى للهوية، مثل العمر، الطبقة الاجتماعية، العرق، الدين، والحالة الصحية. يأخذ النهج المراعي للنوع الاجتماعي في الاعتبار هذه التقاطعات، ويكشف كيف تزيد طبقات الهوية المختلفة من تأثير الصراع على الأفراد.
يعد فهم ديناميات النوع الاجتماعي ضرورياً لاستجابة فعالة وللتعافي، مما يضمن ألا تؤدي جهود الإغاثة عن غير قصد إلى تفاقم عدم المساواة بين الأنواع الاجتماعية. كما أنه يعزز المساءلة من خلال تحديد الجرائم الخاصة بالنوع الاجتماعي بموجب القانون الدولي، والتي قد يتم التغاضي عنها دونه. علاوة على ذلك، فإن التحليل الجندري يوجه عملية تطوير السياسات الشاملة التي تدافع عن المساواة والعدالة، وتوفر سرديات أكثر شمولية وتضميناً ودقة للأحداث. تعتبر وجهات النظر الشاملة هذه ضرورية لتعزيز الدقة التاريخية ومسارات العدالة والتعافي المجتمعي.
الأثر الجندري للمجزرة:
لفهم المجزرة علينا في البداية وضعها في سياقها. وجّه النظام صواريخ محملة بغاز السارين بدايةً إلى الغوطة الشرقية، بعد حصارها وتجويع أهلها، وقصفها باستمرار، وإضعاف بنيتها التحتية، والتضييق عليها حتى هروب الكثير من الكفاءات، وتفريغ الكوادر الطبية فيها من كثير من الاختصاصات. تحملت النساء في هذا السياق أعباء إضافية مرتبطة بكونهنّ نساء، وبالدور الاجتماعي المفروض عليهنّ، مما أثر لاحقاً على الطريقة التي تلقّين فيها الضربات الكيماوية. بالإضافة لذلك، كان القطاع الطبي منهكاً تماماً؛ مع الاستهداف المستمر من النظام للنقاط الطبية، وانقطاع الكهرباء والماء والاتصالات، وإفراغ القطاع من الكثير من كفاءاته بالاعتقال والتهجير والقتل، ولم يكن بالتالي جاهزاً للاستجابة لكارثة من هذا الحجم والنوع.
للوقوف على الأبعاد الجندرية للمجزرة أجريت مقابلة مع الطبيب د. سليم نمور، مؤسس مشفى الكهف في الغوطة الشرقية، وكان رئيس المكتب الطبي الموحد، منظومة إدارة العمل الطبي التي أسسوها في تلك الفترة، ومن مؤسسي رابطة ضحايا الكيماوي. يقول: “وفق إحصائيات المكتب الطبي الموحد في الغوطة، كان عدد المصابين حوالي 10 آلاف، وعدد الشهداء حتى يوم دخول لجنة التحقيق الدولية بعد المجزرة بأسبوع كان 1466، واستمر العدد بالارتفاع مع وفاة مصابين بحالات حرجة. ثلثا المصابين تقريباً، وفق إحصاءاتنا كانا من النساء والأطفال، فالقصف استهدف الأحياء السكنية، واستهدف الأسر وهي نائمة“.
حدوث الضربات ليلاً كان له انعكاس على التوازن الجندري في الكوادر الطبية؛ في حين كانت هناك العديد من العاملات والمتطوعات، فإن المناوبات الليلية تتبع البيئة المحيطة، واحتاجت المسعفات والممرضات والطبيبات وقتاً أطول للالتحاق بالنقاط الطبية.
تطلب الإسعاف نزع ملابس المصابين/ات، وقبل الضربة، راعت المستشفيات والنقاط الطبية خصوصية المجتمع بما يتعلق بالفصل بين الجنسين، لكن يقول د. سليم نمور أن “الضربة غيّرت مفهوم الجندرة لديهم”، فالموت الجماعي لم يترك فرصة لأية اعتبارات، “المسألة كانت مسألة حياة أو موت”. أما تهامة درويش، فعملت كمسعفة في مدرسة تحولت لنقطة طبية في زملكا وتقول: “الضربة كانت بعيدة بعض الشيء عن زملكا، فكان هناك نوع من التنسيق، وخصصنا الباحة الخلفية للنساء. لا أعتقد أن هذا كان ممكناً في النقاط التي تعرضت للضربة بشكل مباشر”. تؤكد تهامة درويش أن لهذا الفصل دور في حماية كرامة النساء؛ في مجتمع محافظ، أغلب النساء محجبات، ونزع الملابس بحسب عادات المجتمع انتهاك للخصوصية.
يقول د. سليم نمور: “تأثيرات غاز السارين علمياً واحدة على الجنسين، لا تظهر النساء أعراضاً مختلفة عن الرجال. لكن إذا أردنا العودة للسياق، فالمصاب بسوء التغذية، والمضطر لاستخدام موقد الحطب واستنشاق دخان الحطب، والمقيم في أحياء مليئة بغبار القصف، صحته العامة ليست صحة سوية، وهو يتلقى ضربة الكيماوي بهذه الصحة. المرأة في الحصار دفعت ضريبة كبيرة، كانت ربة المنزل المضطرة لإدارة الاقتصاد المنزلي في ظل شح المواد الغذائية، المضطرة لتكسير الحطب وإيقاده للطبخ والتنظيف واستحمام الأطفال، هذه المرأة المكافحة استنشقت السارين في هذه الظروف“. وبالنسبة للصحة الجنسية والإنجابية، يؤكد على أهمية أخذ كامل السياق المأساوي في عين الاعتبار. فهو كطبيب، حذّر من ربط السارين بالإجهاض وتشوه الأجنة، واعتبر أن تكامل الأبعاد التي تحدثنا عنها يمكن أن ينعكس على الصحة الجنسية والإنجابية. وعلى المدى الطويل، تستمر آثار الرضوض والصدمة النفسية المرافقة للضربات الكيماوية على كلا الجنسين، بحسب د. سليم نمور.
إذاً، لا يمكن عند تحليل المجزرة الاكتفاء بالرأي الطبي المجرد الذي لا يرى فرقاً جندرياً في التعرض للأسلحة الكيمائية. تقاطع العوامل البيئية والاقتصادية والسياسية، مع الأدوار الاجتماعية، تساهم في فهم أوضح للأثر الجندري للمجزرة، وترسم صورة أكثر شمولاً لواقع تواجه فيه النساء تحديات وانتهاكات غالباً ما يتم تهميشها أو نسيانها.
وفيما يخص الانعكاسات المجتمعية على النساء، يتحدث د. سليم نمور عن الدور الذي لعبته النساء لرعاية “أيتام السارين”، ويصفه بالمشرّف. فقد وقع دور رعاية الأطفال والطفلات فاقدي/ات ذويهم/ن على الناجيات، وهو عبء إضافي في ظل الظروف القائمة حينذاك. ويضيف أن ألم الخذلان من إفلات النظام من المحاسبة لا يقل عن ألم الضربة، ألم عاشوه نساءً ورجالاً.
أما بشأن الجانب الحقوقي والتوثيقي، تحدثت مع الناشط السوري ثائر حجازي، من مؤسسي رابطة ضحايا الكيماوي، عمل على توثيق الانتهاكات في دوما والغوطة الشرقية بين عامي 2012 و2018، وهو طرف مدني في الدعوى الجنائية المرفوعة ضد النظام السوري في المحكمة الفرنسية موجهة تهم ضد مسؤولين في النظام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
تحدث ثائر حجازي عن لجنة التحقيق الدولية وجمع عينات من التربة، وعينات من دم المصابين/ات، وفحص الحيوانات، وكل ما يمكن أن يساهم في تحديد نوع الغاز المستخدم، ومصدر الضربات. يقول ثائر حجازي أن التوثيق اللاحق للمجزرة تركز على جمع الأدلة، وتمحورت الشهادات حول تحديد نوع السلاح الكيماوي، وتوجيه أصابع الاتهام للمسؤولين. أما عن البعد الجندري في التوثيق، يقول أنه “لم تتم دراسة الكارثة من منظور جندري كما يجب، هناك أيضاً نقص في الموارد والكوادر، مما أثر في تعميق هذه الفجوة”.
هذا التركيز على جمع الأدلة مفهوم في أعقاب المجزرة، لكننا بحاجة لتوسيع مفهوم “الدليل”، وتوحيد الجهود الدولية والمحلية لتكوين صورة شاملة وتضمينية عن تبعات المجزرة. تمتد هذه الصورة لتشمل التبعات المرتبطة بالمجزرة، مثل التهجير والنزوح، وما ترافق معه من أعباء مادية ونفسية، وعنف مرتبط بالنوع الاجتماعي.
أما عن المسار طويل الأمد، تعمل رابطة ضحايا الكيماوي التي كان ثائر من مؤسسيها، على توثيق قصص الشهود وحفظ السردية للمشاركة في مسار المحاسبة والمساءلة. سألت ثائر حجازي عن التوازن الجندري في الرابطة، والحساسية الجندرية في التوثيق، وأجاب: “20% فقط من الأعضاء نساء، ليس لأننا لا نرغب بتواجد النساء، لكن ربما يعود التفاوت بالدرجة الأولى للمخاوف الأمنية على العائلات التي ما زالت في سوريا، ولطبيعة المجتمع وعاداته، نساء ناجيات لكنهن لا يتحدثن وقيود المجتمع تقيدهن”. وعن الأسئلة ومضمون التوثيق، أفاد أن لا فرق بين الأنواع الاجتماعية، وأن الرابطة بحاجة لدعم على مستوى الموارد والخبرات لإيلاء هذا الجانب مزيداً من الاهتمام. وأضاف أن من: “المهم جدا ربط الموضوع بالسياق؛ مجتمع فيه عدد كبير من النساء تعرضن لمختلف أنواع الانتهاكات، وصولاً للكيماوي. ربطها وتقاطعها أساسي”.
توضح هذه الشهادات أن الفهم الشامل للمجزرة يتطلب التدقيق في العوامل المتداخلة خلف الأحداث، بدءاً من الوضع الاقتصادي والاجتماعي وصولاً إلى الظروف الصحية والنفسية التي أثرت على النساء بشكل خاص. وإذا أردنا تحقيق العدالة والمساءلة، يجب أن ننظر إلى هذه الأبعاد والتحديات من منظور جندري، ونتخذ خطوات نحو توثيق الأدلة وتحقيق العدالة لكل الضحايا.
لهذا، يجب أن يكون للنساء دور في عملية التوثيق، ويجب توجيه الدعم والموارد لتمكينهن من المشاركة بفعالية في هذه الجهود. ومع تصاعد الدعوات للمحاسبة الدولية والعدالة، يجب أن نعمل على ضمان تضمين الأبعاد الجندرية في هذه الجهود، وتأكيد أن النساء لن يبقين غير مرئيات أو متجاهلات في مساعي تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين.
نحو عدالة أكثر حساسية للنوع الاجتماعي:
في السعي لتحقيق العدالة الحساسة للنوع الاجتماعي في سياق النزاعات، من الضروري تجنب وجهة نظر اختزالية للمساءلة، تلك التي تركز حصرياً على تحديد المسؤولين عن الجرائم الظاهرة والمباشرة. فقط يمكن أن يكون عدم الاكتفاء بمحاسبة المسؤولين عن الآثار الظاهرة للجرائم حافزا لاستراتيجيات أكثر شمولاً تعالج الأسباب الجذرية للعنف القائم على النوع الاجتماعي في النزاعات. تنظر هذه العدالة إلى سياق ما قبل المجزرة، وتحلل المجزرة، وتدرس تبعاتها المباشرة وغير المباشرة.
العقاب ليس سوى خيط واحد في النسيج المعقد للعدالة؛ فالعدالة الأشمل عدالة إصلاحية. إن التعويضات التي تراعي خصوصية الأنواع الاجتماعية، والتي تمتد من المادية إلى النفسية، لها أهمية قصوى في هذا المسعى. صياغة أنظمة الدعم المتخصصة وجلسات الإرشاد ومبادرات إعادة الإدماج المجتمعي، المصممة خصيصاً للتجارب المميزة لكل نوع اجتماعي، تصبح حجر الزاوية في العدالة الشاملة. لم تكن آثار مجزرة الأسلحة الكيميائية موحدة. واجهت النساء والرجال تحديات متنوعة في أعقابها. تعترف العدالة الحقيقية بالطرق التي لا تعد ولا تحصى التي يختبر فيها الناس الأذى وتسعى لإصلاح هذه الجروح.
تقول تهامة درويش: ” الاهتمام بالصحة النفسية في الغوطة كان شبه معدوم، بحجة الأولويات، الأطباء النفسيين كانوا أمراً ثانوياً جداً. والاعتناء بالصحة الإنجابية والجنسية كان تقليدياً، قلة الموارد والإمكانات كانت حجة لهذا التقصير”. ترى تهامة درويش أن لهذا انعكاسات طويلة الأمد، وتمر دون ملاحظتها نتيجة لعوامل كثيرة تسكت صوت النساء. هذا الواقع في الغوطة أثّر على قدرة النساء على التعامل مع تبعات الضربات الكيماوية، وعلى المعرفة التي نملكها حول مُعاش النساء، وقواعد البيانات التي تخدم فهماً أفضل للأثر الجندري للمجازر الكيماوية، وبالتالي عدالة أكثر حساسية وشمولاً.
في المسارات التقليدية، يتمحور التركيز الأساسي للإجراءات القانونية حول تحديد ومعاقبة الشخصيات الرئيسية المعنية، مع معالجة الآثار الدولية والعلاقات الدبلوماسية. في خضم هذا السعي لتحقيق العدالة، يمكن أن تصبح الأبعاد الجندرية للمأساة، قصص النساء اللائي تعرضن للعنف والتشريد والصدمات، ثانوية.
عند دراسة مسار المحاسبة عن المجازر الكيميائية ومقارنتها مع مسار التقاضي الدولي الذي يستهدف مسؤولي النظام السوري لقضية المعتقلين/ات، يتضح الاختلاف المحوري الناتج من الإدراج الصريح للعنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي في لائحة التهم. وقد لعب هذا الإدراج دورا مهما في بناء سلسلة المسؤولية توجت بوضع بشار الأسد على قائمة العقوبات الأوروبية للجرائم المتعلقة بالعنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي. يتطلب السير في هذا الطريق جهداً هائلاً وشجاعة. ومن الأهمية بمكان الاعتراف بصعوبة هذا المسعى، لا سيما عند النظر في تعقيدات استنساخ جهود مماثلة. وبدون التزام دولي حقيقي بتحميل النظام السوري المسؤولية عن مذابحه الكيميائية، يصبح تكرار عملية المساءلة هذه أكثر صعوبة.
ضمن السياق الأوسع للمساءلة، تلعب ديناميكيات النوع الاجتماعي دورا مهما في تشكيل مسار العدالة. غالبا ما تتقاطع اختلالات القوة التي تديم العنف القائم على النوع الاجتماعي مع تحديات تحديد الجناة. يستلزم هذا التقاطع فهما لكيفية تشابك عدم المساواة الممنهجة بين الأنواع الاجتماعية مع الديناميكيات السياسية والاجتماعية، مما يؤثر على القدرة على محاسبة الأفراد على الضرر والانتهاكات الجندرية. في حين أن محاسبة الجناة أمر بالغ الأهمية، إلا أنه يمكن أن ينتهي بوضع أهداف سياسية قبل التعامل مع التحديات الفريدة التي تواجهها الفئات المهمشة على الأرض.
يمكن للمصالح الجيوسياسية أن تلقي بظلالها عن غير قصد على تقاطع ديناميكيات القوة وديناميات النوع الاجتماعي في النزاع، يُخفي التركيز على المصالح السياسية أحياناً الطريقة التي تختلط بها السلطة والنوع الاجتماعي. حيث يمكن أن يطغى السعي لتحقيق أهداف سياسية على فهم التفاعل المركب بين ديناميكيات السلطة وأدوار الجنسين. يعد فهم هذا الارتباط أمراً حيوياً لأن البنى الجندرية التقليدية والتوزيع غير المتكافئ للسلطة يؤثران على جوانب تتراوح من صنع القرار إلى الوصول إلى الموارد والتعرض للعنف القائم على النوع الاجتماعي. ويؤدي تجاهل هذا الاختلاط إلى فهم مجتزأ لآثار النزاع يحد من تطوير استجابات فعالة تعترف وتعالج الخبرات والاحتياجات التي تواجهها الأنواع الاجتماعية وتخفف من حدتها.
كذلك، تمتد قيود آليات العدالة التقليدية إلى ما هو أبعد من قدرتها على معالجة الحالات الفردية للعنف القائم على النوع الاجتماعي، فغالبا ما تفشل في معالجة الأسباب الجذرية الأوسع التي تمكّن من استمرار هذا العنف. يؤكد التحليل الحساس جندرياً على أهمية الاعتراف بالتقاطع بين أعمال العنف الفردية والهياكل الأكبر للسلطة والنظام الأبوي التي تسهلها. يضع هذا الفهم الأساس لآليات العدالة التي تتحدى، ولا تديم، الهياكل التي تدعم هذا العنف.
بالتوازي، وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن تأهيل وبناء قدرات الفاعلين/ات في بيئات ما بعد النزاع حول الآثار الجندرية للنزاعات أمر بالغ الأهمية. غالباً ما يرسم الخبراء والخبيرات القانونيون/ات وقوات حفظ السلام وأفراد العمل الإنساني والمجتمع المدني المحلي مسار التعافي. بدون فهم التعقيدات الجندرية للنزاع، قد تتجاهل جهودهم/ن دون قصد تفاصيل أساسية، وإغناء تدريباتهم/ن حول ديناميكيات الجندر للنزاع يضيف طبقات من العمق إلى نهجهم/ن.
إن مذبحة الأسلحة الكيماوية في سوريا ليست مجرد شهادة على الحجم المروع لانتهاكات حقوق الإنسان. إنها أيضًا مرآة للتحيزات ونقاط الهشاشة الجندرية الراسخة التي تطفو على السطح في أوقات النزاع. يتطلب تحقيق العدالة الحقيقية اتباع نهج قائم على النوع الاجتماعي، حيث يتم التعرف على التجارب المميزة للرجال والنساء والاعتراف بها، ومركزتها في أي مسار للمساءلة. تمتد هذه المسؤولية إلى إعادة تصور المساءلة من خلال منظور متعدد الجوانب، منظور يأخذ في الاعتبار القوة والسياسة والنوع الاجتماعي على قدم المساواة.
عندما يكون الطريق إلى العدالة ممهداً بإدماج النوع الاجتماعي، فإنه يَعِد برحلة لا تتعلق فقط بالعقاب، بل بالتعافي والنمو للجميع.