نساء ميريام تويز في كاميرا سارة بولي

نهى سويد| اللوبي النسوي السوري

مجتمعٌ دينيٌّ مغلق، يتسيّده الفكر الأصولي الرّافض لكل مظاهر الحضارة. إنَّهُ الفضاءُ العام للفيلم الروائي حديث النساء (Women Talking) الذي أخرجته  سارة بولي (Sarah Polley) ، فأعادت سردَ الرواية التي  بُنيَ عليها الفيلم لتُغني العمل، وتزيدُ من ثرائه الفني والفكري. ارتكزَ الفيلم في جميع محاوره على رواية  الكاتبة الكندية ميريام تويز الصادرة عام 2018 والتي تحمل نفس العنوان.

ما بين أدب الدستوبيا والأدب الواقعي الصادم بحقيقيته، يتأرجح خيال القارئ، إلى أنْ يُصابَ بالذعر حين يعلمُ أنّ الروايةَ مأخوذة عن قصةٍ حقيقيّة حدثت في مستعمرة مانيتوبا البولوفيّيا عام 2009 التي يقطنها مجتمع المينونايت.

حيث قامت مجموعة من الرجال  باغتصاب النساء  ليلًا بعد تخديرهن  برذاذ  يُستعملُ لتخدير الحيوانات، وقد تراوحت أعمار الضحايا بين أربعة أعوامٍ  وثلاثة وستين عامًا كانت النساء في كلّ صباحٍاً  يستيقظن  وآثار الاغتصاب واضحة على أجسادهن. بعد أربع سنواتٍ من استمرار هذه الاعتداءات خرجتِ  النساء عن صمتهِن، وتشاركْنَ الحديثَ،  ليعلمْنَ حينها أنَّ جميعَ نساء المستعمرة يتعرضْنَ للاغتصاب الليلي، وكان ردُّ الكهنة على الحدث: إنّه رِجْسٌ من عمل الشيطان أو خيالٌ أنثويٌ جامح.

لم يصوّر الفيلم  مشاهد الاعتداءات باستثناء لقطات سريعة من ذاكرةٍ تضجّ ذعرًا، وإنّما تناول آثار هذه الاعتداءات على النساء نفسيًا وجسديًا، سيما بعد اكتشافهنَّ للحقيقة وتسليم المعتدين للشرطة.

خرج من المستعمرة جميعُ رجالها ليدفعوا كفالةَ المعتدين، ويعيدونهم للبلدة مطالبين النساء بالمفغرة لهم.

ثمانُ نساء  من ثلاثة أجيالٍ انتُخِبْن بشكل ديمقراطي  من قبل نساء المستعمرة  ليتخذن قرارًا خلال 48 ساعة حيال ما حدث،  أي قبل عودة الرجال من المدينة، اجتمعتِ النساء في  حظيرةٍ للحيوانات، ليجدْن أنفسَهنَّ أمام ثلاث خياراتٍ إمّا البقاء والغفران، أو البقاء والقتال، أو المغادرة،  ووضعْن سلبياتِ وإيجابيات كلّ خيار:  حورات وسجالات وخلافات دارت على ألسنة بطلات الفيلم اللواتي أبدعْن بآداء أدوارهن، فالجيل القديم اتصف بالحكمة والقدرة على موازنة الآراء، وبتميز قلّ نظيره مثّلت  كل من (Judith lvey )  الجدة آغتا و( Sheila McCathy) العمّة غريتا هذا الجيل. بدور سالومي أدهشتنا (Claire Foy)  بغضبها الجامح وميلها  للقتال حتّى الموت، وهي أمٌّ شابّة لطفلةٍ مُغتصبَة يبلغُ عمرُها أربع سنوات  لنستنتجَ أنّ هذا الاجتماع مثّل كلَّ شرائح مجتمع المستعمرة، وكأنّه برلمانٌ مُصغّر. كل ما قامت به النساء من خيارات وحوارات واقتراحات كان  بمثابة البحث عن الممكن، إنّه فعلٌ سياسيٌّ بامتياز مرتبطٌ بشكلٍ عضوي بالنضال النِسْوي  كونه نضال سياسي بالدرجة الأولى.

تتميّزُ نساء المستعمرة بوعيٍ فطري صقلتْهُ قسوةُ الحياة، وتجاربهُنَّ الخاصّة والصدمات التي تعرضْنَ لها،  ولكنّ حواراتِهنَّ العميقة تعكس وعيًا فكريًا من المستهجن أنْ يتمتعْنَ به، فجميع النساء أميّات، وبسيطات بالمعنى المعرفي، وجُلّ الحوارات تطرحُ أسئلةً فلسفية ووجودية حول الذات الإنسانية وماهية الإيمان، هذا ما وضع الفيلم في مرتبة الفيلم النَخْبَوي،  وما جعل المتلقي بحاجةٍ إلى تفكيك أو تحليل تلك الأفكار، لا أظنُّ أنَّ مخرجةَ الفيلم مع كاتبته فاتَتْهما هذه النقطة، وإنَّما أعتقدُ أنّهما تجاوزتاها لإيصال رسالة من خلال شخصياتهن بسموٍّ وقوة معًا.

تناول الفيلم  بحبكة مشوّقة من خلال معظم مشاهده مفهومَ العنف، وكيفية التعاطي معه من منظورٍ نِسْوي، كما تناول تحليلًا لماهية العنف وأسبابه، عبر حوارات اتسمَتْ  بالسلاسة، وأوحَتْ بعمق ماوراء الكلمات،  سيما مانطقت به شخصية ( أونا) التي لعبت دورها الممثلة (Rooney Mara). وهي فتاةٌ عازبة، اتصفت شخصيتها بالهدوء والسلام الداخلي علمًا أنَّ لهذه الشابة معاناتها وألمها،  حيثُ تحملُ في أحشائها طفلَ مُغتصبِها. أونا مع باقي النساء اعتبرْنَ  بشكلٍ أو بآخر أنّ خيارَ البقاء وخوض معركة مع الرجال حتّى وإن كسبْنَ المعركة، وانتصرْنَ عليهم، هو فعل هادم،  فالسلوك العنفي هادم لا يبني مهما كانت نتائجه، وإن كان ولابدَّ من ذلك عليهن أنْ يعرفْن لماذا يقاتلْن؟ إذ يجبُ  وضع استراتيجية لمستقبل المستعمرة، وتغيير نظامها لصالحهن وعلى الرجال القبول بشروطهِن، وفي تحليل أونا لهذا المفهوم وجدت أنّ الرجال أيضًا هم  ضحايا السلطة الدينية المتطرفة التي جعلتهم على هذه الصورة، ولكنَّهم قبلوا بقوانين  هذه السّلطة ومارسوها على النساء. توصلتِ النساءُ  في نهاية الاجتماع أنَّ عليهن التركيز على ما يردْن بناءَه،  وليس بما يجب أنْ يُهدمَ  لذلك قررْن مغادرة المستعمرة حتَّى لا يتحولْن لمجرمات، وحتَّى يقمْن ببناء مجتمعهِنَّ الخاص الأكثر عدالة والأكثر مساواة، والأكثر لطفًا.

أوغست الرجل الوحيد الذي ظهر في الفيلم، متعلّم ويمتلك وعيًا مختلفًا، اتصف بالدماثة والرّقة والتعاون، لعب دوره بطل فيلم العطر  Ben Whishaw ،ولكن السؤال كيف وثقتْ به النساء وأطلعْنه على أخطر أسرارهن، هل فقط لأنه يعرف القراءة والكتابة، وهنَّ بحاجة إلى من يدوّن اجتماعهن، أم  رأيْنَ فيه انعكاس لصورة الرجل  الأمثل في داخل كل منهن؟

إنّ رود أفعال النساء حيال ماتعرضْن له من اعتداءات لم تكن واحدة، فجميعهن غاضبات،  وقد عبّرت كلُّ واحدة منهن عن غضبها بطريقتها التي وصلت أحيانًا إلى الانتحار. أو إلى تغيير هويتها الجندرية شكلًا،  كما فعلتْ ميلفن التي لَعِبتْ دورها الممثلة الشّابة (August  Winter) حيثُ دفعَتْها الصدمة إلى تغيير اسمها من ميلفن إلى بيتي، قصّت شعرها، وأصبحت ترتدي سراويل الرجال، لعلّها في ذلك تدرأ مخاطرَ أنوثتها.

بأصواتٍ عميقة حزينة تعكسُ رعبهنَّ الحقيقي،  كرّسَتِ النساء  بأفعالهنَّ مفهوم الأختية النِسْوية بأبهى صورها، وهنّ اللواتي لا يعرفْن القراءة والكتابة، ولا يعلمْن شيئًا عن شكل العالم خارج إطار بلدتهن الصغيرة. فقد دعمْن وحاولْن مداواةَ جراح بعضهن بعضًا،  وحولْن غضبَهِن وخلافاتِهن لطاقةٍ جبّارة  قي البحث عن الخلاص الجماعي، والتفكير بمستقبلٍ جديد لهنَّ معًا.

جُمَلٌ مختصرة صوّرت بشاعة الحدث، وما تركه من آثار  بالمعنى النفسي والجسدي على نساء المستعمرة خاطبتنا بها راوية الفيلم الطفلة (إيشا ) التي كان لها نصيبها من هذا الوجع،  لنستشفّ من خلالها ما بين السطور، وأنَّ النساءَ لم يعتدنْ يومًا على الحديث عن أجسادِهِنَّ، كأنَّ هذه الكتلة بثقلها غير مرئية بالنسبة لهنَّ، على الرغم من قداسة هذا الجسد المفروضة على النساء بحكم السلطة الأبوية  والمفاهيم الاجتماعية  لذلك يجب عليهنّ حماية هذا الجسد. النساء يشعرن بالحرج من الحديث عن أجسادهِنّ وعن رغباتها عن شكلها أمام المرآة عن حاجاتها، ماذا تحبُّ؟ وماذا تكره؟  فعندما تعرضْن للاعتداءات المتكررة بقين صامتات لفترةٍ طويلة إلى أن تغلّبْن على خوفهنَّ وصمتهنَّ، وبدأْن يتشاركْن الحديث.

لقد تحولت التعاليم الدينية بمعناها الروحي إلى دستور إرشادي للنساء أثناء حواراتهنَّ فإذا كان الكهنة قد وظّفوا هذه التعاليم لترسيخ سلطتهم، فالنساء تمكنّ من النفاذ لروحيّة هذه التعاليم بمعناها الجوهري، وابتعدن بهذه التعاليم عن الهيكل  السام الذي بُنيَ حول هذا الدين، فكان للنساء مفهومٌ خاص ولغةٌ خاصة ونقطة ارتكاز لإيجاد  طريق النجاة  من خلال منظور الإيمان، وهذا ما فرضَ علينا احترام  إيمان هؤلاء النساء واحترام مشاعرهنَّ حيال ما يؤمنّ به.

سينمائيًّا،  أسرَني الفيلمُ بمشاهده الشيّقة والممتعة بالمعنى البصري،  وأخذني بعيدًا  في مساحة قد لاتتجاوز 15 مترًا مربعًا كانت مقرًّا لاجتماع  تسعة أشخاص، فمعظم المشاهد تمّ تصويرها في هذا الفضاء الضيّق والذي هو حظيرة للحيوانات، المُلفت أنّه رغم ضيق الكادر لم أشعرْ بالملل، ولم أرَ تكرارًا للمشاهد، فكلُّ لقطةٍ سينمائية تحكي الكثير بصريًا وفكريًا، وكانت  الكاميرا تتحرّك  بانسيابية لحدّ لم أشعرْ فيه  بوجودها، لا بل حشرتني بعدم حياديتها لأجدَ نفسي كشخصية تعيش الحدث بمعناه الحقيقي في تلك الحظيرة. وقد ساعدت خطوط الإضاءة النافذة  بشكل أفقي من  فتحات الجدران الخشبية والتي انعكست على المكان والوجوه كأنَّها قضبانُ زنزانة في إيصال شعور معاناة السجين، فقد كانت إدارة الكاميرا مدهشة.

وفي نقلات الكاميرا القليلة من هذا الفضاء الضيق إلى الفضاء الأرحب إلى الحقول الواسعة الساحرة بطبيعتها، لن تشعر كمشاهد  بهذا السحر والجمال، فاختيار المخرجة لأسلوبية تصوير الألوان الباهتة غير المشبعة  يوحي بالكثير من الكآبة وبفراغٍ مخيف يعكسُ أرواح ساكنيها.

لكن، لماذا اختارت سارة بولي حظيرة الحيوانات مكانًا للاجتماع علمًا أنّ المكان في النص الأصلي هو إحدى بيوت المستعمرة؟ هل في ذلك إشارة من بولي لأنّ أعظم حركات التغيير في التاريخ انطلقت من قعر المجتمعات، ومن أكثر الأماكن تهميشًا؟

لفتني مشهد لأوغست وهو يقوم بتعليق رسومات الطفلات والأوراق الخاصة بالاجتماع على جدار الحظيرة،  وبدت جميعها على نسق واحد، وكأنّها معلّقة على جدار متحف. شعرت أن سارة بولي تريد أن تخبرنا بأنّا نحن من يعطي الأماكن قيمتَها ويصنعُ تاريخَها، وليس العكس. فكم من مكان مهملٍ لا قيمة له تحوّل بفعل العظماء إلى مَعْلمٍ تاريخي، وأصبح مقصدا لزوّار العالم.  استطاعت سارة بولي  وضع بصمَتها في عالم الإخراج بجدارة، واستحق هذا الفيلم حصادَه لجائزة الأوسكار عن أفضل سيناريو مقتبس 2023 ، كما استحقّ ترشيحَه لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم.  كيف لا وهي القائلة (لقد وضع الرجال قواعد صناعة السينما وها نحن الآن نقوم بتغييرها) فكان هذا المُنتَج استجابةً لصوتها الأنثوي. سارة بولي التي فقدت والدتها في الحادية عشرة من عمرها، وتعرّضت للاعتداء الجنسي في مراهقتها، أتى  فيلمها (حديث النساء) ردًّا صارخًا وصفعةً قوية على وجه كل من يتبنَّى الفكر الذكوري.

نهي سويد: ناقدة سينمائية وعضوة في اللوبي النسوي السوري

شاركنَ المنشور