ميسا صالح| الجمهورية
تُعدُّ جيردا ليرنر (Gerda Lerner) من أبرز الباحثات النسويات الرائدات في مجال تاريخ النساء. وُلدت في النمسا عام 1920، وعاشت في فترةٍ حرجةٍ من تاريخها حيث تصاعد نفوذ النازيّة، وشاركت ليرنر في حركة المقاومة السرية حينها. تم اعتقالها ونفيها مع عائلتها قبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1939. استكملت دراستها الأكاديمية في الولايات المتحدة وحصلت على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة كولومبيا عام 1966، لتقوم بعد ذلك بتأسيس برنامج الدراسات النسوية والتاريخ في جامعة ويسكونسن-ماديسون عام 1972، وهو أحد أوائل برامج الدراسات النسوية. يحتل كتاب نشأة النظام الأبوي1 الذي يركز عليه هذا المقال مكانةً بارزةً من بين مؤلفاتها، وهو الكتاب الوحيد المترجم إلى العربية.
نشأة النظام الأبوي
تضعُنا المؤرخة النسوية جيردا ليرنر Gerda Lerner في كتابها نشأة النظام الأبوي أمام عملٍ مرجعيٍّ وشيقٍ وتأسيسي يواجهنا بأسئلةٍ جذريةٍ حول تشكيل عالم البشر الذي نعيش فيه اليوم بمؤسساته وقوانينه ورموزه وتاريخه، والإقصاء المُتعمَّد والمُمأسس والمُؤدّلج لفئةٍ ديموغرافيةٍ كاملة متمثِّلة في النساء؛ من المشاركة في إدارة البشرية وتاريخها، بل وحتى القيام بمحو الأثر الأنثوي وإسهاماته في تطور البشرية، من خلال استبداله بأبطالٍ ورموزٍ ذكور يرجعُ إليهم وحدهم الفضل في ما وصلت إليها البشرية من خلال الحضارات الأولى وحتى يومنا هذا.
تؤطر ليرنر رأيها حول مفهوم «النظام الأبوي» من خلال مقابلاتها ومقالاتها وكتبها بالتعريف التالي: «أساس التفكير الأبوي مبنيٌّ على فكرة أن الرجال والنساء خُلِقوا على نحوٍ مختلف، ولهدفين مختلفين، وأن الرجال يمتلكون ذهناً مفكراً وذكاءً متفوقاً وقدرةً على القيادة، وبالتالي من الطبيعي أن يكونوا هم مَن يمتلك السلطة ويمثِّل النظام والحكم، بينما تُوصف النساء في النظام الأبوي على أنهن يمتلكنَ مستوىً فكرياً أدنى، لذلك يجب أن يخضعنَ ويتَّكلنَ على الرجال لأنهنَّ غير قادراتٍ على التفكير والتنظيم».
في كتابها نشأة النظام الأبوي، والذي استغرقها العمل عليه سبع سنوات منذ العام 1977، تأخذنا الكاتبة إلى عصورٍ وأزمنةٍ مختلفة عبر التاريخ في منطقة بلاد ما بين النهرين، لكن هذه المرة من نظرةٍ ومنظار نسوي يحاول أن يسلط الضوء على تاريخ النساء وعلاقتهنَّ بالتاريخ ورموزه وتكوينه، والطريقة التي أثّرت وتأثّرت بها هذه العلاقة، بالإضافة إلى محاولتها الإطلال على حافّة الأزمنة التي تغيرت فيها السردية التاريخية، لتصبح السردية التي تعرفها البشرية اليوم وتشكلت منها.
تقول جيردا ليرنر إن النظام الأبوي إنتاج تاريخي ساهم فيه الرجال والنساء ضمن سيرورةٍ استمرت 2500 سنة، وذلك منذ ظهور شكل الدولة القديمة والأسرة الأبوية، وإن الأدوار وأنواع السلوك التي تمَّت ملاءمتها للجنسين، أصبحت جزءاً من العادات والقيم والقوانين وشكّلت الأدوار الاجتماعية والبناء الثقافي والنسق التفسيري.
يعود تاريخ إحكام السيطرة على جنسانية النساء وقدراتهنَّ التناسلية وتسليعها إلى ما قبل خلق الحضارة الغربية، فمنذ تطور الزراعة في العصر النيوليثي نشأت ظاهرة تَبادل النساء بين القبائل بهدف نمو هذه القبائل، من خلال إنتاج عددٍ أكبر من الأطفال وبالتالي زيادة الإنتاج ومراكمة الفائض. فكانت النساء معرّضاتٍ للشراء والبيع والمبادلة، وكان تقديم الخدمات الجنسية والإنجاب جزءاً من وظيفتهن، وكان أطفالهنَّ مُلكيةً للأسياد الذكور. بعد السيطرة على النساء والأطفال تعلَّم الرجال كيف يستعبدون الرجال أيضاً كما يورد الكتاب، بدايةً ممّن ينتمون لمجموعاتٍ غريبة، ومن بعدها اتجهوا لاستعباد الرجال من مجموعاتهم نفسها. الدولة القديمة في الشرق الأدنى القديم، والتي بزغت في الألفية الثانية قبل الميلاد، كانت قد نُظِّمت بطريقةٍ رَسَّخ فيها الرجال الهيمنة على جنسانية النساء من خلال الأسرة، وكانت الدولة قد دعمت هذه السيطرة من خلال الامتيازات التي مُنحت لرب الأسرة، وتم حمايتها بالشرائع والقوانين التي طورتْ أدواتها لتُسيطر على السلوك الجنسي للمواطنين كوسيلةٍ للسيطرة على المجتمعات.
عبر أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة، كانت العائلة الأبوية مرنةً ومتنوعة، ففي النظام الأبوي الشرقي شاع تعدُّد الزوجات، وفي تطوره الأوروبي انتقل إلى الزواج الأحادي، وفي كل تطوراته كان يستند إلى معيارٍ جنسي مزدوج يضُرُّ بالنساء ويشكل جزءاً من النظام العام للدولة، حتى في الدول الصناعية الحديثة، والتي طورت علاقات ملكية أكثر مساواةً داخل الأسرة، والتي لا يهيمن فيها الأب بالسيطرة المطلقة، إلا أنها تتسم بعلاقات القوة الجنسية والاقتصادية داخل الأسرة. وفي بعض الحالات كانت العلاقات الجنسية تتسم بالمساواة، بينما ما تزال العلاقات الاقتصادية أبوية، وفي حالاتٍ أخرى كانت الحالة معكوسة، وفي كل الحالات بقيت الهيمنة الذكورية أساسيةً في الحياة العامة والمؤسسات والدولة.
«لا تعكس الأسرة النظام في الدولة وتربّي أطفالها على اتباعه فحسب، بل هي تخلق ذلك النظام وتدعمه».
لا تُغفِلُ جيردا ليرنر حقيقة أن النظام الأبوي قد ترسّخ من خلال التعاون مع النساء، وأن هذا التعاون تم تأطيره بطرق مختلفة؛ كالتلقين والحرمان من التعليم ومنع النساء من معرفة تاريخهنَّ والفصل بين الجنسين، وحتى فصل النساء عن بعضهنَّ البعض من خلال فرض القيود والتمييز في الوصول إلى الموارد الاقتصادية والسلطة السياسية، بالإضافة إلى تقديم الامتيازات الطبقية للنساء الخاضعات. الأمر الذي أجبر النساء، وعلى مدى أربعة آلاف عام، على تطويع حياتهنَّ وعملهنَّ تحت مظلة هيمنة النظام الأبوي، أو «الهيمنة الأبوية» بصفتها مصطلحاً يصف علاقة هيمنة مجموعةٍ عَدَّت نفسها متفوقةً على مجموعةٍ أخرى. توجّب على النساء مقايضة الخضوع بالحماية، والعمل غير المأجور بالغذاء، إلا أن القوانين التي تحمي العلاقة بين المجموعة المهيمنة والمجموعة الخاضعة لم تكن موزعةً بشكل متساوٍ حتى بين من يجب حمايتهم، إذ إنّ خضوع الأطفال الذكور لهذه الهيمنة هو خضوعٌ مؤقت، يزول عندما يصبحون هم أنفسهم أرباب أسرٍ جُدد يتمتَّعون بالامتيازات والسلطة الأبوية، الشيء الذي لا ينطبق على الطفلات الإناث والزوجات، اللواتي يَبقين خاضعاتٍ للهيمنة الأبوية إلى أن تنتقل هذه السلطة إلى رجلٍ (زوج) آخر، والذي يتحول إلى مقدِّم للحماية والدعم الاقتصادي مقابل خضوعٍ كامل وخدمةٍ جنسية ومنزلية من المرأة التي لا تُمنَح أي أجرٍ لقاء خدماتها، وتستمر هذه العلاقة بحماية القانون حتى إذا أخلَّ الشريك الذكر بالتزاماته.
غائبات عن تاريخ دوّنهُ الرجال
تفترض الكاتبة أن النظام الأبوي لم يكن يوماً طبيعيّ المنشأ، وإنما تم إنشاؤه وابتكاره وفرضه في فتراتٍ زمنية محددة مرتبطة بتطور البشرية، لتكسر الحاجز بين الثقافة التاريخية والنقد النسوي، ومحاولته تفكيك وإعادة فهم كيف وصلنا إلى ما نحن عليه، ولماذا ومتى، وما السياق الأوسع الذي بُنيَ عليه هذا التاريخ، وما هو هذا التاريخ على نحوٍ يميّز بين ما هو ماضٍ غير مُدَوَّن والماضي المُدَوَّن والمُؤَوَّل.
ففي التاريخ غير المُدَوَّن «كانت النساء وما زلنَ على غرار الرجال فاعلاتٍ في التاريخ، وبما أن النساء يشكلنَ نصف البشرية وأحياناً أكثر من نصفها، فقد شاركنَ العالم دوماً وعملنَ هنَّ والرجال بشكل متساوٍ. فالنساء كنَّ وما زلنَ محورياتٍ لا هامشيات في صناعة المجتمع وبناء الحضارة، وقد شاركت النساءُ الرجالَ أيضاً في حفظ الذاكرة الجمعية التي تصوغ الماضي في تراثٍ ثقافي، وتقدم الصلة بين الأجيال وتربط بين الماضي والمستقبل، وقد حوفظ على هذا التراث حياً في القصيدة والأسطورة التي أبدعها كلٌّ من الرجال والنساء وحفظوها في الفلكلور والفن».
أما في الجزء المُدَوَّن من تاريخ البشرية، وهو يفسر ماضيها ويشكل وعيها الحالي، والذي بدأ مع بداية الكتابة في بلاد ما بين النهرين، فهو تاريخٌ جزئي لأنه يحذف تاريخ نصف البشرية، وهو مشوه لأنه يروي القصة من وجهة نظر النصف الذكري من البشرية.
«فمنذ قوائم الملك في سومر القديمة، انتقى المؤرخون – سواء كانوا كهنة أو خدماً للملوك، موظفين، أو رجال دين، أو طبقة محترفة من المفكرين المدربين في الجامعة – الأحداث كي تُدَوَّن، وفسروها لكي يمنحوها المعنى والدلالة. وحتى تاريخٍ قريب كان المؤرخون رجالاً، وما دوّنوه هو ما فعله الرجال وجربوه ووجدوه مهماً. أطلقوا على هذا اسم التاريخ وزعموا أنه كونيٌّ، غير أن ما فعلته النساء وجرّبنَهُ تُرك من دون تدوين وأُهمل وتم تجاهله في التفسير. ونظرت الثقافة التاريخية حتى الماضي القريب جداً إلى النساء كهامشياتٍ في صناعة الحضارة وغير أساسياتٍ لهذه الأهداف التي تُعرَّف بأن لها أهمية تاريخية».
لا تنفي جيردا ليرنر أن التاريخ همّش ذكوراً أيضاً وحذَفهم من السجل التاريخي عبر تأويلاتٍ مسبقة لمفكرين يمثلون اهتمامات نخبٍ حاكمة صغيرة، وأن هذا الخطأ لا يُلغي الخطأ الآخر (حذف السجل التاريخي للنساء)، بل يحتاج الخطآن إلى التصحيح، وهذا حدث تاريخياً عندما صعدت المجموعات الخاضعة سابقاً كالفلاحين والعبيد والبروليتاريا إلى موقع القوة ودخلت نظام الحكم ففرضَت تجاربها على السجل التاريخي. لكن حتى في هذه التجارب كان الرموز ذكوراً في داخل المجموعات، أما الإناث فقد تم إقصاؤهنَّ كالعادة، بسبب جنسهم، رغم أنهنَّ عانينَ الاستعباد والتمييز بسبب طبقتهنَّ كما الرجال، ولم تسجل إسهاماتهنَّ في صناعة التاريخ.
«إن النساء فاعلات في التاريخ، فالنساء ’صنعنَ التاريخ‘، إلا أنهنَّ أُبعدنَ عن معرفة تاريخهنَّ وعن تأويل التاريخ سواء كان تاريخهنّ أو تاريخ الرجال، فقد تم إقصاء النساء بشكل ممنهج من إنشاء الأنظمة الرمزية والفلسفات والعلم والقانون ولم تُحرم النساء من التاريخ في المجتمعات المعروفة كلها فحسب، وإنما استُبعدنَ أيضاً من صياغة النظرية».
جدل تاريخ النساء
تصف الكاتبة هذا التوتر بين تجربة النساء التاريخية الفعلية واستبعادهنَّ عن تأويل تلك التجربة بــ«جدل تاريخ النساء» الذي دفع النساء إلى الأمام في السيرورة التاريخية، حيث أن التناقض والتوتر بين محورية دور النساء في إنشاء المجتمعات وهامشيتهنَّ في التأويل والتفسير التي تمنح المعنى قوةً دينامية، كان سبباً في نضال النساء ضد وضعهن، وشكل وعيهنَّ حول التناقضات في علاقتهنَّ مع المجتمعات والسيرورة التاريخية، وحوَّل هذا الوعي إلى قوةٍ حركَتهن نحو بناء علاقة جديدة مع المجتمعات التي يسيطر عليها الذكور. هذه العلاقة التي تحتاج مفاهيم وتعريفات جديدة تحتاج الجواب على سؤالين أساسيين طرحتهما الكاتبة: ما هي التعريفات والمفاهيم التي نحتاج إليها لكي نشرح العلاقة الفريدة للنساء مع السيرورة التاريخية، مع صناعة التاريخ وتأويل ماضيهين؟
يرتبط السؤال الثاني بالزمن الذي احتاجته النساء للوصول إلى هذا الوعي لموقعهنَّ الخاضع في المجتمع، والذي احتاج أكثر من 3500 سنة، فما الذي يمكن أن يشرح «تواطؤ» النساء في دعم النظام الأبوي الذي أخضعهن، وفي نقل ذلك النظام جيلاً بعد آخر إلى أولادهن من الجنسين؟
في السعي للإجابة على هذه الأسئلة تدعو ليرنر بدايةً إلى عدم التسليم بالفرضية التي قدمتها الثقافة الذكورية التقليدية، والتي تدّعي أن النساء كنَّ مشغولات في وظيفتهن البيولوجية وطبيعتهن «الحنونة والعاطفية» التي قادت إلى تبعيتهن، واستبدال هذه الفرضية بــ«أن النساء والرجال مختلفون بيولوجياً، في حين أن القيم والمعاني الضمنية المستندة إلى هذا الاختلاف ناتجة عن الثقافة».
وللبحث عن بداية تشكيل النظام الأبوي كنظام تاريخي له بداية في التاريخ، وأن سيرورة تاريخية يمكن أن تنهيه، ممّا ينفي «طبيعته» أو استناده إلى حتمية بيولوجية؛ ذهبت ليرنر في بحثها إلى عصورٍ سبقت تاريخ الحضارة الغربية، إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد ودراسة تاريخ بلاد ما بين النهرين، وحلّلته وفككته من منظورٍ نسوي للتاريخ. بحثتْ عن النساء ورصدت واقعهنَّ ومواقعيتهنَّ ضمن مجتمعاتهن، والتي كانت تختلف بشكل كبير، ووجّهت تركيزها في البحث على السيطرة على جنسانية المرأة وقدرتها التناسلية أكثر من التركيز على الأسئلة الاقتصادية المعتادة.
يورد الكتاب مثلاً كيف كانت جنسانية النساء في بابل في الألفية الثانية قبل الميلاد خاضعةً للسيطرة المُحكمة الكُليَّة للرجال، فيما تمتّعت بعض النسوة باستقلالية اقتصادية كبيرة وبكثيرٍ من الحقوق والامتيازات وشغلنَ الكثير من المواقع المهمة والمرموقة في المجتمع.
«لاحظتُ أن سياق الأحداث بدا مختلفاً عما توقعتُه، فرغم أن تشكيل الدول القديمة، الذي تبع أو تزامن مع تغيرات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية رئيسية، أحدثَ تغيراتٍ متميزة في علاقات القوة بين الرجال وبين الرجال والنساء، فإنه لم يكن في أي مكان دليل على أن هناك ’إطاحة‘ بأن حقبة ’إنشاء النظام الأبوي‘ لم تكن حدثاً واحداً، بل سيرورة تطورت على مدى 2500 سنة تقريباً، من حوالي 3100 الى 600 قبل الميلاد، وقد حصلت حتى داخل الشرق الأدنى في مراحل مختلفة وفي أوقات مختلفة في عدة مجتمعات متميزة».
مأسسة وقوننة السيطرة على النساء وجنسانيتهنَّ
تقول الكاتبة إن السيرورة التي صارت بها القرى اليولوثية المبعثرة جماعاتٍ زراعية، ثم مراكز مدنية، وأخيراً دولاً ونشوء الحضارة؛ حصلت في أزمنة مختلفة في كل مكان في العالم، (أولاً في أودية النهر الكبير والأودية الساحلية في الصين، في بلاد ما بين النهرين، مصر، الهند، وأميركا الوسطى، وفيما بعد في أفريقيا وشمال أوروبا وماليزيا)، واتسمت الدول القديمة كلها ببزوغ طبقات ملكية وبالتسلسل الهرمي، وإنتاج السلع، والتجارة المنظمة، بالإضافة إلى بزوغ ودمج النخب العسكرية، والمَلَكية، ومأسسة العبودية، والانتقال من هيمنة الأنساب الى العائلات الأبوية كنمط رئيسي لتوزيع البضائع والسلطة.
تقدم جيردا ليرنر رصداً مدعوماً بدراساتٍ أثرية وأنثروبولوجية، وبالأدلة التي تم اكتشافها في منطقة ما بين النهرين، للتغيرات في الخصائص الاجتماعية التي تأثرت بالتغيرات المدينية، وخاصةً في ما يتعلق بوضع النساء وتطور مفاهيم الجندر في تلك المجتمعات. بالإضافة إلى المُكتَشفات الأثرية ودراسة المغزى والمعنى منها، حلّلت الكاتبة القوانين والمراسيم والتشريعات التي عُمّمت عبر فتراتٍ مختلفة ما قبل الميلاد، وما خُصِّص منها لجنسانية النساء بحسب طبقاتهن وسلطاتهن الاجتماعية، ومحاولة قوننتها ومأسستها، والعقوبات التي رافقتها ضمن الأنظمة والشرائع، والتي شكلت في الكثير منها تغيرات جذرية في وضع النساء ومكانتهن وأساليب التعايش معها في هذه المجتمعات؛ وكيف بنى الرجال والنساء علاقاتٍ اجتماعيةً مهّدت الطريق للهيمنة والتسلسل الهرمي؛ وكيف بنى التقاء عدد من العوامل إلى اللاتماثل الجنسي، وإلى تقسيم العمل الذي وقع بشكلٍ غير متوازن وغير متكافئ على الرجال والنساء، ومنه بَنَت القرابة علاقة اجتماعية بطريقة بودلت بها النساء في الزواج، وحصل الرجال على حقوق معينة في علاقتهنَّ بالنساء لا مقابل لها في الاتجاه المعاكس، أي ما يخص حقوق النساء في علاقتهنَّ بالرجال؛ وكيف صارت جنسانية المرأة وقدرتها التناسلية سلعة للتبادل أو الاكتساب من أجل خدمة العائلات؛ وكيف تم التفكير بالنساء كمجموعة تتمتع باستقلالية أقل من الرجال؛ وكيف أصبحت بعض النساء حاميات للنظام الأبوي ضمن أدوارهنَّ ومكانتهنَّ وطبقاتهنَّ الاجتماعية، وتطوير أدوات الهيمنة والاستعباد.
ركزت الكاتبة على القوانين المفروضة على جنسانية المرأة وربطها بالطبقة والسلطة والعائلة، ومرت على تشريعات خلال فترات زمنية مختلفة ومنها قوانين الفترة الوسطى الآشورية، الشريعة اليهودية وشريعة حمورابي.
وفي عرض عدة قوانين مهمة شرّعها حمورابي خلال فترة حكمه، توضح فيها حجم السيطرة والهيمنة على جنسانية النساء في تلك الفترة وعلى اختلاف مواقعهنَّ الاجتماعية والطبقية، واستخدام النساء والأطفال ـ بشكل رسمي- كسلعة ومُلكية مطلقة للرجال. بالإضافة إلى تسليط الضوء على العلاقات التي تمت قوننتها بين النساء ذاتهنّ على أساس طبقتهنَّ المرتبطة بطبقة الرجال في عائلاتهنَّ، وعلاقة النساء في كل طبقة بمراكز العبادة، ومأسسة العبودية والسيطرة على جنسانية العبيد من النساء المتصلة باستغلال اقتصادي متجلي في الأسرة الابوية والدولة القديمة.
أظهرت الكاتبة الصلة بين الملكية والجنس والحق العرفي لأعضاء الأسرة الذكور في مبادلة أفراد الأسرة من الإناث، والذي كان أحد العوامل التي قادت إلى صعود وتطور العائلة الأبوية. من خلال رصد هذه التشريعات لفترة ألف عام، والتي «نقلت الهيمنة الأبوية من الممارسة الخاصة – التي كان يمارسها الأزواج أو أرباب الأسر – إلى مسألة تقوننها وتتبناها الدولة».
كما تسلط الكاتبة الضوء على القوانين والتشريعات التي ربطت بين الحجاب والدعارة، وخاصة في قوانين الفترة الوسطى الآشورية، والتي فُرضت للتمييز بين النساء «المحترمات» و«غير المحترمات» من خلال النظر إليهنَّ. والعقوبات القاسية التي فُرضت على النساء والرجال الذين يتساهلون في معاقبة النساء والإبلاغ عنهنَّ في حال قامت امرأة «غير محترمة» بارتداء الحجاب، كإشارة الى أن مسألة تصنيف النساء بين محترمات وغير محترمات صارت مسألة تتعلق بالدولة.
ومن خلال سردها وغوصها في تفاصيل مثيرة للاهتمام تُبيّن «كيف أنشأت مأسسة النظام الأبوي في مجتمعات بلاد ما بين النهرين حدوداَ فاصلة بقوة بين طبقات النساء، رغم أن تطور تعريفات الجنس الجديدة، والعادات المرتبطة به، استمر بصورةٍ غير متساوية، فالدولة أثناء سيرورة تأسيس الشرائع زادت من حقوق ملكية نساء الطبقة العليا بينما قيدت حقوقهنَّ الجنسية، وفي النهاية تآكلت كلها وصارت اتكالية النساء مدى الحياة على الآباء والأزواج متأصلةً بقوة القانون والعرف واعتبرت ’طبيعية‘ وموهوبة من الله».
أما نساء الطبقة الأدنى فقد خدمت قوة عملهنَّ إما عائلاتهنّ، وإما الذين كانوا يملكون خدمات عائلاتهن. فقد سُلِّعت مقدراتهنَّ الجنسية والتناسلية وتُوجر بها وأُجّرت أو بِيعت لفائدة أعضاء الأسرة الذكور، وأُقصيت النساء من الطبقات جميعها ومن السلطة العسكرية. ومع بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، أُقصين من التعليم بقدر ما صار متمأسساً.
«نص البند 119 من شريعة حمورابي على أن الرجل الذي قدم محظيته العبدة التي أنجبت له أولاداً كرهنٍ للدَين حتى عبر بيع مباشر، له الحق في استعادتها من الشاري الجديد إذا عوَّض عن ثمن الشراء. وبينما حددت هذه الفقرات الشرطية تحسّناً معيناً في نصيب رهون الدين الأنثوية، فإنها في الواقع حمت حقوق الأزواج (المستدينين) ضد حقوق المقرضين. وبقيت فرضيتان متضمَّنتان في هذه القوانين غير ممسوستين: أن للقريب الذكر حق التصرف على أقربائهم الإناث، وأن زوجة رجلٍ وأولاده هم جزءٌ من ملكيته التي يجب أن يقرر مصيرها.
إذا تذكّرنا بأننا نصف هنا فترة تاريخية لم تُدوَّن فيها بعد حتى قوانين الأحوال الشخصية، نستطيع أن نبدأ بتقدير مدى تجذُّر تعريفات الجندرة في الحضارة الغربية. كان منبتُ العلاقات الأبوية بين الجنسين قد ثبّت بقوة قبل أن تُمَأسس التطورات الاقتصادية والسياسية للدولة، وقبل وقت طويل من تأسيس إيديولوجية النظام الأبوي».
خلق وتبديل الرموز – النساء والآلهة
تفترض الكاتبة أن تلازُمَ تطور الزراعة مع نزعةٍ عسكرية متزايدة، أحدث تغيّراتٍ رئيسية في المعتقدات والرموز الدينية، وأن مرتبة شخصية الإلهة الأم تم خفضها مقابل صعود وهيمنة شريكها/ابنها الذكر فيما بعد، ثم اندماجه وتحوله لخالق وإله ذكر. كما تفترض أن الدين كان استجابة وانعكاساً للأوضاع الاجتماعية في المجتمعات المختلفة، إذ لا يمكن إنشاء البُنى الذهنية من الفراغ، فهي على الدوام تعكس أحداثاً ومفاهيماً لكائنات بشرية تاريخية في المجتمع.
سعت ليرنر من خلال إعادة قراءتها وتحليلها لرمزية الجنس في قصص الخلق والأساطير، وربطها بالأدوار والهويات الجنسية في المجتمعات، وعلاقتها بالطبيعة، إلى رصد التغيّرات في قصص الخلق لدى مجتمعات الشرق الأدنى القديمة أثناء الألفية الثانية قبل الميلاد. كما تحاول مراجعة هذه التطورات وتحليل معناها والتركيز على الاستعارات التفسيرية والرموز الرئيسية، التي تتمحور بشكل أساسي حول الأسئلة الجوهرية التي يجب على كل الأديان أن تجيب عليها، وهي: 1- مَن يخلق الحياة؟ 2- مَن الذي يُحضر الشر إلى العالم؟ 3- مَن يتوسط بين البشر وما هو فوق الطبيعي؟ أو إلى مَن يتحدث الله؟
تشير الكاتبة إلى «أن مفهوم الخلق قد تغيَّر في فتراتٍ معينة من التاريخ من كونه مجرد العمل انطلاقاً من قوة الخصب الأنثوية الصوفية، إلى كونه فعلاً واعياً للخلق يشمل غالباً شخصيات إلهية من الجنسين. إن عنصر الوعي هذا المُعبّر عنه في ’الفكرة‘ و’المفهوم‘ و’الاسم‘ ذلك الذي سيُخلق، قد يكون انعكاس وعيٍ بشري تبدَّل بسبب تغيرات مهمة في المجتمع». وأن هذه الفترات التي تم فيها تبديل الرموز ظهرت بشكلٍ أساسي عند البدء بالكتابة، والتغيّر الرئيسي الثاني القابل للملاحظة في أساطير الخلق متزامنٌ مع نشوء الدول القديمة تحت حكم ملوك أقوياء، وبعدها مع نشوء الأديان التوحيدية. وأن الهيمنة الذكرية على نظام الرمز اتخذت شكلين: حرمان النساء من التعليم واحتكار الرجال للتعريف.
أما في ما يخص دور الوساطة، فهي مهمة ذكورية على نحوٍ شبه حصري كما يورد الكتاب: «لا يستطيع أحد أن يتوسط بين الله والبشر سوى الذكور، وقد عُبر عن ذلك رمزياً في الكهانة الذكرية الشاملة والطرق المتنوعة في إقصاء النساء من الطقس الديني الأكثر جوهرية… وقد حرمت النساء من المدخل المتساوي لتعلُّم الدين والكهانة، وبذلك حُرمنَ من القدرة على تأويل وتبديل نظام الإيمان الديني».
في النهاية، ترى جيردا ليرنر أن الهيمنة الذكرية على نظام الرمز اتخذ شكلين: حرمان النساء من التعليم، واحتكار الرجال للتعريف. وعلى الرغم من وجود الكثير من النساء اللواتي تمتّعنَ بحق التعليم وكنَّ مبدعاتٍ ومثقفات كامتياز لانتمائهنَّ الطبقي النخبوي، إلا أن الهيمنة الذكورية على التعريف والتفسير جعل هؤلاء النساء مغيباتٍ وغير مرئياتٍ ولم يتركنَ أثرهنّ على هذا التعريف والتفسير على مدى أربعة آلاف عام تقريباً.
كما أن ما بدأ باستيلاء الرجال على رموز الآلهة وتحويلها وتبديلها من آلهة أنثوية إلى آلهة ذكورية، تطور بعد ذلك إلى إعادة تعريف الوجود الأنثوي بطريقة محدودة واتكالية، وكذلك فإن استعارات الجنس نفسها عبّرت عن الذكر «كسوِي» وعن المرأة «كمنحرفة»، عن الذكر ككاملٍ وقوي، وعن المرأة كناقصة. وقد اتخذت هذه التعريفات لنفسها مكاناً في سرديات علوم اللاهوت، والفلسفة اليونانية، والتراث القانوني الذي بُنيت عليه الحضارات. «فسّر الرجالُ العالمَ بمصطلحاتهم الخاصة وعرّفوا الأسئلة المهمة لكي يجعلوا من أنفسهم مركز الخطاب».