يعد التنظير النسوي حول الاضطهاد أساسيًا لفهم النظام الأبوي وشرحه. فلا يكفي أن نقول أن النساء تعاني أو تتألم، لكي نبيّن ضرر النظام الأبوي. من المهم أيضًا معرفة أن الاضطهاد كفسيفساء يعتمد عليها هذا النظام في كبح الحياة، ووضع قيود اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية على الفتيات والنساء. مما يجعل الحديث عن الاضطهاد غير قابل للاختزال في وضعٍ واحد.
في كتابها الاستثنائي المهم (سياسات الواقع – The Politics of Reality) تقدم مارلين فري مجموعة من الأطروحات التي تعد مفتاحًا رئيسيًا لشرح مجموعة من المفاهيم النسوية في تسع جدليات فلسفية. أربعة منها حول اضطهاد النساء، وأربعة عن التمرد والمقاومة، وواحدة عن الثورة، إذ تمزج مارلين بين التحليل الفلسفي للغة والمقاربة الكويرية.
يعتبر الإسهام الأكبر للكتاب هو الفصل الخاص بتحليل الاضطهاد. والذي عرّفت فيه معايير الاضطهاد، وكيف يتم استخدامه في النظرية النسوية.
النسوية هي معركة ضد أنواع متعددة من الاضطهاد، تعترف بتباينه وتشعبه وتدعو، كما بينت مارلين فري، للنظر إليه من زواياه المتعددة.
كيف تعرف مارلين فري الاضطهاد؟
افتتحت أطروحتها بتصريح قالت فيه: “إن اضطهاد النساء هو ادعاء أساسي بالنسبة للنسوية”. وذلك من أجل التشديد على أن الجهود النسوية لا زالت تنصب على إثبات أن النساء مضطهدات. لذلك لم تركز في هذا الفصل على إثبات أن النساء مضطهدات، بل على تقديم تعريف وتوضيح تفصيلي عن ماهية الاضطهاد.
تغوص مارلين فري في المعنى الاشتقاقي لكلمة الاضطهاد في اللغة الإنجليزية، لتعطي بذلك تصورًا يبين أن الكلمة تقييدية في طبيعتها. أي أن كلمة الاضطهاد تعني أن شيئًا ما يتم حجزه بين قوى وقيود مرتبطة ببعضها بشدة، وتعمل معًا لكبح أو منع أو تقييد هذا الشيء من الحركة.
أبرزت مارلين أن المعيار الأساسي لتعريف الاضطهاد هو أن المُضطهدات/ين تم الحجر على حركتهن/م، حتى وصلن/وا إلى اللحظة التي أصبحن/وا فيها مقيدات/ين في قوالب محدودة.
كما تشرح مفهوم الاضطهاد من خلال ما أطلقت عليه “القيد المزدوج”، وتشرح أن النساء عالقات أساسًا في مأزق مزدوج. بالنسبة لها، هو أحد أكثر “سمات العالم انتشارًا كما يختبرها الأشخاص المضطهدات/ون”. وهو الحالات التي يواجه فيها الأفراد (النساء) عقوبات على خياراتهن/م بناءً على انتمائهن/م لمجموعة مضطهدة. حيث يتم عقابهن بشكلٍ جماعي بواسطة المؤسسات والطقوس والسياسات.
تواجه النساء مثل هذه الروابط المزدوجة ليس فقط على نطاقٍ صغير وعلى مستويات عادية، ولكن أيضًا على مستوى وجودي أكبر. حيث يمكن أن يؤدي أي خيار لا يقبله المجتمع الأبوي إلى عواقب وخيمة. ويتم إجبار النساء على العيش في مثل هذا المجتمع الأبوي المليء بالروابط المزدوجة.
الاضطهاد هو قفص العصافير
في كتابها، تشرح مارلين فري أن اضطهاد النساء يمكن أن يتم فهمه من خلال النظر إلى فعل الاضطهاد مثل قفص العصافير الذي تحاصر فيه النساء. إذا نظرنا إلى سلكٍ واحد فقط من القفص، سنفشل في رؤية جميع الأسلاك الأخرى التي تشكله وتترابط معه.
لكن عندما نتراجع إلى الوراء، وننظر إلى القفص كنظامٍ كاملٍ من الأسلاك المتشابكة، فسندرك أن الطائر ليس لديه فرصة للهروب بسبب كل الحواجز الموضوعة في طريقه.
وهذا هو الحال بالنسبة للنساء. عندما يحاول شخص ما رؤية اضطهاد النساء، فمن المفترض أن تتم رؤية اضطهادهن بشكلٍ كليّ مع هياكله المتقاطعة. إنما لو نظرنا إلى عناصره بشكلٍ فردي، سنفشل في فهم العناصر التي تجبر الشخص على البقاء في القفص، وتحد من منافذ الهروب منه.
بدلاً من ذلك تحث مارلين على النظر إلى جميع الحواجز التي تواجهها النساء في وقتٍ واحد. وذلك لنرى أن النساء ليس لديهن طريقة للهروب من الاضطهاد دون بذل جهود متواصلة من كل شخص متورط فيه، بما في ذلك الرجال المستفيدين منه.
وأخيرًا تعرّف مارلين فري الاضطهاد بأنه “مجموعة من القيود المنهجية التي تعزز بعضها البعض في الحياة اليومية، حيث تشكلها حواجز ليست عرضية أو يمكن تجنبها. ولكنها مرتبطة بشكلٍ منهجي ببعضها البعض بطريقة تؤدي إلى التماسك فيما بينها لتُقيد أو تعيق الحركة في أي اتجاه”.
إظهار السعادة في الاضطهاد
تحلل مارلين فري الاضطهاد أيضًا من زاوية أنه تشكيل سياسي للمشاعر حسب مصلحة النظام الأبوي. حيث ترى أن الاضطهاد المتبوع بالعقوبات يجعل النساء مطالبات بإظهار علامات السعادة كدليلٍ على رضوخهن.
كما لو أنه من المفروض على الأشخاص المضطهدات/ين الابتسام والابتهاج لتحسين مشاعر مَن يقوم بالاضطهاد.
وفي هذا، على وجوهنا أن تبقى سعيدة ومشرقة، لكيلا يُنظر إلينا على أننا لئيمات وغاضبات، وبالتالي خطيرات.
يصبح الابتسام إلزاميًا، على الأقل بالنسبة للنساء اللواتي عليهن إثبات استيعابهن لنظام لا يستوعبهن.
الحجة القائلة بأن الرجال مضطهدون، غالبًا ما يتم دعمها بحقيقة أن الرجال غير قادرين على البكاء أو التعبير عن المشاعر. وفي حين أن هذا صحيحٌ، يمكن للواحدة منّا أن تجادل في أن هذا لا يؤثر على حياة الرجال الفعلية.
هل معاناة الرجال مع الأبوية تعني أنهم مضطهدون؟
تُطرح قضية “الرجال مضطهدون أيضًا” دائما كحجة ضد النسوية. وغالبًا ما يكون هذا الخطاب موجهًا لتقويض شرح اضطهاد النساء كسياسة ممنهجة ومنظمة من المؤسسات السياسية والاجتماعية.
ومع ذلك، لا بد من شرح أن نضال النسوية ضد النظام الأبوي هو تحطيم لقيمه التي تنتج المعاناة في صفوف الجميع. ترى مارلين فري أن القول بأن الرجال ليسوا مضطهدين، لا يعني أن الرجال لا يعانون أو يعيشون تحت ضغوطات هائلة من الأبوية.
ولكنه يعني ببساطة أنهم غير مضطهدين من خلال الهياكل المصممة خصيصًا للحد من حركتهم. وليس عليهم أن يتنقلوا في عالمٍ ذي قيود مزدوجة. أي لا يتم وضع قيود على أجسادهم وكياناتهم تعرضهم للخطر، كما النساء والأقليات الجندرية.
تقول مارلين فري أن الحجة القائلة بأن الرجال مضطهدون، غالبًا ما يتم دعمها بحقيقة أن الرجال غير قادرين على البكاء أو التعبير عن المشاعر. و”في حين أن هذا صحيحٌ”، يمكن للواحدة منّا أن تجادل في أن هذا لا يؤثر على حياة الرجال الفعلية.
يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن القيود التي يواجهها الرجال، مثل عدم القدرة على التعبير عن المشاعر، لا تفيد أي شخص آخر. بينما تساعد القيود المفروضة على النساء في تشكيل السلطة الذكورية الموضوعة في يدِ الرجال المنسجمين مع الجندر. فكلمة “مضطهد”، تعني شيئًا عالقًا بين السلطة والحواجز التي ترتبط ببعضها البعض بحيث تعمل معًا على تقييد أو منع حركة هذا الشيء/الشخص.
لذلك، فنفي الاضطهاد الأبوي عن الرجال لا يعني عدم تعرضهم لأنواع أخرى من الاضطهاد مثل الاضطهاد السياسي والطبقي والعنصري. لكن إحساسهم بالمعاناة واختبارها من النظام الأبوي يبقى محدودًا، مقارنة بالنساء والأشخاص من هويات جندرية غير نمطية منه.
الحل هو إنهاء النظام الأبوي وليس المنافسة في المعاناة
إن الاعتراف بالعنف والاضطهاد الممنهج الذي تتعرض له النساء، لن يسحب من الرجال فرصة أن يظهروا معاناتهم. بل يمكّنهم من النظر إليها في حقيقتها كمأساة إنسانية.
تُقيّد النساء والمجتمعات الكويرية في هذا العالم الأبوي المغاير. وذلك من خلال أنظمة مؤسساتية لا تؤثر على الرجال المطابقين للجندر بنفس الطريقة. وتُجبر النساء على الالتزام بالمعايير الأبوية من أجل البقاء على قيد الحياة.
لذلك لا يمكن إنهاء النظام الأبوي من خلال المزيد من التهميش لأصواتهن، أو منافستهن على المعاناة الناتجة عن الأبوية.
النسوية هي معركة ضد أنواع متعددة من الاضطهاد، تعترف بتباينه وتشعبه وتدعو -كما بينت مارلين فري- للنظر إليه من زواياه المتعددة. لذلك، لا يمكن أن تنتهي فيه المعاناة بشكلٍ فردي، ولا يمكن أن تتوقف سوى بإنهاء الاضطهاد نفسه، وإنهاء النظام الأبوي والأنظمة القمعية.