كيف نفهم الشجاعة من منظور نسوي؟

فرح يوسف| الجمهورية

لا يسعى هذا النص لاستعراض التحديات التي يواجهها العمل النسوي السوري؛ من مخاطر أمنية وصعوبات تمويل وإقصاء مجتمعي وسياسي، وقمع ديني. هذه التحديات باتت معروفة، خصوصاً بالنسبة للنسويات والنساء اللاتي يُعايشنها ويعملنَ في ظلِّها، كما أنها ليست خفية عن المجتمع الدولي والجهات الفاعلة سياسياً. إضافة إلى ذلك، لا يسعى هذا النص إلى تبنّي نظرة حالمة، بل الاشتباك مع فكرة الشجاعة، والتجرؤ على مناقشة آليات عمل نسوية بديلة.

كيف نفهم الشجاعة من منظور نسوي؟

يستلزم النّظر إلى مفهومَي الشجاعة والمقاومة من خلال عدسة نسوية، لا سيّما في المشهد الجيوسياسي المعقد لسوريا، تبنّي نظرة تقاطعيّة رحيمة، وتطبيقها عملياً على مختلف المستويات. ترتبط الشجاعة ارتباطاً جوهرياً بالمفهوم النسوي للمقاومة والقدرة على تحدّي الهياكل الأبوية. وفي السياق السوري، تأخذ هذه الشجاعة شكلَ التصدي للأعراف التقليدية التي تضطهد أو تُسكِت الأصوات المهمشة، لا سيّما النساء والأقليات الجنسية، والمُناصَرة الهادفة إلى تحقيق المساواة بين الجنسين في جميع جوانب الحياة، من حقوق اجتماعية وثقافية إلى تمثيل سياسي وفرص اقتصادية. الشجاعة في السياق النسوي أكثر من مجرَّد إقدام أو جُرأة، بل تشمل مجابهة آليات القمع، وجعل المجتمع أكثر إنصافاً، ومواجهة تحديات بناء السلام، والعمل في بيئات النزاع.

في كثير من البلدان التي تمرّ بأزمات مثل سوريا، اضطّرت النساء في الغالب ليكنّ بمثابة العمود الفقري في مجتمعاتهن، حيث أُجبرنَ على إظهار قوة غير عادية وقدرة هائلة على التكيُّف في مواجهة الشدائد. عند نقاش الشجاعة، يمكن التطرق إلى مفهوم الصلابة، بمعنى التكيُّف مع الظروف، والتعاطي معها، والقدرة على تطوير آليات النجاة فيها. تأخذ الشجاعة، في هذا السياق، الصلابة إلى ما هو أبعد من النجاة الفردية، فتربِطها بتسخير القوة الجماعية لإحداث التغيير، وخلق مجتمعات أكثر مرونة تنهض بجميع أفرادها بغض النظر عن انتمائهمنّ الجنسي؛ كما يتضمّن هذه التصوّر دعم مساحات التعافي، وتعزيز مرونة المجتمع، وبناء هياكل لدعم المهمشين والمهمشات بدلاً من قمعهمنّ.

لكن، هل من الشجاعة التوقف للحظة وأنسَنة النساء والنسويات؟ بكلِّ ما ينطوي عليه كوننا بشراً من هشاشة وضعف وعاطفية لا ترتبط بالضرورة بالجنس؟ تكبُر النساء مع عار بشريتهنّ، وتصبح الشجاعة تقمّصاً للصورة الذكورية عن البطولة: البطل الذي لا يخطئ، لا يبكي، لا يتعاطف، ولا يحتاج إلى التوقف وأخذ نَفَس تحت أي ظرف. إنّ الاحتفاء بالإنسانية المتأصلة في النشاط والصمود والقدرة على التغيير، يدفع إلى رؤية النساء والأقليات الجندرية على أنهم-ن ليسوا فقط ضحايا، إنما ناشطين وناشطات، وفاعلين وفاعلات، وبناة سلام، وقادة مجتمعيين. في جوهره، يحتفي هذا التصور بثراء الروح البشرية، بتناقضاتها وآليات تكيّفها ومقاومتها.

يبدو على المدى القصير أنّه لا مهرب من النظر إلى النضال النسوي بوصفه معركةً أو حرباً، و«التسلّح» بالشجاعة عند خوضه. لكن هل نتماهى مع الشجاعة السامّة المصبوبة في قوالب أبوية ونتصالح مع ضرورتها، أم نُعيد تركيز النقاش حول خلق بُنى سياسية واجتماعية واقتصادية لا تكون فيها البسالة ملازمة للفعل النسوي؟ لا أتحدث عن نبذ الإقدام الذي تتطلّبه أي مسيرة تغيير، ولا أُشجِّع على الانفصال عن الواقع الذي نعيشه ونتفاعل فيه، إنمّا أتحدث عن أهداف متوسطة وبعيدة المدى، عن عمل نسوي مدني يتجاوز النجاة، ويفسح المجال للنسويات لكي يتنفسنَ ويعملنَ في عالم لا نحتاج إلى الصلابة فيه، عالم أكثر إنسانية وازدهاراً.

لا يدّعي هذا التحليل أن الموازنة بين الأهداف قصيرة وبعيدة المدى في دولة نزاع أمرٌ بسيط، لكن أليس من «الشجاعة الإيجابية» التجرؤ على تخيُّل عالم نسوي تتحقق فيه المساعي النسوية بالفعل؟ وكما تقول سيمون فاي: «مطلبي كامرأة، أن يُؤخَذَ اختلافي بعين الاعتبار، ألا أُجبَرَ على التكيّف مع النموذج المذكّر».

كسر الاحتكار في العمل المدني

يُشير مفهوم جورجيو أغامبين عن «الحياة العارية» إلى حالة يُختزَل فيها الأفراد والجماعات إلى عناصرهم البيولوجية الأساسية، ويتم تجريدهم من كافة الأبعاد الحقوقية أو السياسية. لو طبَّقنا هذا المفهوم على النسوية، فسوف تكون «النسوية العارية» شكلاً خاماً من النسوية كما نعرفها، تركز على الجوانب البيولوجية لوجود النساء وهوياتهن، لا سيّما عندما يتعرضن للاضطهاد أو التهميش الشديد أو القهر. ستكون نسوية تُركّز على الحقوق الأساسية في الحياة، وتصبو إلى التحرر من العنف والقمع، وتيسير الوصول إلى الاحتياجات الأساسية؛ وهي جميعاً أمورٌ غالباً ما تُفقد أو تتعرّض للتهديد في حالات الصراع أو الفقر أو التطرّف الأبوي. وفي السياق السوري، تركّز «النسوية العارية» على حقوق النساء وتجاربهنّ، سواء كُنَّ ضحايا أو نازحات أو معنفات أو يَعشنَ في ظروف بالغة الخطورة؛ كما تسعى للدفاع عن حقوقهن واحتياجاتهن الأساسية.

لكن مثلما يُعتبر مفهوم أغامبين عن «الحياة العارية» نقداً لأساليب اختزال الأنظمة السياسية للأفراد والجماعات إلى عناصر بيولوجية، يمكن أيضاً اعتبار مفهوم «النسوية العارية» نقداً لأساليب اختزال النساء إلى أكثر حالاتهنّ هشاشة، وتجريدهنّ من كامل حقوقهنّ وكرامتهن.

عقب الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في شباط (فبراير) الماضي، نسَّقتُ مع ناشطة تُشرف على مبادرة لتوزيع الفوط الصحية على النازحات والمتضررات في مناطق سيطرة النظام. كانت تعمل بدرجة عالية من الحذر والسرية، وكانت مراقبةُ ما تمرُّ به خلال عملها تجربةً مؤلمة بالفعل. عندما انطلق الشعب السوري إلى الشوارع عام 2011 يطالب بالحرية والديمقراطية والمواطنة، لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، ولم تكن العواقب خفيفة على أحد؛ لكن الأهداف الكبرى ربّما تستحق مخاطرات كبرى، وترافقها أثمانٌ باهظة. أما أن تتعرَّض ناشطة لخطر الاعتقال بسبب توزيعها الفوط الصحية، فأمرٌ يتّسم بالسوريالية والظُّلم حتى في أرض اللاعدالة. على الجانب الآخر، تُراكِم النساء في الشمال السوري طبقات من العنف الجنساني، ويحملنَ نسويتهنّ كتهمة قد تعرّضهنّ للوصم والتكفير والإقصاء والملاحقة الأمنية.

خلال السنوات الاثني عشر الماضية، تَقلَّصَ نضالنا النسويّ من المطالبة بالمواطنة والمساواة والتمثيل السياسي العادل، إلى السعي لتلبية احتياجات النساء في سِلل الإغاثة، وتوفير مرافق صرف صحي تحمي النساء من التحرش والاعتداء والمرض. حتى الحقّ في الإجهاض انزلقَ على سلّم الأولويات، ولم يعد يعتبر شأناً مرتبطاً بالنجاة.

هل نسجن أنفسنا، ويسجننا المانحون، في مجموعة قضايا معلّبة ومحددة؟ وهل يُجدي الاكتفاء بالعمل مع النساء، انطلاقاً من فكرة أنّ الوعي النسوي هو الحل، أو، وهذه فكرة أخطر، أنّ هذا الوعي ليس موجوداً بالأصل لدى هؤلاء النساء؟ هل يُبعدنا هذا عن الأسباب الجذرية التي تجعل العمل النسوي المدني ضرورة حيوية؟

يستدعي مفهوم النسوية العارية ضرورة تحقيق تحول جذري في الهياكل التي تُديم عمليتَي الاختزال والقمع. تسعى النسوية في جوهرها إلى تحطيم الاحتكار الأبوي، وإصلاح البنى الإقصائية أو هدمها. إلا أننا ما نزال في السياق السوري نرى انفصالاً أو فجوة بين العمل النسوي ومجالات العمل الأخرى، وعوضاً عن دمج المنظور النسوي في كافة القطاعات، صرنا نرى ميلاً نحو عزل قضية الجنس، وحصر العمل النسوي والنسائي فيها. وقد ركّزَتْ كثير من البرامج على توعية النساء من دون العمل على معالجة جذور العنف، بما يرافق ذلك من تحديات عميقة وواسعة النطاق. كذلك صُمِّمَت مئات البرامج لمعالجة العنف الجنساني ونشر الحساسية الجنسانية في أوقات النزاع. ولكن حالما ضرب الزلزال سوريا انكشفَ غياب الحساسية الجنسانية لدى القطاعَين الطبّي والإنساني أو الإغاثي، وهما قطّاعان يشكّلان عصب الحياة في مساحات واسعة من الأراضي السورية، فالعنصر النسوي يكاد يغيب تماماً عن مواقعهما القيادية أو التأسيسية. هذا الغياب يعيق تطوير وتنفيذ السياسات والبرامج والخدمات الحساسة جنسانياً، ويعزّز افتراض أنّ هذه المسؤولية تقع على عاتق النساء وحدهنّ. بالإضافة إلى الآثار المباشرة لغياب النساء عن مواقع القيادة في هذَين القطاعين، فإن هناك بعداً سياسياً للعمل الإنساني ساهم في بروز قادة مجتمعيين اعتمدوا على تحكمهم بالمساعدات الإنسانية. هذا ليس خفياً، ولعلّ الشخصية التي استغلّت القطاع الإنساني والتنموي سياسياً ولأقصى حد، هي أسماء الأسد، عبر الأمانة السورية للتنمية وكلّ ما يتفرّع عنها من جمعيات ومنظمات.

سَدُّ هذه الفجوة يتطلّب إرساء تحالفات نسوية قوية، تجمعُ المهارات التقنية في إدارة المشاريع وكتابة المنح، وتدعيم الشبكات والصلات على الأرض، وتعزيز المعرفة النسوية النظرية لتصميم خطط مستنيرة. مجدداً، نحن نتحدث عن الشجاعة، عن إعادة اختراع ذواتنا، والتجرؤ على تَخيُّل إمكانية القيام بهذا العمل.

لكن، هل نعمل حقاً باتجاه حراك نسوي نتضامن فيه جميعاً، ونسير نحو واقع أفضل للنساء السوريات، كل النساء السوريات؟ وكيف يؤثر الشرخ بين الداخل والخارج في توحيد الجهود، في سياق عسكرة ذكورية وهيمنة كاملة على حقوق النساء؟ الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى مكاشفة على مستوى الحراك النسوي، الأمرُ الذي لمسَت الكثير من الناشطات السوريات مدى صعوبته.

شجاعة المساءلة الذاتية

سألتُ راوية (اسم مستعار)، وهي ناشطة في السويداء، عن تعريفها للشجاعة النسوية، فقالت: «أعرف الخذلان النسوي أكثر من الشجاعة النسوية. أناضل مثل كثير من النساء من أجل حقوقنا، لكن عندما أبحث عن حليفات يناضلنَ لحقي في الحياة كمثليّة سوريّة… صحراء. أنا ناشطة لكنني واقعية. هل تعتقدين أن المجتمع سيسمح لي بالعيش مثل أي أحد آخر، حتى لو بعد عشر سنوات؟»

هكذا تشعر راوية: أنّها سقطت سهواً عن الأجندة النسوية العامة، ومعها شريحة جنسانية واسعة. راوية ليست المرأة الوحيدة التي تعاني من الإحباط أو الخذلان النسوي. فخلال عملي مع مجموعة كبيرة من الناشطات القاعديات، أو نساء المسار الثالث، رأيتُ كيف تشارك معظهمنّ الخيبة من إقصاء قضاياهنّ عن المسار الأول، بالإضافة إلى تزاحمها مع قضايا «الداخل» و«الخارج»، والخلافات بين أجيال النسوية المختلفة، والجدل حول إعادة إنتاج الممارسات الذكورية في المجتمع المدني، حتى ضمن بعض المؤسسات النسوية.

إننا نحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى الشجاعة الكافية لمُساءلة أدواتنا وأولوياتنا ومناهج عملنا النسوي. أيُّ خطوة للأمام سوف تتطلبّ منا الاستنارة في تحليل الواقع وإعادة تقييمه من منظور نسوي تقاطعي، واستكشاف الفروق الدقيقة والمركبة في التجارب المعاشة لدى النساء السوريات. كل ذلك يتطلّب اعترافاً بوجود الحدود والنقاط العمياء ضمن الأطر والمقاربات النسوية القائمة، والخوض فيها. تكمن شجاعة هذا النهج في تحدّيه للسرديات التي باتت راسخة، وفحصه النقدي لآليات القوة الكامنة في الحركات والاستجابات النسوية. كذلك يتطلّب انفتاحاً على التفكير النقدي حيال فعالية وأهمية الاستجابات آنفة الذِّكر، وتكييفها وفقًا لذلك. قد يدفعنا ذلك إلى تجربة منهجيات جديدة، والمشاركة في عمليات تعلّم تعاوني، والاعتراف بأهمية الاستجابات السياقية، حتى ضمن السياق الواحد.

في جوهرها، تتطلب إعادة التقييم شَجاعةً لوضع أصوات وخبرات النساء السوريات في المركز، وتستلزم إنشاء مساحات تمنح الأولوية لمشاركتهن، والاستماع الفعّال إلى وجهات نظرهنَّ المتنوعة. تتضمن عملية مَرْكزَة أصوات وتجارب النساء السوريات مواجهةَ وتفكيكاً للهيمنة التاريخية للأصوات الخارجية، وإعلاء أصوات الجهات النسوية المحلية ومنحها حق تقرير المصير. إن نمط التمويل الحالي الذي تعتمد عليه المؤسسات النسوية يجعل هذه المهمة الصعبة، لكن إحدى مواضع النقد الموجّه للمجتمع المدني والمؤسسات الإنسانية على المستوى الدولي؛ هو أولوية تلبية المسؤوليات تجاه الجهات المانحة على حساب المستفيدين-ات وأصحاب وصاحبات الحقوق. لا تُفلت كثير من المؤسسات النسوية من هذا المصير، لكنّ المُساءلة الذاتية تسلّط الضوء على هذا الواقع، وتتيح لتلك المؤسسات فرصة لعب دور رائد في خلخلة علاقات القوة وإعادة موازنتها في هذه السياقات.

هذه المُساءلة الذاتية وليدة السياق الذي خرجت منه، ولا يمكن أن تتمّ بمعزل عنه. تشمل إعادة تقييم العمل النسوي في السياق السوري دراسة أثر العوامل الخارجية، إيجابية وسلبية، من منظور نسوي، وتسليط الضوء على ترابط هياكل السلطة والجغرافيا السياسية والأطُر الدولية والحركات النسوية العالمية.

يمكن للعوامل الخارجية أن توفّر الفرص للحركات النسوية السورية، وأن تقيّدها في الوقت نفسه. وبينما قد تمثّل الديناميات الجيوسياسية وأطر المساعدة والغوث تحديات حقيقية، إلإ أنها قد توفر أيضاً سبلاً للتعبئة النسوية، وتوفير الموارد والتمويل، والمناصرة على المنصات الوطنية والدولية. تتفاعل الناشطات النسويات بشكل استراتيجي مع الجهات الخارجية، ويسخّرن الموارد المتاحة، ويبنينَ التحالفات، ويستَفِدنَ من شبكات التضامن لتعزيز أجنداتهنّ وتعزيز أصوات النساء السوريات. يكلّفهن ذلك أن يَتعاملن باستمرار مع عدم توازن القوى، ويَتحدَّين على الدوام السرديات النمطية السائدة، ويَنشُرنَ فهماً أكثر دقة لتعقيدات الهويات الجنسانية والصراع والجغرافيا السياسية.

من الشجاعة أن نتواصل مع الحراك النسوي العالمي، خصوصاً لدى الشعوب التي مرّت أو تمرّ بما تخبَرُه النساء السوريات، وأن نسعى إلى التعلّم وبناء التحالفات العابرة للحدود، وتوحيد الأصوات ضد الميول الذكورية في الأطر الدولية وآليات الاستجابة والإقصاء الممنهج للنساء.

تشمل النسوية العالمية مجموعة واسعة من الحركات ووجهات النظر والأولويات والمقاربات، لذلك لا يمكن اعتبارها كياناً متجانساً. غالباً ما تتشكل السرديات السائدة في الحراك النسوي العالمي في سياقات تختلف بشكل كبير عن السياق السوري. قد ينجمُ عن ذلك إغفالٌ للتحديات الخاصة التي تواجهها النساء في سياقات الصراع والنزوح والديناميات الجيوسياسية الأُخرى، أو التغاضي عن تجارب ووجهات نظر النساء السوريات أو إساءة فهمها، مما يحدّ من تمثيلهنَّ في الخطاب النسوي العالمي. من المهم مدّ الجسور مع حركات نسوية لا تضع تجارب النساء المهمشات في المركز، ومحاولة التأثير على سردياتها، وإعادة رسم أجنداتها لمَركزة سرديات المهمشات، وهو ما يمكن لنسويات الشتات مناقشته والعمل باتجاهه.

ماذا لو خسرنا؟

ماذا لو خسرنا أو فشلنا؟ لن تكون المرّة الأولى! لقد تحمّلت النساء في سوريا خسائر فادحة، بما في ذلك فقدان أحبتهنّ ومنازلهنّ وسبل عيشهنّ، والهياكل والشبكات الاجتماعية التي كانت تحميهن. كل واحدة من هذه الخسارات رافقَها حِداد، بعضه مُعلَن، وبعضه الآخر غير مرئي. تظهر الصلابة النسوية عندما تواجه النساء هذه الخسارات وتتحرّكنَ خلالها، وتتجلى الشجاعة النسوية في تحدي التوقعات المجتمعية وإيجاد طرق لإعادة بناء الحياة والمجتمع.

تتطلّب الشجاعة النسوية لمواجهة الفقد والخسارة في السياق السوري تحليلاً نقدياً للعوامل المنهجية التي ساهمت في وقوعها، والطُرق التي تتشكل بها تجارب النساء من خلال آليات القوى الجنسانية. كما تتطلّب الاعتراف بأن الخسارات ليست أحداثاً فردية أو معزولة، بل ترتبط ببعضها البعض مع هياكل أوسع للقمع والعنف. إن التعاطي مع الفقد والخسارة من منظور نسوي يعني الاعتراف بوجود أبعاد جنسانية لها، ترتبط بالتوزيع غير المتكافئ للأعباء على كواهل النساء اللواتي لا يحزنَّ فحسب، بل يواجهنَ أيضاً تحديات فريدة مثل زيادة مسؤوليات تقديم الرعاية، وتعرُّضهنّ للعنف الجنساني، ومحدودية وصولهنّ إلى الموارد والدعم.

عطفاً على الاحتفاء بالبشرية، تركّز المقاربات النسوية لمواجهة الفقد والخسارة على أهمية شبكات الدعم، والصّفة الجماعية لعمليتَي الشفاء والتعافي، نظراً لترابط الحزن الفردي والجماعي والبُعدِ السياسيّ لكليهما. تقرُّ الشجاعة النسوية بأن التعافي من الفقد عملية جماعية ومستمرّة، تحتاج إلى مساحات تلتقي فيها النساء ويتبادلنَ الخبرات ويُعربن عن حدادهنّ الجماعي على خساراتهنّ. تقدِّم مثل هذه المساحات الدعم المعنوي والتضامن، وفرصةً للتعافي الجماعي وبناء الصلابة. كذلك تمكّن مجموعات الدعم والحوارات المجتمعية والمبادرات الثقافية النساءَ من إعادة بناء الروابط الاجتماعية، واستعادة هوياتهنّ وصياغة مسارات نحو التعافي والتمكين.

من المهم الإشارة إلى أن المرونة تقع في صلب الشجاعة النسوية، فهي تساعد على إعادة التخيّل والبناء في مواجهة الفقد والخسارة. يهدف استخلاص الدروس من الخسارات إلى تمكين النساء من إعادة بناء حياتهنّ والمشاركة في عمليات صنع القرار. كذلك تمنَح المقاربات النسويةُ الأولويةَ لصوت المرأة ووكالتها عن نفسها ودورها القيادي، وتُجبر على الاعتراف بدورها الحيوي في العدالة الانتقالية، وضرورة تشكيل مجتمع أكثر شمولية واستجابة للقضايا الجنسانية. تستلزم الشجاعة النسوية في مواجهة الفقد والخسارة التزاماً بالعمل الجماعي نحو عدالة انتقالية ومحاسبة فعالة. يشمل ذلك الدعوة إلى إضفاء البعد الجنساني على العدالة الانتقالية، للإقرار بوقوع العنف الجنساني والتصدي له، وانخراط الناشطات النسويات في جهود محاسبة الجناة، والمطالبة بتعويضات للناجيات، وتحدّي الأنظمة الأبوية التي تُديم العنف وعدم المساواة.

كل هذه الجهود أفعالٌ نسويَّةٌ مُستدامة، تساهم في مواجهة الفقد والخسارة، الواقعة والمؤجلة، وتهدف لإقامة عالم نسويّ تثمر فيه كل هذه الخسارات.

يتطلّب تحقيق هذا العالم عملاً مشتركاً، فاعلاً على جميع المستويات، وفي كل المجالات. كما يتطلّب وعياً مستمراً بموقعنا، وبالأثر الإيجابي أو السلبي الذي تتركه برامجنا وتوجهاتنا على النساء في بقع جغرافية مختلفة، وخلف أبواب أُخرى.

لو أردتُ تلخيص منظوري للشجاعة النسوية في السياق السوري، لقلتُ إنّها شجاعةُ قول «لا». قول «لا» للهياكل الأبوية، «لا» لعزل النسويات في برامج نمطية، «لا» لأجندات المانحين وسياساتهم المعزولة عن السياق، «لا» لإعادة إنتاج الممارسات الذكورية والإقصائية في المؤسسات النسوية، و«لا» لِتَرك أيّ امرأة سورية وحدها مع خذلان نسوي.

شاركنَ المنشور