تعنيف أطفال في حضانة في لبنان… ماذا لو كان الرجال شركاء في الأعباء المنزلية؟

ديانا مقلد|موقع درج

تنافس كثيرون في الساعات الماضية على إلقاء اللوم على الأمهات والزوجات العاملات في حادثة تعنيف مربية أطفالاً في حضانة في لبنان.

فيديوهات ضرب الأطفال في الحضانة ترجمها نجوم “الهراء” الافتراضي إلى خلاصات حاسمة وسريعة عن ضرورة عدم عمل الأم وتفرغها لأبنائها وأن مسؤولية الضرب الذي تعرض له الصغار تقع على عاتق أمهات “مستهترات”.

خلاصة الهجوم، على الأمهات البقاء في المنزل لتربية الأطفال والتخلي عن العمل.

فكرة سريعة سهلة تبعد من مطلقيها الملامة لجهة التفكير بكل الحلقة التي تحيط بلجوء عائلات الى استخدام حضانات للأطفال أو عاملات مهاجرات في سوق عمل بائس ظالم في بلد امتهن إهانة مواطنيه ومواطناته، حتى بات الجميع يتنافس على لوم الأضعف والأفقر والأقل حظاً في كل بلاء يصيبنا، فيأمن من هم ممسكون بزمام حياتنا من أي مسؤولية أو لوم.

النساء العاملات يجبرن على العمل في المنزل والبيت في مجتمع يرفض ثقافة توزيع المسؤوليات المنزلية ونظام قانوني لا يقدم إجازات أمومة كافية ومؤسسات تفتقد للحد الأدنى من الرقابة.

المرأة العاملة تخوض مواجهة مزدوجة مع نظام اجتماعي أسري يحملها أعباء عملها ومسؤوليات منزلها، من دون زوجها، في ظل قوانين ضدها والآن عليها مجابهة رأي عام يريدها مجرد أداة رعاية صامتة.

فهل يكمن الحل حقاً في أن تبقى الأمهات والزوجات في المنازل لحفظ استقرار العائلة وأمنها، وما كلفة هذا الخيار؟

عمل النساء بالأرقام

تؤكد مدونة البنك الدولي، في تقرير نشر عام 2022، أن “انخراط المرأة في سوق العمل يتفاوت من دولة إلى أخرى، لكنه محدود عموماً في الدول العربية، إذ لا تتعدى النسبة في كل من العراق والأردن أكثر من 15 في المئة، في حين ترتفع في لبنان إلى نحو 20 في المئة، وهذه النسب من بين أدنى معدلات مشاركة المرأة في سوق العمل على مستوى العالم”.

يكشف تقرير المرأة العالمي الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2020 أن 47 في المئة من نساء العالم لديهن وظيفة، مقارنة بـ74 في المئة من الرجال، كما أن نسبة النساء العاملات في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، التي تضم الدول العربية، لا تتخطى 30 في المئة.

وبحسب أحدث البيانات الصادرة عن “منظمة العمل الدولية”، فإن وجود النساء العربيات في المناصب الإدارية متدن للغاية، إذ إن 11 في المئة فقط منهن يشغلن مناصب إدارية مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 27.1 في المئة.

في ظل الأزمات المستمرة والقيود والصراعات التي تشهدها المنطقة العربية والعالم عموماً، والتي أدت إلى تراجع عدد الوظائف الجديدة، تواجه المرأة العربية تحديات إضافية تجعل من الصعب عليها ممارسة العمل، ومن هذه التحديات، غياب العدالة الاجتماعية، والعبء الأسري، والصورة النمطية، والقوانين والتشريعات، كما تعد المرأة الحلقة الأضعف في سوق العمل في وقت الأزمات، وهو ما برز من خلال الاستغناء عن كثير من النساء العاملات خلال جائحة “كورونا”.

وفقاً لأرقام البنك الدولي، تفقد كثرات القدرة على الانخراط في سوق العمل خلال مرحلة الزواج، فعادة ما تكون القيود القانونية والاجتماعية طاغية في هذه المرحلة، وفي العديد من الدول، يرفض الرجال خروج زوجاتهن للعمل، وحتى إن تمكنت المرأة من العمل خلال الزواج، فقد تضطر إلى المكوث في المنزل خلال فترات ما بعد الإنجاب من أجل العناية بالأبناء، وتظهر بيانات البنك الدولي الخاصة بالأردن وإقليم كردستان العراق أن فرص قبول عمل المرأة تتراجع كثيراً بمجرد زواجها، كما يضيف الإنجاب حواجز إضافية، من بينها عدم توفر خدمات رعاية الأطفال.

انطلاقاً من هذا الوضع العام مضاف إليه الانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان والحاجة الماسة لدخل إضافي لأسر تعاني من أزمة معيشية خانقة، لا بد من إعادة التفكير في الإدراك الاجتماعي العام لقيمة العمل المنزلي.

عمل المنزل… هو عمل

“بتشتغلي؟

لا، أنا بالبيت، ربة منزل، ما بشتغل”.

عبارات ترددها سيدات كثيرات بتلقائية عندما يجبن عما يفعلنه، الأمر الذي يوحي نوعاً ما بأنهن لا يعملن وبالتالي مسترخيات. لكن الواقع عكس ذلك تماماً، إذ تتولى السيدة في المنزل سيلاً من المسؤوليات والمهن: التنظيف والغسيل والكوي ورعاية الأطفال وتقديم الدعم العاطفي للعائلة؛ وتدريس الأطفال وقضاء أنشطتهم، والرعاية الطبية والصحية لأفراد العائلة خصوصاً الأكبر سناً، والتسوّق. بعض النساء يقمن بالخياطة، وأعمال يدوية أخرى ضمن المهام المنزلية مثل تحضير المؤن السنوية صيفاً وشتاء والطعام بشكل شبه يومي.

كلها أعمال لا حدود زمنية لها، فلا وقت لبدئها ولا ساعة لاختتامها ولا وقت للراحة منها، هي خدماتٌ نعرفها جميعاً على مدار اليوم والأسبوع، نتمتع بها، وبخاصة الذكور في العائلة، من دون أي مقابل وبلا جلبة أو سؤال. والنساء العاملات حتى  وإن استعنّ بعاملات مهاجرات في المنزل فهنّ أيضاً معنيات باستكمال هذه الأعباء وجزء منها.

كرست هذه المقاربة المجحفة تاريخاً من الاستغلال المتجذر ومن الإنكار لجهود المرأة وأهمية عملها ومساهمتها في المجتمع.

هكذا تكرس تغييب نشاط المرأة الاقتصادي من خلال توفير العديد من التكاليف التي كان من المحتمل أن تُضاف إلى حِمل الأسرة الاقتصادي، مقابل الخدمات المتعلقة بالغسيل والكوي والطهي والإصلاحات المنزلية التي تتقنها النساء خصوصاً في المجتمعات الريفية أو التقليدية المحافظة.

حلقة مفرغة

كرّس الموروث الثقافي في مجتمعاتنا أدواراً محددةً للنساء، لضبط مساهمتهنّ في سوق العمل وفي الفضاء العام وحتى فرص التطور الشخصي على أصعدة مختلفة. وضع هذا الموروث النساء في خانة الضعف وشح القدرات، وبالتالي عدم الأحقية في تولي مناصب قيادية وسياسية عالية، لارتباطهنّ بالواجبات المنزلية أو لكونهنّ “أدنى” كفاءةً وقدرة على التفكير المنطقي العقلاني.

في هذه الحلقة المفرغة، التي كررها منتقدو الأمهات في حادثة تعنيف الأطفال في الحضانة وُضعت النساء مرة أخرى تحت عدسة مجهر المجتمع الذي حكم بعدم فعاليتهنّ أو قدرتهنّ على الإنجاز في سوق العمل، مكرساً لومهن لعملهنّ خارج المنزل بدلاً من صبّ جلّ طاقتهن على عائلاتهن وعلى المنزل.

والأعمال المنزلية لم تُفرض على المرأة فحسب، بل تكرست وكأنما هي صفة طبيعية من صفات جسدها وشخصيتها وهويتها الجنسية. كما شكّلت ظروف العمل المنزلي غير المأجور السلاحَ من أجل تعزيز الفرضية  القائلة بأن العمل المنزلي ليس عملاً، وبالتالي قطع الطريق أمام النساء للانتفاض ضده.

في مجتمعاتنا التقليدية هناك سعي حثيث لتهيئة الفتاة أو المرأة لدورها المنزلي وإقناعها القسري بأن الأطفال والزواج أفضل ما يمكن أن تناله من الحياة، بل وأن ذلك عمل تؤجر عليه في الآخرة وتحاسب عليه شر حساب إن لم تلتزم بقوانينه.

وبحسب التوقعات الاجتماعية وتقسيم الأدوار بين الجنسين خصوصاً في الأوساط التقليدية المحافظة، لا يُتوقع من الرجل العمل المنزلي عادة، بل يعاب ذلك على الرجل الذي يتقاسم مع شريكته الأعمال المنزلية، ويُعتبر ذلك انتقاصاً من “رجولته”، وقد يتعرض للسخرية والتهكم.

لكن لنفكر قليلاً، ماذا لو تشاركَ كلٌّ من الرجل والمرأة الأعمال المنزلية؟

ماذا لو كانت إجازة الأمومة في لبنان مثلاً (وهي ليست إجازة) أكثر من 3 أشهر على أن تمنح للأب والأم؟

ماذا لو جهدت البلديات في مراقبة توزيع الحضانات بحسب المناطق كما في دول عدة؟

الأسئلة كثيرة، خصوصاً في بلد يعيش انهياراً مزمناً تسبب بفوضى هائلة في سوق العمل الذي بات متفلتاً من أي رقابة ومن دون ضمانات.

فعندما يبدأ الرجل في تحمل مسؤولياته المنزلية يصبح قادراً على فهم احتياجات أفراد عائلته؛ ما يخفف من حجم العبء النفسي والجسدي والعقلي على المرأة ويدفعها للتركيز على عملها، كما يفسح المجال أمامها للمشاركة في الحياة السياسية بشكلٍ أفضل، وبعيداً من الوصمة الاجتماعية بالتقصير، التي تدفع غالبية النساء إلى تفضيل الالتزام المستمر إزاء أسرهنّ ورعايتها.

الاعتراف بالعمل المنزلي كعمل، هو إنصاف للجهد الذي تبذله النساء بشكلٍ يوميٍّ للمحافظة على استمرار عمليات الإنتاج. ترسيخ مبدأ المشاركة في الأعباء المنزلية بوصفه مسؤولية الشريكين وأفراد الأسرة وبالتالي كسر حلقة التنميط بحق النساء بوصفهن “ربات” منزل، وثانياً تحسين ظروف المساواة بين الجنسين في سوق العمل وخلق فرص أكبر للنساء وهذا سينعكس حتماً على مستوى المعيشة اقتصادياً وحقوقياً.

شاركنَ المنشور