أسامة الخلف|العربي الجديد
تعود وفاء عيسى، وهي خريجة جامعية ومعلمة في الـ41 من العمر، منهكة إلى منزلها الذي يقع في أحد أحياء مدينة الرقة، شمال شرقي سورية، بعدما أمضت يوماً شاقاً في مزاولة مهنة تنظيف المنازل، من أجل جلب ما يكفي من قوت يومي لـ14 شخصاً تتولى إعالتهم. لكنّ كثيرين يستغربون أنّ عملها ليس في مجال التعليم، بحسب الشهادة التي حصلت عليها من كلية الشريعة الإسلامية، والتي كان يفترض أن تمنحها وظيفة لائقة.
نزحت وفاء من مدينة البوكمال في ريف دير الزور شرقي سورية، ومعها سبعة أطفال تركهم لها زوجها المتوفى، وسبعة أشخاص من عائلة زوجها، وباتوا جميعاً في عهدتها، ما جعل الأعباء كبيرة جداً عليها، وحرمها من فرصة ممارسة مهنة التدريس التي تخصصت بها، لأنها لم تجد إلّا فرصة العمل في المنازل.
تقول وفاء لـ”العربي الجديد”: “حصلت على إجازة من كلية الشريعة الإسلامية في جامعة الفرات عام 2004، وامتهنت التدريس في مدارس البوكمال حتى عام 2014، ثم أوقفت عملي، بعدما سيطر تنظيم داعش على المنطقة، وحوّل المدارس إلى ثكنات سجون ومساكن عسكرية”.
وتضيف: “بقيت مع زوجي الذي عمل في تجارة المواد الغذائية مع أطفالنا في البوكمال، حتى خرجنا منها إثر سيطرة النظام السوري والمليشيات التابعة له عليها عام 2017، وتوجهنا إلى تركيا، وتحديداً مدينة أورفا، لكن غلاء المعيشة أعادنا بعد عامين إلى الرقة. ثم عدنا من دون زوجي الذي بقي يعمل هناك، ويرسل النفقات الشهرية لي وللعائلة، ومعنا شقيقتي ووالدتي وأخوات زوجي ووالدته”.
وفي عام 2021، قضى زوج وفاء بحادث سير في ولاية شانلي أورفا جنوبي تركيا، المحاذية للحدود مع سورية، فانقطع المصروف الذي كان يرسله إلى عائلته. وتقول وفاء: “لم يبقَ أمامي فعلياً سوى البحث عن عمل يقيني مع عائلتي الكبيرة من مشقة السؤال والتسوّل. وبحثت مرات في قطاعات المنظمات والمدارس، لكن الأفضلية أعطيت لسكان المدينة الأصليين، لم أحصل على فرصة عمل. وهذا لا يمنع أن أهالي الخير من جمعيات ومنظمي المبادرات ساعدونا في تأمين مسكن بسيط، ضمن بناء سبق أن تعرّض لقصف، بعدما رُممت بعض أجزائه التي أصبحت مناسبة للسكن نوعاً ما”.
تضيف: “يعتبر الحي الذي أقطنه راقياً في الرقة، واستطعت من خلال الجيران تأمين عمل لي ولأخت زوجي وأختي في غسيل السجاد وتنظيف المنازل، ما أعانني كثيراً في تأمين مصروف العائلة الذي كان كبيراً جداً، نظراً إلى حجم عائلتنا”.
وتكشف أن كثيرين ممن عملت لديهم استغربوا ممارستها عملاً صعباً يراه المجتمع دون مستوى تعليمها، خصوصاً أنها تحمل إجازة جامعية، وعملت سابقاً في التدريس، لكنها تؤكد أنها تعتز بعملها الذي تمارسه بفخر وكفاح، وبالاعتماد الكامل على الذات. وتقول: “أرى نساء كثيرات يتسوّلن، وهذا الأمر المعيب وليس التنظيف حتى إذا نظر المجتمع لي نظرة دونية، وعاملني على هذا الأساس”.
وتتحدث الصحافية والناشطة في قضايا المرأة السورية، وضحة عثمان، لـ”العربي الجديد” عن أن “قضية حقوق الأرامل والنساء اللواتي يعملن بجهود كبيرة تتعلق بواقع عدم وجودهن في دولة تحمي حقوق مواطنيها، وتعطي الأرامل مداخيل اقتصادية تغطي احتياجاتهن. والوضع السائد يحتّم التوجه إلى الأمم المتحدة، لمطالبتها ببذل كل الجهود الممكنة لمناصرة السوريات المؤثرات في مراكز صناعة القرار، وأيضاً الجمعيات التي تقودها نساء، وتحاول إيصال أصوات الأرامل والمعيلات للحصول على أبسط حقوقهن في عيش حياة كريمة وتأمين أسرهن، بدلاً من التعرض للاستغلال والتحرش والتنمر. والسوريات لا يحصلن على هذه الحقوق لأنهن موجودات في دولة مفككة، غير قادرة على تأمين احتياجات أي مواطن، فكيف الحال بالنسبة إلى حقوق نساء يتعرضن لكل أنواع الاستغلال؟”.
وعموماً لم ترقَ مبادرات وتحركات منظمات المجتمع المدني في مدينة الرقة إلى المستوى المطلوب، من أجل توفير برامج مقبولة لإعالة النساء، كما يقول الناشط المدني مناف الأسعد لـ”العربي الجديد”، والذي يضيف: “لم ينفذ أي عمل مؤسساتي لدعم شريحة الأرامل واليتامى، من خلال مشاريع لوجستية تنموية تشرف عليها منظمات، في حين حاولت مبادرات أهلية ومجتمعية فعل ذلك وحققت بعض النجاحات، لكن هذه الشريحة تحتاج إلى نوعية أفضل من المشاريع لتحسين وسائل عيشها، وإخضاع أفرادها لتدريبات مهنية، وبناء القدرات، ودمجهم في المجتمع، ودعمهم اقتصادياً”.
ويؤكد الأسعد ضرورة تسليط الضوء على قصص الأرامل وقضاياهن، من خلال المؤسسات الإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، لتحقيق واقع اقتصادي يضمن لهن الاكتفاء.
إلى ذلك يتحدث الطبيب ممدوح الفهد لـ”العربي الجديد” عن تنظيم فعاليات خيرية وأهلية خاصة بالأرامل والنساء المعيلات في مدينة الرقة، وبينها مبادرة “صنائع المعروف”، ومطبخ “باب بغداد الخيري”، و”مطبخ الفردوس”، و”العيادات التخصصية لشباب تفاؤل”، ويقول: “استطعنا ضمن مجموعة ضمت 81 طبيباً وطبيبة افتتاح عيادات في 17 اختصاصاً لعلاج الأرامل والأيتام، ما شكل مبادرة أزالت أعباءً كثيرة عن كاهل المجتمع”.
لكن نساء يعملن في المجال المجتمعي يعتبرن أن الإعانات المقتطعة التي تُمنح كل مدة لا يمكن أن تقي شريحة النساء من الخوف من المستقبل، ما يحتم العمل لتنفيذ مشاريع مستدامة للدعم، أو تأمين فرص عمل، أو إعانة طويلة الأمد بشتى الطرق.
وأنشأت الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية، بالتعاون مع مجلس الرقة المدني، ولجنة الشؤون الاجتماعية والعمل، لجنة المرأة بالرقة التي تتابع أوضاع الأرامل والمعيلات من المقيمات والوافدات، من خلال دورات مهنية في الخياطة والبيوت البلاستيكية، وأخرى في التدريس والتأهيل التربوي، لكن عدد المحتاجين كبير، بحسب ما يقول نائب مجلس الرقة المدني، عبد السلام حمسورك، لـ”العربي الجديد” الذي يضيف: “تشمل أدوار لجان ومكاتب المجلس تأهيل وإعداد عدد من المعلمات والمدرسات خلال العطلة الصيفية، تمهيداً لتعيين اللجنة عدداً منهن في القطاع التربوي والمدارس، وإخضاع أخريات لدورات مهنية. أيضاً قدمت لجنة المرأة في الرقة مستلزمات عمل، مثل ماكينات الخياطة، ومعدات للبيوت البلاستيكية (الزراعية)، ولبيوت المؤونة”.
يضيف: “تلقى مسؤولية كبيرة على عاتق المجتمع الذي يجب أن يتضامن لبذل جهود تحقق هدف احتواء شريحة الأرامل والأيتام والمعيلات، خاصة بعد موجات النزوح نحو مدينة الرقة من مناطق سورية متعددة”.