كارمن ماريا ماتشادو: جسد موشوم بالحكايات

سعيد خطيبي / القدس

يصير الجسد حكاية، كل واحد من أجزائه يتحول إلى عنصر من عناصر الحكي، نحتفي به مثلما نؤبن نهاياته. الأمريكية كارمن ماريا ماتشادو جعلت من الجسد معركتها، تدنو منه في فهم تحولاته وخباياه. جسد المرأة هو قضيتها في مجموعتها القصصية «جسدها وحفلات أخرى» (ترجمة ضحوك رقية، الصادرة عن داري ممدوح عدوان وسرد ـ 2023). على طول ثماني قصص تتنوع النساء في صورهن، بين حب وكره، بين قلق وطمأنينة، بين هشاشة وصلابة، تغير المرأة جلدها في قصص هذه الكاتبة. تخرج المرأة من صمتها وتصير سبباً في تغيير أقدار الرجال، ثم تعود إلى ظلها وتمحى من الفضاء الذي تحيا فيه. تُواجه العنف والسلم، الواقع والمتخيل، تكسب حروبها الصغيرة تارة مع نفسها أو تارة أخرى ضد الرجل.
في هذه المجموعة القصصية التي تحتفي بالجسد كما جاء في عنوانها، نرى المرأة في انفصامها مع حياتها وفي تشبثها بحقها في المقاومة، فالكاتبة لم تكتف بنموذج ثابت من النساء، بل اختلقت نماذج نساء قد لا يخطرن على بال القارئ.

غرزة الزوج

غرزة الزوج يُقصد منها غرزة إضافية يخضع لها المهبل عقب الولادة الطبيعية، وهو أيضاً عنوان القصة الافتتاحية التي تنطلق منها الكاتبة في مجموعتها «جسدها وحفلات أخرى». من البداية تدخل كارمن ماريا ماتشادو في صلب موضوعاتها. منذ النص الأول تضعنا في أجواء حكاياتها. من الوهلة الأولى قد تبدو «غرزة الزوج» قصة إيروتيكية، فظاهرياً لا نلمح منها سوى خوضها في تفاصيل التفاصيل في علاقة البطلة مع محبوبها الذي صار زوجها، كما لو أن الكاتبة ليست معنية سوى باستعراض عضلاتها الإيروتيكية، ذلك ما يبدو من قراءة سطحية لهذا النص الذي لا نخرج منه من غير أن يُساورنا قلق واضطراب، بحكم خياراته الفنية. سيجد القارئ نفسه إزاء قصة مركبة، تبتدع أسلوباً لم يتعود عليه. قصة تغامر صوب التجريب في أبعد حدوده. تبتكر لغة لها وتورط قارئها في كتابة حلزونية، كمن يدخل متاهة، في هذه القصة تحتفظ البطلة بسر الأسرار، وهو طوق أخضر على عنقها، لا تسمح لزوجها بلمسه أو معرفة حكايته، هذا الطوق يبدو مثل ظلها، تعيش حياتها وهو ملتصق بجلد عنقها. ينام معها، يخرج معها، تعمل دون أن يفارقها، تمارس حياتها كما لو أنه ملاكها الحارس. نرافقها في قصة أقرب إلى قصص السيرة، منذ صغرها وسنوات المراهقة، ثم تغلغل مشاعر الحب في قلبها، وعلاقتها مع زوجها، ثم ميلاد ابنها، وهي حريصة على الحفاظ على الطوق الأخضر حول عنقها.

سيظل القارئ مشغولا بحكاية هذا الطوق إلى النهاية، لكن قبل أن يصل إلى حل لغزه، فإن كارمن ماريا ماتشادو لن تتركه يستمتع بالقراءة على مزاجه، بل تتدخل في توجيه القارئ إلى شكل القراءة المرجوة إلى نصها «إذا كنت تقرأ هذه القصة جهارة، أعط سكين تقشير إلى المستمعين وأطلب إليهم أن يجرحوا قطعة الجلد الرقيقة بين السبابة والإبهام. أشكرهم على ذلك». هكذا فبعد كل مقطع من مقاطع القصة تتدخل المؤلفة في توجيه القارئ نحو شكل المطالعة التي ترغب فيه، لا تتركه يمعن في النص دون إحراجه واللعب على أعصابه، فهي صاحبة النص وتتيح لنفسها الحق في فرض قراءته كما يحلو لها. هذه النصائح الموجهة للقارئ إنما هي جزء من القصة، قد نتفاجأ منها في البداية، ثم نتآلف معها، فقد استطاعت كارمن ماريا ماتشادو من صنع توليفة فنية، واختراع صوت مغاير لنفسها، ما يجعل القارئ يسير برضا خلف تعاليمها، راجياً أن يصل إلى حل إلى سؤال الطوق الأخضر الغريب الذي يلف عنق بطلة القصة.

الحب ونقيضه

تتوالى قصص «جسدها وحفلات أخرى» عن امرأة تجرد قائمة مغامراتها العاشقة، واشتباكاتها مع من عرفتهم، تعدد ما جرى لها معهم، بينهم وباء يزحف على وجه البلاد ويقربها من خاتمتها، ثم قصة «أمان» حيث تفتح صندوق المكبوتات وما تخمن فيه امرأة بلغت مقام الأمومة، بين مخاوفها وأفراحها. في قصة «جرائم جنسية شائنة» يبدو للقارئ أنه قد خرج من نمط القصة القصيرة ودخل أرضا أخرى، أرض السيناريو البوليسي، فقد جاء النص كما لو أنه مسودة سيناريو غير مكتمل، وهو واحد من النصوص التي تستلزم قراءة متأنية، قصد فهم التأويلات التي ترومها الكاتبة. ثم تليها قصة أخرى في مصاعب العيش التي تتحملها على المرأة، وكذلك الحال في قصة «متعبة في الحفلات» عن امرأة يعنفها زوجها. «جسدها ـ جسدي. جسدي أنا ـ ما زال مخططاً ببقع مصفرة لآثار كدمات».
قصص كارمن ماريا ماتشادو في هذه المجموعة تضع قارئها في مساءلات عن حال المرأة، عن تغيراتها العاطفية من حب إلى نقيضه، نذهب إلى أقصى الحدود في ملامسة مشاعر المرأة وتلونها، فتتيح لنا كتاباً ملماً بجملة من المشاعر والإحساس، على الرغم من اشتراك نساء أخريات فيها، فإننا لا نخرج من نصوصها إلا وقد تلبسنا قلق الكاتبة، في مسيرها في تشريح جسد المرأة قصد الوصول إلى العوامل التي سمحت لها في التحرر في الزمن الحالي، وهو تحرر لم يتأت إلا بعد مشقة. تضعنا الكاتبة أمام أصوات نساء، روائحهن، نظراتهن، خوفهن وفرحهن، تمشي فوق أجسادهن وتكلمهن، تستخرج بواطنهن، وما يعانين منه من صعوبة في التأقلم مع عشاقهن، في صمتهن وفي غضبهن، وفي ما يمور في خواطرهن. كارمن ماريا ماتشادو تجعل من نسائها أكثر من مجرد شخصيات، بل موضوعات فلسفية في إدراك الحالة المستعصية التي يحيا فيها الجنس الآخر، بين رغبتهن في الخروج من صمتهن وصداماتهن مع أنفسهن ومع الرجال. لكن هذا لا يفهم منه أنها كتابة سادية أو صدامية، بل جاءت القصص ضمن خط شعري، بكتابة ناعمة في أكثر من موضع، في فقرات وردية تمتلئ أحاسيس، في دفاع الكاتبة عن النسوة الأخريات على الرغم من صرامتها في تعاملها مع شخصياتها.

روائي مغربي

يعبر المقال عن رأي الكاتب/ة وليس عن رأي المنصة النسوية السورية بالضرورة

شاركنَ المنشور