المرأة السورية وحيدة في تغريبتها

سوسن جميل حسن| العربي الجديد

في تحقيق استقصائي منشور في موقع “درج”، نقرأ ما يدمي القلب ويذهب بالأرواح إلى أقاصي الذهول والقهر، عن حال الفتيات في مناطق شمال غرب سورية. يقول التحقيق تحت عنوان عريض: “البلوغ القسري في مخيمات الشمال السوري… أدوية هرمونيّة لتسريع الدورة الشهريّة وتزويج الفتيات”، وجاء فيه “تُجبَر الفتيات اللاتي لم يصلن إلى سنّ البلوغ بعد، على تناول الأدوية الهرمونية لتسريع البلوغ إلى جانب تعرّضهن للضرب على ظهورهن بهدف التسريع في حدوث الدورة الشهرية، ليتم بعدها تزويجهن قسراً”.
مع كل يوم زيادة في الحرب السورية، يتكشّف الواقع، ويرمي أمام وجوهنا ما يفوق التصوّر والتصديق من مظاهر انتهاك الحياة والكرامة. للحروب نتائجها الكارثية، ولكن هل كانت هذه الكوارث ستصل إلى هذا المستوى، في القرن الحادي والعشرين، عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والسعي إلى امتلاك الفضاء من أجل السيطرة على الأرض، بل وتسخير كواكب أخرى مستقبلًا من أجل البشر، وفي عصر الحقوق الإنسانية التي هي أكثر الكلمات تداولًا في كل الوسائط، وفي الكتب والأبحاث والمؤلفات، والجمعيات والمنظمات والمؤسسات الدولية، الرسمية والمدنية، لولا قرون من العطالة الفكرية التي عمّت منطقتنا العربية، توّجتها العقود الأخيرة بأنظمة مستبدّة، تحالفت مع كل أشكال الطغيان من أجل الحفاظ على مكتسباتها، تاركةً شعوبها ومجتمعاتها في حالة استنقاع مديد؟

تقول سيدة في التحقيق، وهي عاملة إنسانية متخصّصة في مجال العنف الجنسي ضد المرأة، إن هذا الأمر منتشر بشكل كبير في مخيمات الشمال السوري، وإنه في 29 يونيو/ حزيران 2020، أصدر UNFPA (صندوق الأمم المتحدة للسكان)، بياناً صحافياً استناداً إلى البحث الذي أجرته وفريق العاملين في مجال الصحة الإنجابية، يذكُر بشكل واضح تزايد أشكال العنف الجديدة في شدّتها وتأثيرها، مثل البلوغ القسري الذي يتضمن حقن الفتيات الصغيرات بالهرمونات للحث على البلوغ لأغراض زواج الأطفال أو الاستغلال الجنسي. وتطرّق البيان إلى الواقع المأساوي لحوالى 5.9 ملايين امرأة وفتاة في سورية، تعاني كثيرات منهن من آثار العنف القائم على النوع الاجتماعي في حياتهن اليومية، بما في ذلك التحرّش الجنسي، العنف الأسري، والعنف المنزلي، بحسب ما جاء في التحقيق. نجم عنه إصدار كل من مديريتي الصحة في حلب وإدلب قرارات بمنع صرف (وتناول) الأدوية التي تحتوي على هرمونات جنسية من دون وصفة طبية عليها ختم المنشأة الصحية أو الطبيب، تحت طائلة المساءلة القانونية.
ولكن، عن أي قانونٍ يمكن للمرء أن يتكلّم، في بلاد اعتاد سكّانها على تجاوز القانون بشتى الطرق والأساليب من دون محاسبة، بل اعتادوا على أن أكثر سلعة يمكن شراؤها أو شراء تعطّلها وسكوتها هي القانون، ليس في فترة الحرب فقط، بل قبلها بكثير، حتى وصل الحال بالناس مع الوقت إلى الجهل بمعنى قانون، والشعور بغرابة الكلمة. لم يتغير هذا الأمر، برغم كل التضحيات التي دفعت، فيدُ المساءلة القانونية مشلولة، وكلمة تحت طائلتها لم تمنع توفّر الأدوية الهرمونية، بين أقراص وحقن، وشراء الآباء لها، وكذلك الأمهات اللواتي إمّا يُجبرن على هذا السلوك، أو إنهن مقتنعاتٌ به بسبب الثقافة التي نشأن عليها، لقسر طفلاتهن على تناولها ابتغاء لبلوغ قسري يسرّع زواجهن ويسهله، بدلًا من أن يكنّ في ساحات اللعب ومقاعد الدراسة.

ليست المقالة بصدد شرح الآثار السلبية لتناول تلك الأدوية المسببة لأمراض واختلاطاتٍ كثيرة، ونتائجها على صحة الطفلة، الروحية والجسدية، ومستقبلها بوصفها امرأة، بل من الجدير التذكير بالومضات المضيئة التي كانت قبل قرن أو أكثر، فيما يخصّ وضع المرأة السورية، والجهود التي بذلتها رائداتٌ في مجال حقوق المرأة والحركات النسوية، إذ استضافت دمشق، في العام 1930، المؤتمر النسائي الشرقي الأول، أو إنشاء “اتحاد الجمعيات النسائية” في دمشق عام 1944 الذي ترأسّته عادلة بيهم الجزائري حينها، ونشوء الجمعية النسائية للخدمات الاجتماعية التي ترأسّتها سامية المدرّس، ولا ننسى نازك العابد وريادتها الأدبية والنضالية، أو قبلها ماري العجمي، وبعدها ثريّا الحافظ التي ترشّحت للبرلمان في 1953، لكنها لم تحصل على الأصوات اللازمة، بسبب أن تمثيل المرأة ومساهمتها في الحياة السياسية لم يكونا قد صارا مألوفين على الصعيد الاجتماعي، وأمثلة كثيرة غيرها، فقبل أكثر من قرن كانت هناك حركة نهضوية واعدة، وكانت النساء يعملن على أن يكنّ ذات دور مؤثر فيها. لكن بالنظر إلى الواقع الذي وصلنا إليه بعد هذه العقود، وواقع الحرب التي توّجتها، باتت المسافة بعيدة والزاوية أكثر تباعدًا عن النهوض، وفق المعطيات الحالية، فبعد أن كان هدف انتفاضة الشعب السوري السعي إلى تحقيق تغيير سياسي واجتماعي ينقل سورية من حكم استبدادي ذكوري أُحادي إلى حكم تعدّدي ديمقراطي يحقّق العدالة والمساواة للجميع وبدون أي تمييز، نرى الانزياح الكبير الذي وقع فيه الحراك الشعبي، وتحوّل الثورة المنشودة إلى حربٍ كانت المرأة إحدى أهدافها المباشرة، وإحدى ضحاياها الفاجعة، الحرب التي حوّلت المرأة إلى أمٍّ ثكلى، أو زوجةٍ مات زوجها، أو أخت قتل أخوها، أو طفلة قتل أبوها، فرض عليها أن تواجه الحياة بتحوّلاتها الكارثية بمفردها، من دون أن تُمنح حقوقها كفرد له كرامتها الإنسانية وحرية المبادرة والقرار، بل زادت هذه التحوّلات في قهرها وإذلالها وإعادتها إلى المربّع الماضي الذي كان عليها أن تمضي عمرها فيه راضية بالقوالب التي تُحشر فيها.

اثنتا عشرة سنة، وأكثر، من الحرب والمصالحات والمفاوضات واللجان، ومنها الدستورية التي لم تنتج إلّا إلهاء الناس عن واقعهم، والفعاليات والأنشطة لجمعيات ومؤسّسات مدنية وغير مدنية، غالبيتها صبّت جلّ جهدها على “تمكين” المرأة اقتصاديًا، كوسيلة دفاعية لها في وجه الواقع الشرس، لكنها بقيت تسام كل أنواع الانتهاك الجسدي والروحي، وانتهاك كرامتها في الدرجة الأولى، يكفي أن تطرح الفتيات في بازارات من هذا النوع، تحت العنف والتهديد، وأن تكون سلعةً تُباع وتُشرى، بطرق مختلفة، راجت وتفاقمت بمظاهر متنوّعة في سنوات الحرب، وفي كل المناطق السورية، وليست مناطق سيطرة النظام بأفضل حالًا، إذ تعاني المرأة أيضًا، ولم يعد خافيًا على أحد ما يحصل في واقعٍ تردّت فيه الحياة إلى درك رهيب، فمواقع التواصل الاجتماعي تعجّ يوميًا بأخبارٍ عن انتهاكات النساء، من زواج القاصرات إلى تعدّد الزوجات، إلى العنف المنزلي الذي قد يصل إلى القتل، أو جرائم الشرف كما شاعت تسميتها، أو استغلال الفتيات في تجارة الجسد، أو حتى انزلاقهن إليها بحكم الظروف الحياتية المهدّدة للوجود، وغيرها الكثير من المظاهر التي تدلّ على حجم الكارثة الإنسانية التي تحيق بالمرأة، وبالتالي بالمجتمع في هذا الواقع الذي وصلنا إليه.
تمكين المرأة اقتصاديا لا يكفي وحده. المطلوب تمكينها تعليميًا ومعرفيًا، كي تدرك ذاتها وتستعيد ثقتها بنفسها وتؤمن بأنها إنسانة لها حقوق وعليها واجبات تجعلها فاعلة في الحياة، وهذا يتطلب العمل على تمكين المجتمع أيضًا، وتحريره من المنظومات القيمية التي ترسّخ هذه الصورة النمطية للمرأة، وتجعل منها سلعةً في يد سلطةٍ ذكوريةٍ تتحكّم بحياتها ومصيرها من دون أدنى اعتبار لكيانها الإنساني، وزرع قيم جديدة في أذهان الأفراد وفكرهم، قيم الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة والقانون والديمقراطية، هذه المفاهيم الغائبة منذ عقود عن وعي الناس، تحتاج لجهود متضافرة وتحتاج إلى زمن مديد، وهي المطلب الذي قامت من أجله انتفاضة الشعب السوري، يجب تجذيرها اجتماعيًا، وإنشاء قاعدة شعبية مؤمنة بها، وإلّا سوف تبقى أسواق النخاسة بحق النساء رائجة بأشكال تفاجئنا كل يوم بجديد.

*يعبر المقال عن رأي الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي المنصة النسوية السورية

شاركنَ المنشور