تأملات في النسوية (6)… هذه اللغة التي نحييها، هذه اللغة التي تقتلنا

جمانة حداد/ رصيفـ22

كان اسمها آمال، وكانت جارتنا “الباب ع الباب”. كانت آمال أمّاً لولدين توأم، جاد ورواد، في عمري تقريباً، وكان لي معهما موعد أسبوعي مقدّس: كلّ يوم سبت، بمجرّد أن ننتهي من واجباتنا المدرسية لعطلة نهاية الأسبوع، أذهب إلى منزلهما ونلعب معاً طوال فترة ما بعد الظهر. كانت لديهما جميع أنواع الألعاب، وكانت “تانت” آمال، الخبّازة الاستثنائية، تحضر حلويات شهية، مثل الكعك بحليب والصفوف والزلابية، وتقدمها لنا مع جلّابها اللذيذ. كانت تلعب معنا أيضاً في بعض الأحيان، خاصةً “الغمّيضة”، لعبتها المفضلة، وتقهقه كلما نجحنا في العثور عليها.

“أكيد الحقّ عليكِ”

كانت الأمور تسير هكذا بسلاسة حتى الساعة السادسة مساءً. آنذاك كان يتوقف الوقت ويتبخّر المرح، وكانت آمال تتحوّل: تبدأ في التحرّك بشكل محموم داخل الشقة، هنا تمسح الغبار حيث لم يكن غبار، هناك ترتب ما لا يحتاج إلى ترتيب، تارة تنظّف سطوحاً هي في الأصل نظيفة، وطوراً تتحقق من أن كل شيء في مكانه بالضبط.

كان لا بد من وضع وسائد الأريكة بزاوية معينة، وكان لا بد من غلق قطع الستائر على بُعد 15 سم بالضبط الواحدة منهما عن الأخرى- كانت آمال تقيس المسافة بالمسطرة- وكان لا بد من أن تكون طاولة غرفة الطعام جاهزة، بالشوكة والملعقة والسكين، جميعها مصقولة بهوس، وموضوعة بالتوازي على جانبي الصحن.

بعد أن تتفقد هذا كله مراراً وتكراراً، كانت آمال تأتي لتقبّل جبهتي وتطلب مني، بصوتها الناعم المنكسر، العودة إلى المنزل. كنت أعرف تماماً السبب: زوجها ربيع، الذي أطلقتُ عليه في رأسي اسم “الغول”. كان على وشك العودة من العمل، وكان بحاجة، على ما يبدو، إلى “الهدوء التام”. “حرام بيجي تعبان وبدو يرتاح”: كانت آمال تقول دائماً لوالدتي، بنبرة توحي بأنها تحاول إقناع نفسها أكثر مما تحاول إقناع أمي. مع ذلك، أي على الرغم من الهدوء المطلق، والنظافة التي لا تشوبها شائبة، والترتيب الخالي من العيوب، والطعام اللذيذ على الطاولة، كنتُ، في تلك الليلة، مثل كل ليلة تقريباً، أسمع صرخات آمال عبر الجدار الرقيق الذي يفصل شقتنا المتواضعة عن شقتهم.

ذات يوم، بينما كانت آمال جالسة في مطبخنا بعين متورّمة ووجه ملتهب، تتهامس مع والدتي، زارتنا عمّتي الكبرى. بمجرد أن فهمت الموضوع، نطقت بجملة بقيت ترعبني لسنوات طويلة بعد ذلك. “ضرب الحبيب زبيب”: قالت. قالت أيضاً إن الضرب دليل على الحب، وإنه من “الطبيعي جداً” أن يؤدّب الرجل زوجته، وإن على آمال أن “تخرس وتتوقف عن الشكوى”.

قالت عمتي: “أكيد الحق عليكِ. لا بد أنك قد فعلت شيئاً ما لإغضابه. ثم ألم تخبرينا أنه معيل جيد وأب رائع؟ ماذا تريدين أكثر؟ ما هي بعض الضربات والركلات بين الحين والآخر؟ يجب أن تعتبري نفسك محظوظة لأن لديك زوجاً، مع وجود كل العوانس في هذا البلد”

أضافت: “أكيد الحق عليكِ. لا بد أنك قد فعلت شيئاً ما لإغضابه. ثم ألم تخبرينا أنه معيل جيد وأب رائع؟ ماذا تريدين أكثر؟ ما هي بعض الضربات والركلات بين الحين والآخر؟ يجب أن تعتبري نفسك محظوظة لأن لديك زوجاً، مع وجود كل العوانس في هذا البلد”. ملاحظة مهمة في هذا السياق: كانت عمتي تبلغ من العمر سبعة وأربعين عاماً، ولم تكن متزوجة.

تسعة وتسعون امرأة ورجل واحد

ذكرى مزعجة أخرى من الطفولة: المعلّمة تشرح لنا قواعد الجمع في اللغة العربية. تعطينا مثالاً: “الطالبات والطلاب يستمعون الى الأستاذ”. أسألها: “لماذا يستمعون وليس يستمعن؟”. تجيب: “لأن المذكّر أقوى من المؤنث. حتى لو كان في القاعة تسعة وتسعون امرأة ورجل واحد، نستخدم جمع المذكر السالم للحديث عنهم أو الدلالة عليهم”. أصرّ على السؤال، ممتعضة: “ولكن لماذا؟!”. “لأنّو هيك، جمانة. القاعدة هيك”. “ومن وضع القاعدة؟”. “يي! إنتي وأسئلتِك البلا طعمة!”، تتأفّف المعلّمة، ثم تدير ظهرها وتكمل الشرح على اللوح. كم بودّي اليوم أن أجد مدام رنا وأقول لها: “هل تعرفين مَن قرّر القواعد؟ مجموعة من الرجال، في لغتنا كما في لغات كثيرة أخرى. وهل تعرفين لماذا كانوا رجالاً حصراً؟ لأنهم، هم أنفسهم، ومن سبقوهم، قرّروا أيضاً أن وظيفة المرأة الطبخ والنفخ والغسيل والحَبَل، لا وضع القواعد”.

أحياناً، وبكل بساطة، لا يتطلب الأمر سوى قول كلمة واحدة: “لا!”

أروي لكنّ ولكم هاتين القصتين لأنهما تشكلان في رأيي نموذجاً معبّراً، الأولى عن لغتنا الذكورية، والثانية عن ذكورية لغتنا، والفرق بين الاثنتين مهم، فنحن غالباً ما نتحدث في النقاشات النسوية عن اللغة الذكورية، الموجودة مثلاً في الإعلام أو الأدب أو على السوشال ميديا، أو، كما في قصتي الأولى أعلاه، في أمثالنا الشعبية: أي أننا نتحدث تحديداً عن رصف كلمات وتكوين جمل والتعبير عن أفكار هي ذات معانٍ ودلالات ذكورية.

لكننا ننسى، في المقابل، ذكورية اللغة الجوهرية، الضمنية، أي الذكورية الموجودة في قواعدها الأصلية، حتى قبل أن نصل الى مرحلة دلالاتها، أي عندما تصاغ في جمل تعبّر عن التمييز. لن أخوض هنا في الثانية، لأنها تشكّل جدالاً منفصلاً يرتبط بعلم اللسانيات أو الألسنية، ويتطلب إعادة نظر كاملة في قواعد اللغة وبنيتها وتراكيبها ومكوّناتها وخصائصها. سأكتفي اليوم بالأولى، وتحديداً بتأثيرات أقوالنا الشعبية، وللحديث صلة.

سجادة وزيتون

لا يستطيع المرء أن يخوض في عالم الأمثال والأقوال الشائعة في اللغة العربية من دون أن يشعر بالصدمة، وأيضاً وخصوصاً، بالقرف، من مقدار التمييز الذي يتصاعد منها، مثل انبعاثات مشعّة سامة. هذا النوع من التمييز ليس مبهماً ومبطناً؛ ليس من النوع الذي يتسرّب عبر التلميحات والكلمات أو التعابير ذات المعاني المزدوجة؛ بل هو من النوع الفاقع، الصارخ، النيء: من التحيّز الجنسي إلى العنصرية، ومن رهاب المثلية إلى التعصب، تزخر أقوالنا الشائعة بجملٍ تحقّر المرأة أو تحجّمها، كما تحفل بخطابات الكراهية والدعوات الصريحة إلى العنف.

هل هذه اللغة المسيئة، التي تم استيعابها وتكديسها على مدى عقود- بل قرون- إلى درجة أنها أصبحت رد فعل فطريّاً في العديد من مواقف الحياة، مجرّد منتج ثانوي للنظام الأبوي، أو تراها من الأسباب التي تجعله لا يزال قوياً في منطقتنا؟ إلى أي مدى تساهم اللغة في ترسيخ الظلم الاجتماعي وانعدام المساواة؟ مَن جاء قبلاً، البيضة أم الدجاجة؟ لا أنفكّ أطرح على نفسي هذا السؤال.

لا يستطيع المرء أن يخوض في عالم الأمثال والأقوال الشائعة في اللغة العربية من دون أن يشعر بالصدمة، وأيضاً وخصوصاً، بالقرف، من مقدار التمييز الذي يتصاعد منها، مثل انبعاثات مشعّة سامة

بمعزل عن الجواب، الحق يقال إن للأمثال والأقوال الشعبية سلطاناً عظيماً وخطيراً علينا، إذ يمكنها تطبيع أفظع الأخطاء وجعلها صحيحة ومقبولة، لا بل حتى مستحسنة. يمكنها إعطاء صدقية فورية لأي فعل أو فكرة، مهما كانا مروّعَين أو شريرين. كيف لا، وهذه الأمثال والحِكم هي نتاج خبرة أسلافنا وثمرة حنكتهم؟ أليس صحيحاً أن الأسلاف دائماً “يعرفون أكثر منا”؟ هكذا نسمع، ونصدّق. تالياً، لا بدّ أن نثق بهم وبأحكامهم.

“ضرب الحبيب زبيب”: قال أسلافنا. بسبب هذا المثل، وسواه من الأقوال التي كأنها منقوشة في الصخر، لا تتعرّض لتهديد ولا تتزعزع، صدّقت آمال يومذاك، ومثلها صدّقت ولا تزال تصدّق أعداد هائلة من النساء الأخريات، أنه لا بأس من أن يضرب الزوج زوجته، لا بل أكثر من ذلك: إن الضرب تعبير عن المودة! وهناك عدد كبير من الأقوال الأخرى في لغتنا ولهجاتها المختلفة، من التي تشجّع على العنف تجاه الإناث وتتغاضى عن إساءة معاملتهنّ. إليكنّ وإليكم بعضاً من هذه “التحف”:

لا! أدمغة مئة امرأة لا تساوي دماغ دجاجة واحدة مجنونة!

“المرا متل السجادة: بدك تنفضها من وقت لوقت”. (سوريا)

“المرا متل الزيتون: ما بتحلى إلا بالرص”. (لبنان)

“النساء والجسور دائماً تحتاج إلى ترميم”. (العراق)

“اللي بتموت وليته من صفاية نيته”. (فلسطين)

“بنتك لا تعلمها حروف، ولا تسكنها غروف”. (المغرب)

“يا بسترها يا بقبرها”. (تونس)

“اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24”. (مصر)

هل قلتم نكتة؟

في غالب الأحيان، لا تصدر هذه الأحكام الرهيبة عن الرجال حصراً. النساء يكرّرنها أيضاً باقتناع كبير، لمجرّد أنهن نشأن عليها وعلى تصديقها. علاوة على ذلك، فهي لا تُستخدم فقط لإثبات نقطة ما أو لتبرير ظلم ارتكب في حق امرأة؛ بل الأنكى أنها تُلقى كنكات “بريئة” في السهرات واللقاءات الاجتماعية. بعض النساء أنفسهنّ يضحكن لدى سماعها، غير مدركات للضرر الذي تتسبّب به لصورتهن الذاتية الجماعية، إن مباشرة أو في اللاوعي. نعم، تضحك المرأة وتهز كتفيها وتسكت، لأن هذه الكلمات في رأيها “مجرّد” قول مأثور، وهي لا تريد أن تبدو “نيّقة” وثقيلة. أصلاً، الضرب والنفض والرصّ أمور لا تحدث إلا للأخريات، إلى أن تحدث لها، وهي، تلك المرأة، سوف تكفّ عن الضحك يومذاك.

لا يزال التحيّز الجنسي موجوداً للأسف في كل مكان، لكنه منتشر بشكل خاص في منطقتنا وثقافتنا، وإذا كانت اللغة الشعبية، كما يقولون، انعكاساً للمعايير المجتمعية لحضارة ما، فلا ينبغي أن نتفاجأ من أن لغتنا عدوانية وعنيفة الى هذا الحد. ولأوضّح: لا أتحدث فقط عن العنف الجسدي الذي تروّج له بعض أمثالنا، بل عن المنظور الكامل لما هي عليه المرأة، أو ما يفترض أن تكون عليه، وعن القمع والإذلال والتقليص التي تشكل مكونات رئيسية لهذا المنظور.

“المرا لو راحت للمريخ آخرتها للطبيخ”.

“عقربتين على الحيط ولا بنتين في البيت”.

“الرجّال بالبيت رحمة حتى لو كان فحمة”.

هذه الجملة الأخيرة هي ضربة مزدوجة، إذ يقترن التمييز الجنسي هنا بجرعة عالية من العنصرية: أي، حتى لو كان الزوج أسوَد البشرة، فهو لا يزال أفضل من عدم وجود زوج على الإطلاق. وبعد، هناك أكثر وأسوأ: “حب حبيبك ولو عبد أسود. شراية العبد ولا تربايته. سوّدتلي وجّي”: حفرة التعصّب في اللغة العربية لا قعر لها.

هكذا فإن الأمثال والأقوال الشعبية هي بمثابة الناقل المثالي والأكثر ولاءً للنظام الأبوي الجائر في جوهره. وخطرها هائل لأنه، بينما تتغير العادات والقوانين وتتقدم، وإن ببطء، لا تكاد الأمثال تفعل ذلك أبداً. كما لو أنها تقف مجمدة في الزمن، غير قابلة للتحدي، كمثل “حقائق” مقدسة لا جدال فيها وحولها، ترثها الأجيال الجديدة من سابقاتها، ويستمر الناس في استخدامها دون تفكير، بشكل شبه تلقائي، حتى عندما تصبح أعراف عصرهم متناقضة معها. إنها حلقة مفرغة جهنميّة، كأن لا سبيل للخروج منها.

التربية ثم التربية

“ضلّ راجل ولا ضلّ حيطة”.

“الرجّالة غابت‏،‏ والستات سابت”.

“عقل مية مرا بحجم عقل دجاجة خوتة”.

على سيرة الدجاجة، أكرّر: “الدجاجة أو البيضة”؟ قد تكون الإجابة الأقرب إلى الواقع هي أن اللغة والنظام الأبوي يتغذيان، اللغة من النظام، والنظام من اللغة، ويشكلان انعكاساً أحدهما للآخر. لكن السؤال عمّا أتى أولاً ليس مهماً حقاً، المهم هو الأثر، أي العواقب، وهذه وخيمة في أحسن الأحوال. إذ تساهم اللغة باستمرار وعناد في تطبيع الظلم الاجتماعي وانعدام المساواة، أو في التحريض عليهما. كيف لا يكون الأمر كذلك ونحن ندرك أنفسنا ونكتشفها ونعرّف عنها بالكلمات؟ ليس عبثاً اعتبار هذه الكلمات “أمضى من السيوف”.

تالياً، عندما يتم إخبار الفتيات الصغيرات مراراً وتكراراً أنهن “أقل”، أنهن ضعيفات وغير مستحقات، وأن قيمتهن الوحيدة هي قابليتهن للزواج، فإنهن سوف يكبرن لا محالة، عدد كبير منهن على الأقل، على تصديق ذلك واعتباره حقيقة مطلقة لا يمكن التشكيك فيها أو مساءلتها. قد تنقذ تأثيرات التمرّد اللاحق والتفكير النقدي بعضهنّ، ولكن حتى المتمرّدات سيستمررن في التشكيك بأنفسهن وبقيمتهن في العديد من المواقف الصعبة من حياتهن البالغة. حب الذات وتقديرها هما عمليتا تدريب طويلتان، ويعتمد نجاحهما على الوقت المبكر الذي بدأت فيه الأنثى تؤمن بقدراتها.

في شكلٍ مواز، عندما يتم إخبار الفتيان الصغار مراراً أنهم “أكثر”، أنهم الأقوى والأكثر استحقاقاً، وأن النساء مجرّد ممتلكات وديكورات، وُلدن ليكنّ في خدمة الذكور؛ أنهنّ مهووسات بالزواج وتتحكم بهنّ الهرمونات؛ وأن صفعة على وجوههن أو ركلة في بطونهنّ ليست بالقضية الكبيرة؛ لا مفرّ من أن يكبر هؤلاء الفتيان، بدورهم، على تصديق ذلك. لن يتحوّل جميعهم طبعاً إلى شركاء مسيئين أو أنذال ذكوريين، إلا أن هذه التربية ستشكّل، حتى مع أطيب النيات وأرفع الأخلاق، الطريقة الواعية أو اللا واعية التي ينظرون بها إلى النساء ويقيّمونهن.

“ضرب الحبيب زبيب”: قال أسلافنا. بسبب هذا المثل، وسواه من الأقوال، صدّقت، ولا تزال تصدّق، أعداد هائلة من النساء، أنه لا بأس من أن يضرب الزوج زوجته، لا بل أكثر من ذلك: إن الضرب تعبير عن المودة

لا أزعم أن اللغة هي أداة التربية الوحيدة: هناك طبعاً السلوكيات التمييزية، والأفعال التي تنمّ عن تحيّز، والقوانين غير العادلة، والكليشيهات التعميمية، ولكن أيضاً، ولكن خصوصاً، وفي الدرجة الأولى والمباشرة: اللغة.

تفكيك الألغام

ليست الأمثال هي الناقلة الوحيدة للتمييز الجندري وللممارسات والمواقف التمييزية (قد تتمنى الواحدة منّا أن يكون الأمر بهذه السهولة)، ولا أدّعي أصلاً أنها كلها سيئة؛ لا بل إن بعضها جواهر من البصيرة والحكمة والنصح. تتبادر إلى ذهني بعض هذه من التي اعتادت جدتي تكرارها على مسامعي: “الصبر مفتاح الفرج”، “ما فيكي تحملي بطيختين بإيد وحدة”، “يلي ما بيطال العنب بيقول عنو حصرم”، “مين عنترك يا عنتر؟ ما لقيت حدا ردّني”… الخ. بعضها ساعدني وعزّاني في العديد من المواقف الصعبة، وبعضها الآخر ألهمني كيف أتصرّف في أوقات المواجهة، ولكن، لهذا السبب على وجه التحديد، أي لأن الأمثال لديها القدرة على التأثير علينا وإلهامنا، ولأنها تنطبع في ذاكرتنا بسهولة، يمكن أن يكون ضررها ماحقاً وغير قابل للعكس، ويجب التعامل معها بحذر. هي بمثابة ألغام يمكن أن تنفجر في وجوهنا عند أي زلة.

لا وألف لا! ضرب الحبيب ليس زبيباً!

طيّب، ماذا يمكننا أن نفعل بهذه الألغام؟ يمكننا أن نفعل الكثير، في الواقع، من خلال فعل القليل جداً. من أجل تفكيكها والتخلّص منها، لا يتطلب الأمر سوى الانتباه المستمر لما نقوله ولما يقال في حضورنا. لا يتطلب الأمر سوى ملاحظة شجاعة أو احتجاج حازم أو تعليقات من نوع: “هذا الكلام خطأ” أو: “هذه النكتة ليست مضحكة”، في المكان والوقت المناسبين. باختصار، يتطلب الأمر أن نتكلم بوعي، وأن نصغي بوعي، وأن نتحلى بالشجاعة للتعبير عن اعتراضنا بدلاً من أن نحاول إرضاء الأكثرية، وألا نخاف من أن نبدو نيّقات ونيّقين، وثقيلات وثقلاء. ألف مرّة نيّقة وثقيلة، ولا مرّة واحدة ساكتة على ظلم أو على إهانة.

يتطلب الأمر أيضاً، أولاً وقبل كل شيء، أن نربّي أطفالنا على مبادئ وتعابير مختلفة: تلك التي تعلم الاحترام، وتفكك القوالب الجندرية النمطية، وتتمرّد على التمييز على أنواعه، وتؤكد أن المرأة قادرة بالفعل على تحقيق أي شيء يخطر ببالها، ولا تقلّ استحقاقاً للحقوق والفرص والكرامة عن الرجال. المطلوب أن نسائل المعطيات الموروثة التي نبني عليها غالباً حياتنا وعقولنا ومعتقداتنا وتصرفاتنا بطريقة أوتوماتيكية، أن نقاوم إغراء السهولة ونضحي به في سبيل فعل الشيء الصحيح. أي، بالخلاصة، أن نستخدم واحداً من أهم امتيازاتنا كبشر: امتياز الفكر النقدي الذي يتيح الاختيار الواعي.

Just say NO

أخيراً وليس آخراً، إذا كان من الدقة القول إن اللغة “تصنعنا”، وإنها غالباً ما “تمعسنا” وتحتقرنا وتقتلنا نحن النساء، فدعونا نتذكر قوتنا المضادة: قدرتنا نحن على صنعها أيضاً؛ على إحيائها وتشكيلها وتكييفها وتحويلها بناءً على مطالبنا واحتياجاتنا ومعاييرنا وأخلاقياتنا. اللغة ونحن، شارع ذو اتجاهين، ويمكننا أن نجعل الكلمات والمفاهيم الضارة بالية، ومنقرضة، من طريق مقاومة رد فعل استخدامها بلا تفكير.

أحياناً، وبكل بساطة، لا يتطلب الأمر سوى قول كلمة واحدة: “لا!”

لا! أدمغة مئة امرأة لا تساوي دماغ دجاجة واحدة مجنونة!

قطعاً لا! مصير المرأة ليس إما الرجل وإما القبر!

لا وألف لا! ضرب الحبيب ليس زبيباً!

ربما إذا قلنا، رجالاً ونساء، هذه الـ “لا” أكثر وبحزم أكبر، ستطأ أقدام النساء المريخ من دون أن يقلقن بشأن احتراق طنجرة المجدرة. ربما، آنذاك، لن تضطر “آمالات” هذا العالم إلى لعب الغميضة ليختبئن من “الغول”.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي المنصة النسوية السورية

شاركنَ المنشور