سامر مختار|موقع درج
“يكاد يكون قرار التخلي عند المرأة، سلاحاً أخيراً تشهره للنجاة، فيرعب سلطة رجال كثيرين، ويدفعهم لكل التصرفات الجنونية، برغم الأعراف التي تتيح لهم الهيمنة على حياة المرأة وحريتها.”
كان عمري ست سنوات عندما رأيت أمي تبكي للمرة الأولى، وهي بحالة انهيار كامل. لا أعرف ماذا حصل في ذلك اليوم، وقتها كنا نعيش مع عائلة أبي في بيتٍ صغير، أنا وأبي وأمي في غرفة، وجدتي وعمتاي الاثنتان في غرفة، وعمَّان آخران في غرفة ثالثة. كنت ألعب في الصالة حين رأيت أمي تركض إلى غرفتنا، وتغلق خلفها الباب، ارتجف قلبي خوفاً… لم يكن أبي موجوداً، وكانت في البيت جدتي وعمتي الكبيرة. لحقت بأمي، وحين فتحت الباب رأيتها تجلس على السرير بوجهٍ غارق بالدموع، قالت لي: “طلاع لبرا وسكر الباب”.
لم أعتد سماع أمي تصدر أوامر مباشرة لي بهذه الطريقة الحاسمة، كانت تلك مهمة أبي، فأطعتها وأغلقت الباب، ومضت 12 سنة، وفي جلسة سمر وفضفضة مع أمي، أخبرتها أنني على علم بأنها لم تكن سعيدة حين كنا نتشارك الشقة مع عائلة أبي، قبل أن تصبح ملكنا إثر وفاة جدتي وتقاسم الميراث.
أخبرت أمي أنني كنت أراقبها دوماً، ورأيت كيف كانت خدمة العائلة هي الجزء الأكبر من مهماتها في المنزل، بجانب مسؤولياتها كأم لطفل. وذكرتها بذلك اليوم الذي دخلت فيه الغرفة وبكت: “بتتذكري؟ وقتها لحقتك وفتحت الباب وإنتي قلتيلي: سكر الباب وطلاع لبرا، كنتي قاعدة عم تبكي من القهر والتعب… لو إنتي نسيتي أنا ما بنسى”.
حُفرَت ملامح أمي وهي تبكي بذاكرتي إلى الأبد. بكاؤها لم يكن عادياً، كان بكاءً من شدة القهر، لذلك أصبحت ملامحها وهي تبتسم أو تضحك، تبعث بداخلي شعوراً نادراً بالأمان. تستطيع هذه المرأة بابتسامة واحدة أن تمنح السكينة لعالم بأكمله.
أعطتني أمي ما ظننته درساً مبكراً في فن التخلي، وهي المرأة التي أحبت رجلاً واحداً في حياتها، ولم يتخليا عن بعضهما حتى في أحلك الظروف، لكنه في الحقيقة كان درساً في التحرر، وقد اقتضى إدراكه تماماً تجارب كثيرة وسنوات طويلة.
برغم ضيق الحال، وما واجهها من صعوبات الحياة، كانت أمي قادرة على الحفاظ على الحب الذي جمعها بأبي. كنا في الشتاء نجلس جميعاً حول المدفأة التي تعمل بالمازوت، وتحكي لنا بكل غنج عن غرام أبي بها، وكيف كان يتحدث معها بالسر، بالقرب من بيت عائلتها، تقول: “كان أبوك يطلع على أسطوح بيت عمي، وأنا أطلع على أسطوحنا، ونقعد نحكي”، وكان أبي يضحك، ويقول مازحاً: “مو صحيح هالحكي”.
أذكر حين تعرضت لأول انكسار عاطفي بحياتي، رجعت إلى البيت وأغلقت على نفسي الغرفة، وبكيت، مثلما فعلت هي تماماً، وتكرر السيناريو، لحقت بي، وفتحت الباب، فقلت لها على الفور: “أمي طلعي وتركيني بحالي”، لكنها لم توافق، دخلت، وأقفلت الباب وجلست بقربي على الأرض، وبوسط العتمة ردّت علي: “اي ما حزرت، حكيلي ولا… شو صاير معك؟”.
ورثت من هذه السيدة حساسيتها المفرطة تجاه الحياة والناس، وورثت منها أيضاً مشاعرها الفياضة، وهو ما أدركَته فحاولت أن تعلمني، بعد تجارب عاطفية عدة، أننا يجب ألا نتمسك بأي شخص لا يتمسك بنا.
أعطتني أمي ما ظننته درساً مبكراً في فن التخلي، وهي المرأة التي أحبت رجلاً واحداً في حياتها، ولم يتخليا عن بعضهما حتى في أحلك الظروف، لكنه في الحقيقة كان درساً في التحرر، وقد اقتضى إدراكه تماماً تجارب كثيرة وسنوات طويلة.
ذاكرة القهر… عن ثمن كلمة “لا” في حياة النساء
تكتظ ذاكرتنا بصور نساء مقهورات ومعنَّفات، ومع كل جريمة ترتكب بحق امرأة، يمر بنا طيف أخرى كنا شاهدين في مرحلة ما من حياتنا على العنف الذي تعرضت له، وربما ما زالت تتعرض له حتى اللحظة. ربما يجعلنا هذا نتأمل رغبة التملك والهيمنة التي يشهرها الرجل بوجه شريكته، وعلاقتها بالقدرة على التخلي.
عندما قُتِلَت الشابة السورية آيات الرفاعي على يد زوجها ليلة رأس السنة 2021- 2022، ونشرت الصحف والمواقع قصتها، بأنها كانت تتعرض للضرب والعنف والمعاملة السيئة من قبل زوجها وعائلته،
تذكرت جارتنا الشابة التي تزوجت في السادسة عشرة. كان وقع خبر زواجها، وهي بهذه السن، صادماً لي، وبعد مرور عام على زواجها أنجبت طفلة، وبعد عامين، قررت الانفصال عن زوجها، والعودة إلى بيت عائلتها.
في البداية لم نعلم سبب الانفصال، فقد تحاشت الحديث عنه في أثناء زيارتها الجارات وصديقات طفولتها، لكن بعد شهرين على عودتها إلى بيت أهلها سمعنا صراخها يرج المبنى السكني، الذي لم يكن بعيداً من منزلي.
كنت قد أتممت العشرين من عمري آنذاك، السن التي كانت تتشكل فيها صورة جميلة ووردية عن فتاة أحلامي… كنت شاباً يحلم بأن يقع في غرام امرأة جميلة ومثقفة، ومتحررة من تقاليد المجتمع وعاداته، نمضي وقتنا معاً في حضور حفلات الموسيقى وأفلام السينما وزيارة المكتبات، ونمضي فترة الظهيرة في المقاهي، نثرثر حول الأدب والشعر، ونحرق عدداً لا نهائياً من السجائر. كنت أسيراً لتلك الصور والمشاهد المستوحاة من الأفلام السينمائية الأوروبية الرومانسية التي كنت أشاهدها بكثرة، والتي بنيت على أساسها أحلامي.
عندما فتحت باب بيتنا وركضت إلى مبنى جارتنا، على وقع صراخها، ورأيت الدم يسيل من أنفها، وقد توَّرم جفن عينها اليسرى، تساقطت كل الصور الرومانسية التي كانت بخيالي مُحطَّمة.
في محاولة مني لتقصي ما بدا كمأساة مزدوجة تعانيها جارتنا الشابة، تواصلت مع جارة أخرى كانت تربطني بها صداقة قديمة، فحكت لي… بعد زواج دام عامين، وبعدما أصبحت جارتنا المعنفة أمّاً لطفلة تبلغ عاماً واحداً، هجرها زوجها، وبات يخرج صباح كل يوم إلى العمل، ويتغيب إلى منتصف الليل، وحين تسأله عن سبب تأخره، يخبرها أنها “ضغوط وظيفته”، لكن بعد ستة أشهر من تأخره بشكل يومي، اكتشفت أنه كان يخونها مع امرأة أخرى، وعندما واجهته كان ردّه بأنها “مجرد نزوة”، وأن عليها تقبل الأمر الواقع.
لكن “الأمر الواقع” بالنسبة إلى جارتنا كان أنها شابة لم تكمل العشرين، وأم لطفلة، وزوجها هجرها ويخونها مع امرأة أخرى!
قررت جارتنا العودة إلى بيت أهلها، الذين تضامنوا معها في البداية، لأنهم شعروا بالإهانة بدورهم، لكن تضامنهم مع ابنتهم لم يصل إلى دعمها في طلبها الطلاق. كانت العائلة تعتقد أنها فترة يمر بها كل الأزواج، وأنها خلافات ستمضي حتماً، وتعود المياه إلى مجاريها. لكن في المقابل لم يسأل الزوج عن زوجته، حتى بعدما تجاوزت فترة “إقامتها” عند أهلها شهرين كاملين، خلالها بدأت العائلة تشعر بعبء وجود ابنتهم مع رضيعتها في المنزل، وضاق أخوها المراهق ببكاء الطفلة المتواصل. ومع غياب الأب طوال اليوم في العمل، فرض الأخ المراهق سلطته على أخته الكبيرة، حتى وصل به الأمر لضربها أمام طفلتها.
ما أنقذ الفتاة من الموت هو تدخل أهالي الحي، رافضين العنف الممارس عليها، وفتحت بعض العائلات المقربة من عائلتها بيوتهم لها، وأبدوا استعدادهم لدعمها وحمايتها، لكن ما أصاب جارتي يومها كان أعمق بكثير من أن يصلحه مجرد “تضامن”.
كان خلاف جارتي مع زوجها، انعكاساً لرغبتين في التخلي، الرغبة الأولى كان تخلي زوجها عنها، دون أي عواقب، فلم يصارحها بأنه ما عاد يحبها مثلاً، وانفصل عنها، لا، بل كان يريد أن يمتلكها “كزوجة”، دون مسؤولية عاطفية.
أمَّا التخلي الثاني فكان رغبتها هي في الخروج من تلك العلاقة بالحد الأدنى من الكرامة، والذي دفعت ثمنه عندما عانت من ضيق عائلتها بها، ثم صدامها مع أخيها، لنعود إلى أرض الواقع حيث لا تستطيع أكثر النساء قول “لا” في سلام.
العنف والتخلي… عن معركة التحرر والانعتاق
مع مقتل الشابة المصرية نيرة أشرف على يد شاب، طاردها ولاحقها طويلاً، ثم ذبحها لأنها رفضت حبه، عدت مجدداً إلى فكرة التخلي.
هناك خيط رفيع يفصل بين نوعين من مشاعر الكبرياء، الأول مرتبط بالتخلي، والثاني مرتبط بالتملك، الأول ضد كل ما تعلمه الرجال في ثقافتنا العربية عن الحب، بوصفه سلطة يجب أن تهيمن بها على حياة الآخر، والثاني كانعكاس للسلطة الذكورية والأبوية.
ومن خلال ما عشته من تجارب شخصية، وما سمعته من قصص لصديقات من سوريا والعالم العربي، فإن المرأة في مجتمعاتنا هي الأكثر قدرة على التخلي، المرتبط بالكبرياء وعزة النفس، مقارنةً بالرجل.
التخلي عند المرأة مرتبط بالتحرر والانعتاق، ومحاولة للخروج من الأطر التي يضعها المجتمع داخلها، فهي دائماً في صراع مع الآخر/الرجل (الأب– الأخ– الحبيب- الزوج)، صراع بين الحب، والتخلي عن هذا الحب بما يلقيه عليها من أعباء، فمنذ الطفولة، والحب بالنسبة إليها هو الانتماء إلى عائلتها، والأمان الذي تشعر به في كنفها، لكن ما إن تصل المرأة إلى مرحلة المراهقة، حتى تتحول إلى عبء على كاهل العائلة، وتبدأ بمواجهة السلطة الأبوية والذكورية… تبدأ الفتاة المراهقة المعركة ضد المجتمع، وترى صورته الحقيقية قبل الشاب المراهق بكثير.
تبدأ دائرة العنف ضد المرأة منذ سنٍ مبكرة، فالمجتمع لا يسمح لها بالتجربة واستكشاف الحياة على حريتها، خصوصاً إذا كانت تجارب متعلقة بحياتها العاطفية والحميمية. يحمل الحب في حد ذاته مخاطرة على كل امرأة، سواء كان خطراً خارجياً تواجهه هي وحبيبها، مثل ما قد يحدث إذا اكتشفت عائلتها أنها أحبت شاباً أو أقامت علاقة معه، فتتعرض للعنف الجسدي الذي قد يصل إلى القتل.
وقد يكون خطر الحب داخلياً، يأتيها من العلاقة وحبيبها نفسه، الذي نشأ في بيئة تحتفي بالرجل إذا خاض علاقات عاطفية وحميمية متعددة، وتمنحه صلاحية التخلي في أي وقت شاء دون مسؤولية، وتمنحه أيضاً سلطة أن يفرض نفسه في العلاقة ولو ضد رغبة شريكته في الانفصال، فيستعمل ضدها جميع أساليب الترويع إذا رفضت حبه أو رفضت استكمال العلاقة لأي سبب من الأسباب.
في كل يوم هناك امرأة تخوض معركة من معارك “التخلي”، منذ لحظة اتخاذها القرار بأن تكون سيدة مصيرها، وأن تكسر القيود التي تُفرض عليها من قبل ذكور عائلتها، أو من المجتمع الأبوي وعاداته وتقاليده، وصولاً إلى القوانين التي تعطي الرجل سلطة وامتيازات على حساب حريتها.
نادراً ما يضطر رجل إلى خوض معركة تخلي على المستويين النفسي والعملي، فالعائلة تسامح الابن الذكر على كل أخطائه وهفواته وتمرده، ومع مرور الزمن تنسى لتحيطه هالة من نور وكأنه “نبي”، لكن هذا لا ينطبق على الابنة، والتي إن سارت عكس الاتجاه الذي رسمته لها العائلة، أو اختارت طريقاً مختلفاً، تصبح منبوذة إلى يوم الدين، وإذا هُزِمَت في منتصف معركة تحررها وعادت إلى عائلتها، فستظل في خانة “العاصية” إلى الأبد.
يكاد يكون قرار التخلي عند المرأة، سلاحاً أخيراً تشهره للنجاة، فيرعب سلطة رجال كثيرين، ويدفعهم لكل التصرفات الجنونية، برغم الأعراف التي تتيح لهم الهيمنة على حياة المرأة وحريتها.
هذا المقال المنقول يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر عن رأي المنصة