تبدو كلمة نسوية مبهمة إلى حدٍ ما عند مطالعتها باللغة العربية، خاصة أنه تم ربطها بعددٍ من الصور النمطية. لذلك، تبذل النسويات معظم جهودهن في إنتاج المعرفة النسوية.
تحاول النسويات تعريف النسوية وبديهيتها، لمواجهة التنميط الأبوي للتعريفات المتداولة أو النابعة من الوعي الذكوري. لكن هذا المجهود يأخذ الكثير من صحتنا النفسية والجسدية كنسويات.
إذ نواجه الخطر كل يوم، بمجرد أن تُعرّف الواحدة منّا عن نفسها كنسوية. يصيبنا الملل والإرهاق من العمل المستمر في محاربة الفكر الذكوري. ونُستنزَف في شرح أهدافنا وفي العمل السياسي، لمحاربة الأيديولوجيا الأبوية التي تحاول تشويه تصوّراتنا عن أنفسنا. ويتم استهلاكنا في تنظيف سموم هذا النظام من عقولنا، وألّا نحكم على بعضنا بقيمه.
الهجوم الذكوري ضد النسويات.. بين الشيطنة ونزع الانسانية
تختلف الهجمات الذكورية ضد النسويات، وتتنوع بتنوّع الموقف الذي يواجهن فيه النظام الأبوي.
تُرفع بعض الشعارات الذكورية في وجه النسويات من أجل تقويض شرعيّتهن، ومحاولة تصوير أنهن يهتمين بفئةٍ معينة، لا بجميع النساء.
فمثلًا، عند تبنّي خطاب نسوي صريح، أو فضح العنف الأبوي، تواجَه النسويات بخطابٍ عنيفٍ يتوعدهن بالعنف المجتمعي والملاحقات الأمنية. يرميهن بتهم العمالة للغرب وتهديد قيم المجتمع، ونشر الخراب والفساد، جاعلًا منهن عِبرة لكل امرأة تعرّف نفسها كنسوية.
لكن هذه الهجمات تركّز أيضًا على النسويات الناشطات في المجال العام، وتُزايد على حملات الدفاع والمناصرة التي يتبنينها. وتتركز هذه الآلية الأبوية في مهاجمتهن بالشعار الشهير: “أينكنّ عن فلانة، أين النسويات لا نراهنّ”!
تُرفع هذه الشعارات في وجوهنا من أجل تقويض شرعيّتنا، ومحاولة تصوير أننا نهتم بفئةٍ معينة، لا بجميع النساء. شعاراتٌ استخدمت من التيارات الذكورية في المجتمع، والمجالات السياسية، والمساحات الإلكترونية التي اجتمعت على المزايدة على النسويات وشيطنتهن.
هذه المزايدة تهدف إلى نزع الشرعية عن النسويات، وتأليب النساء ضدهن، بذريعة أنهن لم يدافعن عن فلانة، أو لم يقمن بحملةٍ عن أخرى.
وتهدف أيضًا إلى نزع الإنسانية عن النسويات، ويتم نفي وتجاهل صفاتهن البشرية. حيث يقوم الضغط الذكوري على النسويات برسم صورة نمطية عنهن، كنساءٍ خارقات تتم مطالبتهن دومًا بالدفاع عن “كل القضايا”، كما لو أنهن مسؤولات عن وقف العنف.
صورٌ تستثني العجز والإرهاق الذي يرافق النسويات، وتتجاهل أن النسويات تحت تهديدٍ دائمٍ من المنظومة التي تحاربهن، لتستمر في قمع النساء والمهمشات/ين.
ولكن هناك احتمالات لا يتم الانتباه إليها، أو يتم تجاهلها عن قصدٍ. بكلماتٍ أخرى، يمكن أن تغيب النسويات لزمنٍ طويل، ويمكن ألا يغطين معظم القضايا، ويمكن أن يتوقفن في المعركة، أو يُقررن عدم خوضها. لأن المعركة ضد النظام الأبوي متشعبة ومتوحشة في رد الهجوم عليها بهجومٍ أعنف.
النسوية “السيئة” والعيش خارج التوقعات
لا يقتصر الوضع مع النسويات على التعاطي اليومي مع العنف، وسلب حقوقهن في الحياة وفي العمل السياسي، وفي الموارد واللذة والعيش بحرية. بل أيضاً في تجلّي معنى أن نكون نسويات، وبشر في نفس الوقت. في القدرة على الظهور بقوّةٍ نضاليةٍ وبضعفٍ بشري. وعلى أن نكون قادرات على محاربة الأنظمة القمعية، والتعب من المعركة في ذات اللحظة. أن نشارك في العمل من أجل عالمٍ أفضل، وأن نعيش بأساليب الحياة التي نختارها.. مهما كانت عادية أو نمطية.
في كتاب “نسوية سيئة”، طرحت الكاتبة الإفريقية- أميركية روكسانا غاي وجهة نظر نسوية حول معنى أن نكون نسويات، وأن نتواجد بكل تناقضاتنا الإنسانية. فقبول تسمية نسوية بحريّة، يعني أن نكون “سيئات” بالنسبة لكثيرات/ين، وأن نعيش في فوضى من التناقضات، حتى مع أنفسنا.
أن نفشل في أن نكون نموذجًا مثاليًا للنساء، تمامًا كما نفشل في أن نكون نسويات “جيّدات” بالنسبة للأخريات/للآخرين.
طرحت روكسانا فكرة أنها تخطئ في النسوية بطرقٍ عدة، على الأقل، وفقًا للطريقة التي تشوهت بها تصوراتها عن النسوية لكونها امرأة. وجادلت في فكرة أن الفشل في أن تكون امرأة “جيدة” هو نفسه الفشل في أن تكون نسوية “جيدة”، وأن تخذل التوقعات بشكلٍ مستمر.
تعريفها المفضل للنسوية، هو التعريف الذي قدمته “سو”، وهي امرأة أسترالية. فعندما تمت مقابلتها في مختارات (Kathy Bail’s DIY Feminism) لعام (1996)، وصفتْ النسوية ببساطة على أنها: “نساء لا يرغبن في أن يعاملن بهراء”. هذا التعريف بالنسبة إلى روكسانا موجزٌ ومعبّرٌ عن كيف تتصوَّر النسوية. ولكنها تواجه مشكلة عندما تحاول توسيعه، وتعتبر أنها تقصّر كنسوية وليست ملتزمة بالقدر الكافي، ولا ترتقي للمُثل النسوية بسبب مَن وكيف تختار أن تكون.
بين النسوية ونظرية الأدائية الجندرية
استعانت روكسانا بكتاب “جوديث بتلر” في “الأدائية الجندرية”، لشرح هذا التوتر بشكلٍ أعمق، وكيف أن إخفاق الأشخاص في الدور الجندري يعرضهن/م لعقوباتٍ مباشرة. بينما التصرف بانسجامٍ مع التوقعات الجندرية، يجنبهن/م ذلك العقاب.
هذا التوتر الناتج عن الفشل في أداء دورٍ اجتماعي معيّن حسب التوقعات، هو ما ينتج الألم والتشتت النفسي بالنسبة لنساءٍ كثيرات، والأشخاص غير المطابقات/ين للجندر. نرى هذا التوتر في الفشل في الالتزام بالمعايير المفروضة اجتماعيًا، كمعايير الجمال وقواعد السلوك المناسبة لـ”المرأة الجيدة”، التي هي بالضرورة “طيبة، مهذبة وغير مزعجة”. تلك التي تعمل خارج المنزل، ولكنها راضية عن كسب أقل مما يكسبه الرجل.
وفق المعيار الذكوري، فالنساء “الجيدات” يحملن الأطفال/ الطفلات ويبقين في المنزل لممارسة أدوار الرعاية، دون شكوى. “المرأة الجيدة” لا ترغب في الجنس، إنما “يتم ممارسته معها”. هي الصامتة، والملتزمة بكل معيار، وتشق طريقها في الحياة وفقًا لما هو متوقّع منها. ووفقًا لنفس المعيار الذكوري، فالنساء اللواتي لا يلتزمن بهذه المعايير، ساقطات وغير مرغوبٍ فيهن. هن “نساء سيئات”.
بنفس القدر، رأت روكسانا أن أطروحة “بتلر” حول “الأدائية الجندرية” يمكن أيضًا تطبيقها على النسوية. حيث تشوّهت الحركة بسبب التيارات الرجعية، التي وضعت معايير لمَن هي “النسوية الجيدة” و”النسوية السيئة”.
النسوية ثورة ضد الكمال والتنميطات
في الوعي الجمعي الذكوري، تم ربط النسوية بمجموعة تنميطات، لتقويضها والحؤول دون أن تكون حركة قاعدية.
يصعب علينا التخلص من التصنيفات، لأنه تم تصنيفنا منذ اللحظة التي وُلدنا فيها، بالجنس والعرق واللون والميول والطبقة.
شرحت مؤلّفة كتاب “نسوية سيئة” كيف أن هذا التشويه الطويل للنسوية جعل النسويات أنفسهن يحاولن أن يقمن بإعطاء تعليمات حاسمة. يتحركن وفقها وإلا فقدن شرعية أن يكن نسويات.
في مرحلةٍ ما، يتجسّد الصراع في فكرة أننا نبحث دائمًا عن الكمال الذي حصرنا فيه النظام الأبوي. أن نصارع لنضع أنفسنا في علبةٍ ضيّقةٍ من القواعد، لا نرى أنفسنا إلا من خلالها.
حسب روكسانا، يصعب علينا التخلص من التصنيفات، لأنه تم تصنيفنا منذ اللحظة التي وُلدنا فيها، بالجنس والعرق واللون والميول والطبقة. وكلما تقدّمنا في السن، زادت التصنيفات والقواعد، التي يجب أن نلتزم بها لنتجنب العواقب والتبعات.
كما ناقشت، في كتابها، علاقة النسوية بعدة قضايا كالعرق، والتجارب الشخصية للنسويات. حيث أوضحت أن أسلوب حياتهن يحتاج إلى مساحةٍ خاصة، تعمل النسويات على حمايتها، بدلًا من رفض بعضهن بناءً على معايير تصنّفهن وتقصيهن.
وركزت على الصور النمطية التي تحيط بالنسويات حتى من قِبَل نسويات أخريات. وتطرّقت إلى عدة أمور، مثل اعتبار أن كل نسوية يجب أن ترفض الأمومة أو الزواج، والاهتمام بمظهرها الشخصي، ومتابعة الموضة أو سماع الراب. وقدمت العديد من الأشياء التي يتم تصويرها نمطيًا بأن النسويات ضدها، وأن من تفعلها تفقد لقب نسوية.
هذا التنميط أثّر أيضًا على نساء أكثر هشاشة وأقل تقبلًا في الكثير من المساحات النسوية، وهن النساء العابرات. حيث أثّرت التنمطيات الذكورية داخل الحراك النسوي على حق النساء العابرات في الظهور أو تبني قضاياهن. كما حصرهن في آراءٍ كارهةٍ لمجتمع العابرات/ين، أو ذات رؤية ضيقة لكيف يمكن أن يختار الأشخاص أسلوب حيواتهن/م ومظاهرهن/م خارج السطوة الأبوية.
أبدت روكسانا إعجابها بالموضة، وأنها متابعة جيدة للمجلات العالمية مثل مجلة “فوغ”. وقالت أنها تسمع موسيقى الراب، وتحب أن تحظى بالأطفال/ الطفلات. وعلى عكس التنمطيات، لا تعتبر أن أي من خياراتها الشخصية يؤثر على التزامها السياسي تجاه قضايا النسوية.
النسوية ليست طائفة
كما على العديد من النسويات، كان من الصعب على روكسانا القبول بأن تكون النسوية طائفة، أو مكان تصنف فيه المناضلات بـ”السيئات” أو “الجيدات”. وذلك وفقًا لمعايير ليبرالية ورجعية، ترى أن النسوية هي المرأة خارقة القوة، التي تلتزم بـ”تحقيق نفسها”، لأن معيقاتها ذاتية وليست ممنهجة.
وهذه نفسها مغالطة منطقية، تستهدف التشويش على حقيقة أن النساء يعملن منذ فجر التاريخ، ولا يُعد العمل مفتاحًا سحريًا لتحرر النساء. تلك الآراء ترى النسويات اللواتي لا يعملن كسولاتٍ واتكاليات، أو غير مهتمّات بالقتال، لإثبات أنهن قويات ورافضات لتنمطيات الذكورية. بينما لا يوجد لديهن أي اهتمام أو مسؤولية تجاه تأثير العنصرية والاستعمار والرأسمالية على ذوات البشرة السوداء والملونات ونساء العالم الثالث.
ورأت أنه بدلًا من التركيز على ما تعيشه النساء من قضايا مختلفة تعود للعنصرية والاستعمار والطبقية، فإن هناك تيارات من النسوية، وخصوصًا النسوية البيضاء، تعتبر التركيز على هذه القضايا يقسم النسوية. بدلًا من الاشتغال على جعلها أكثر جذرية وشاملة لكل النساء والفئات المهمشة، باختلاف قضاياهن واهتماماتهن وأسلوب حياتهن.
أن نكون نسويات دون نزع هشاشتنا أو خياراتنا
في هذا الكتاب، طرحت الكاتبة الإفريقية- أميركية فكرةً نسويةً جوهرية، وهي الدفاع عن حق النساء والأشخاص اللامعياريات/ين جندريًا والفئات المهمشة في اختيار حيواتهن/م خارج القوالب.
وركزت على عدم الوقوع في فخ التناقض، وسلب إرادة الأشخاص فقط لأجل الانتصار لثنائية سيء/جيد. لأن هذه التصنيفات نفسها هي أدوات النظام الأبوي، لا الحراكات التي تقاتل ضده.
كما أن ذلك يُذكّرنا أن هذه التصنيفات تفرق الصفوف. حيث تقصي كثير من النساء، اللواتي يخترن مسار الزواج والإنجاب، وعدم العمل خارج المنزل. أو غيرهن ممَن يقمن بجراحات تجميل، أو اختيار مظاهر عامة يتم تصنيفها أنها تشييئية للنساء. كذلك اللواتي يخترن أو يُضطررن إلى العمل في أعمالٍ مرفوضة، كعاملات في الجنس والمؤديات، واعتبار أن ذلك يؤثر على التزامهن تجاه النسوية.
ما يهم حقًا هو المسؤولية تجاه القضايا النسوية، والالتزام بها وعدم نبذ أو اقصاء النساء بناءً على خياراتهن أو مظاهرهن الشخصية أو عدم رغبتهن في تأدية أدوار القوة والقتال. لأننا قبل كل شيءٍ بشر. نتعب ونضعف ونختار، ونحب ونرقص ونستمتع بأشياء عادية ونمطية.. ربما.
ما يهم حقًا هو أن نكون نسوياتٍ قادراتٍ على الالتزام بروح وجوهر النسوية كفكرٍ وتحرّرٍ شامل، وفاءً لجميع المهمشات/ين والمضطهدات/ين. وأن نكون قادراتٍ على الدفاع عن عالم يحتضننا جميعًا ولا ينزع عنّا إنسانيتنا تحت أي مسمى.