الأمهات الوحيدات: عندما تجتمع الأبوية والرأسمالية والديكتاتورية ضدّ النساء

رافاييل لايساندر / جيم

 

تربية الأبناء مسؤوليةٌ صعبةٌ على الوالدَين معًا، فكَيف إذا كانت مُلقاةً على عاتق أحدهما بمفرده/ا؟

يُعرّف تقرير منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الوالد الوحيد بأنه فردٌ يعيش مع طفل/ة، بيولوجي أو متبنّى، واحد/ة على الأقل، ويشمل المطلّقين، أو المنفصلين، أو الأرامل، أو العازبين، أو مَن لم يتزوّجوا مطلقًا أو مَن لا يعيشون مع شريك/ة. هذا المصطلح غير موجودٍ في اللغة العربية أساسًا، على الرغم من أن إحصائية نادرة صادرة عن غالوب في عام 2020 تشير إلى أن 15% من النساء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هنَّ أمهات عازبات.

في مناقشةٍ على الإنترنت أطلقَتها مترجِمةٌ كانت تستشير لإيجاد المصطلح المناسب للإشارة إلى الأم الوحيدة باللغة العربية، قوبلَت بتهجّمٍ واضح، إذ ردّ عليها أحدهم: “وما مشكلة لفظ “مطلّقة” أو “أرملة”؟ في الغرب يُطلق هذا المصطلح على الأمهات اللواتي ينجبن أطفالًا خارج مؤسّسة الزواج، وهذا الأمر غير موجودٍ عندنا.

تأبيد أنظمةٍ مُجحفةٍ بحقّ النساء

حالات الطلاق والترمّل هي حالاتٌ اجتماعيةٌ تحدّد علاقة الزوجَين. أمّا وصف “الوالد/ة الوحيد/ة” فيُعنى بالطبقة الاقتصادية، والاحتياجات، والمسؤوليات التي يشترك فيها كل الأفراد الذين يرعون أطفالًا بمعزلٍ عن روابطهم/ن الاجتماعية. وبالتالي، التنكّر لوجود أمّهاتٍ وحيداتٍ لأسبابٍ مختلفة، غالبًا ما يُغلّف بعاداتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ سائدةٍ تزيد من هشاشة وضع النساء الوحيدات المعيلات لأطفالهن، بما ينعكس حكمًا على الأطفال وصحّة نموّهم وتأهيلهم وبناء مستقبل واعد لهم، ويُمعن في تخلّف الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة عن أداء واجباتها حيال هذه الفئة، وتأجيل أيّ نقاشٍ عن النظام الاقتصادي السياسي الأمثل لتخفيف التفاوت الطبقي لِما فيه صالح غالبية المجتمع عمومًا، والنساء خصوصًا.

التنكّر لوجود أمّهاتٍ وحيداتٍ لأسبابٍ مختلفة، غالبًا ما يُغلّف بعاداتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ سائدةٍ تزيد من هشاشة وضع النساء الوحيدات المعيلات لأطفالهن

تسود في مجتمعاتنا تقاليدٌ تحاول تنظيم شؤون رعاية الأولاد بطرقٍ تقليديةٍ لا تمتّ إلى السياسات الاقتصادية والسياسية التقدّمية بصِلة، فلا تحقّق المساواة الجندرية ولا العدالة الاجتماعية، بل تُفاقم هشاشة أوضاع النساء، ما يوحي بأنّ هذه التقاليد والأعراف السائدة تخدم استمرارية أنظمةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ بائدة.

لا يخفى على أحدٍ أنّ الأب الوحيد لا يُنظر إليه على أنه في وضعٍ طارئ أو حرج، إذ من المتوقّع أن يتزوّج ويوكل مهمة تربية الأولاد للزوجة الجديدة أو لبيت الجدّ. أمّا الأم الوحيدة، فغالبًا ما تُقابل بندبِ حالها وحرمانها من أبسط حقوقها. ففي حالة الطلاق، تبقى الولاية على الأطفال لصالح الأب، وفي حال وفاته تذهب إلى الأقارب الذكور مثل الجدّ أو الأعمام. يخبرنا هذا الواقع بالكثير عن نظرة المجتمع لدَور كلٍّ من الآباء والأمهات، إذ يعتبر تربية الأطفال مجالًا نسائيًا إلى حدٍّ كبيرٍ من دون منح النساء الحقّ في تقرير مصائر أولادهن. ويُضاف إلى ذلك الصعوبات المادية التي تُلقى على عاتق الأمهات الوحيدات بسبب بيئة العمل العربية المجحفة بحقّ النساء عمومًا، والأمهات خصوصًا، نظرًا لعدم وجود حضاناتٍ عامّةٍ أو أماكن عامّةٍ مخصّصةٍ لرعاية أطفال الأمّهات العاملات.

ربع أمهات سوريا وحيدات

على الرغم من أنّ الأمهات العازبات يشكّلن نسبةً غير قليلةٍ من المجتمع العربي، كما سبقَت الإشارة، إلا أنهنّ أشبه بطبقةٍ خفيةٍ نتيجة العادات السائدة في رعاية شؤون الأسرة، وتغيّب الأنظمة السياسية، وتنكّر العقود الاجتماعية لهنّ، ما يُشتّت جهود دعم الأمهات الوحيدات المعيلات لأطفالهنّ.

وبينما يتهرّب المجتمع من التعامل مع هذه القضية، تزداد حراجة الموضوع ووضوحه في حالات الحرب، كما يحدث في سوريا واليمن مثلًا، حيث ازدادت نسبة النساء السوريّات المعيلات لأطفالهنّ من 4% فقط إلى 22% بعد الحرب. وتبيّنُ القصص المتداولة معاناة الأمهات بشكلٍ مضاعفٍ لإعالة أولادهن، لاسيّما أنهنّ لم يمارسن هذا الدور قبل الحرب، أو لم يُسمح لهنّ بذلك.

قصصُ مظالم متراكمة

تماثل حالُ مريم أحوال نساءٍ كثيراتٍ في بلداننا. فمع تدهور الوضع الاقتصادي ونقص فرص العمل في سوريا، عجزَت مريم عن العثور على عملٍ لإعالة نفسها وأسرتها، ولم يعد لديها من خيارٍ سوى طرق الأبواب لطلب المساعدة من عائلات المنطقة حيث تقطن. في الواقع، لا يزال عليها وهي في سنّ الخمسين إيجاد طريقةٍ لإعالة عائلتها المكوّنة من ستة أفراد، وشراء الدواء لنفسها أيضًا.

باتت مريم المعيل الوحيد لأسرتها بعد أن سافر زوجها وانقطعَت أخباره. ولتأمين حاجات أسرتها، تقوم حينًا بتحضير الوجبات المنزلية ومعلّبات “المونة” وبيعها، وتعمل حينًا آخر في الزراعة أو في أيّ وظيفة موسمية تُتاح لها، فيما تغيب الدولة عن النظر في شؤون مثيلاتها من النساء وأسرهنّ، وحماية حقوقهنّ بالعيش الكريم.

تسود في مجتمعاتنا تقاليدٌ تحاول تنظيم شؤون رعاية الأولاد بطرقٍ تقليديةٍ لا تمتّ إلى السياسات الاقتصادية والسياسية التقدّمية بصِلة، فلا تحقّق المساواة الجندرية ولا العدالة الاجتماعية

في إحدى المرّات، وبعد أن عملَت مريم أسبوعًا كاملًا في قطاف الزيتون المضني، رفض صاحب العمل تسديد أجرها، ولم يكلّف نفسه حتى عناء التذرّع بسببٍ مقنع. أخبرها ببساطةٍ أنه لن يعطيها أيّ أجر، و”إن لم يعجبها الأمر يمكنها أن تذهب وتشتكي”. بالطبع لم تشتكِ مريم لأن ذلك كان ليجلب لها المشاكل أكثر من الحلول. وعندما صارت تطالب بأجرها مُقدمًا قبل إنجاز أيّ عمل، صار أصحاب العمل يرفضون توظيفها. كغيرها من النساء، تجازف مريم في كلّ مرةٍ تعمل فيها بألّا تحصل على أجرها بسبب استغلال أصحاب العمل هشاشةَ وضع النساء، وتخلّف سلطات أمر الواقع عن حمايتهنّ، وغياب النقابات عن متابعة شؤونهنّ، بالإضافة لغياب موازين قوى نسويةٍ تفرض احترام القوانين التي ترعى حقوق النساء والعاملات.

والدليل أن القانون نفسه شكّل تحدّيًا لمريم، حيث واجهَت عقباتٍ كثيرةً لدى محاولتها تسجيل أولادها في المدارس، والحصول على الرعاية الصحية وغيرها من الأمور، ما أجبرها في نهاية المطاف على استصدار أمرٍ من المحكمة يثبت مسؤوليتها عن أطفالها، بعد المرور بإجراءاتٍ بيروقراطيةٍ منهكةٍ لإثبات غياب زوجها وعدم توفر “وليّ أمر” ذكَرٍ من أقاربها. ولولا الحرب وتقطّع السّبُل بين المناطق، ربّما لم يكن القاضي ليوافق على الأمر.

إنّ بيئة العمل المُجحفة أساسًا بحقّ النساء تصبح أشدّ قسوةً وتحيّزًا في خلال الحروب، إذ لا يُسمح لهنّ بولوج الكثير من القطاعات بحجّة أنها غير مناسبةٍ لهنّ. هذا بالإضافة إلى غبن الأجور الذي يتعرّضن له من طرف الشركات التجارية التي توظّف النساء يدًا عاملةً زهيدة الأجر، كما في حالة نذيرة التي تتقاضى عشرين دولارًا في الشهر، وهو مبلغٌ لا يكفي لتأمين الحاجات الأساسية لها ولأسرتها.

لنظامٍ اقتصادي أكثر عدالة

سواء في زمن الحرب أو السلم، فإنّ غالبية الدراسات1 المهتمة بتأثير وجود والد/ة وحيد/ة على الأولاد والأسرة تتوصّل إلى نتيجةٍ مشتركة، مفادها أن الوضع الاقتصادي هو العامل الحاسم. كما تُظهر أن ظروفًا مثل الفقر وعدم الاستقرار، والتي كثيرًا ما تصاحب أُسَر الأمهات العازبات، تزيد من فرص تعرّض الأطفال لإدمان الكحول والمخدّرات، والاضطرابات النفسية، والتأخّر الأكاديمي، وغير ذلك من التحدّيات والعقبات.

وتكشف هذه الدراسات أيضًا التأثير الإيجابي للأمان الاقتصادي على العائلة المكوّنة من أمٍ وحيدة وأطفالها، لكنّ الإعلام يسارع للتلويح ببحوثٍ مثل دراسة العائلات الهشّة للبروفيسورة سارة ماكلاناهان (Sara McLanahan)، وورقة بول أماتو (Paul Amato) الصادرة عام 2005 عن تغيّر البُنى الأُسرية، بغية انتقاد الأمهات العازبات وإظهار تفكّك الأسرة في غياب الأب. لذلك، لا ننفكّ نسمع في مجتمعاتنا عباراتٍ من قبيل: “طبعًا سوف يفلت الأولاد… من سيضبط البيت إن لم يكن الأب موجودًا؟”. مع العلم أن دور التربية يوكل للأمهات عادة، بينما يُتوقع من الأب في حال وجوده أن يكون معيلًا فقط. مع ذلك، يُرجع الفضل دائمًا للأب باعتباره “ربّ الأسرة” وقائدها.

في الواقع، ما تُظهره دراسة البروفيسورة ماكلاناهان وغيرها من الدراسات المشابهة، هو أنّ المخاطر الأساسية المرتبطة بالأمومة العازبة تنشأ من انعدام الأمان المادي. وتشير هذه النتائج إلى أن البيت الذي يتكوّن من والدَين وأطفال، ويتمتع باستقرارٍ مالي، لكن يسوده جوٌّ من التوتر والصراع، يكون أكثر ضررًا بالأطفال من بيتٍ يضمّ أحد الوالدَين فقط، ويكون مستقرًّا ماديًا إنما خاليًا من الضغوط والصراعات.

إنّ الخطر الفعليّ الذي يتهدّد الأطفال ليس أمهاتهم العازبات، ولا آباؤهم غير المتزوجين، بل الاقتصاد الذي يغذّي المظالم والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء

يتجاهل المجتمع واقع أن هذه الدراسات تعتمد على تعريفاتٍ متغيّرةٍ ومتنوعةٍ ومعقّدةٍ للغاية للأسَر موضوع الدرس. كما يضيع في أحاديث الشفقة، ومقالات وبرامج الوعظ التنوّعَ الهائل بين الأسَر. في الواقع، ثمة أسَرٌ كبيرةٌ وأخرى صغيرة، شاقّةٌ ومبتكرة، كئيبةٌ ومغامرة، ومن مختلف الخلفيّات الاجتماعية والطبقات الاقتصادية. لذا، من المفيد تذكّر أن ليس من بنيةٍ أسَريةٍ محدّدةٍ تضمن لأفرادها السعادة أو تحكم عليهم بالبؤس.

مع ذلك، ليس من شكٍّ في أنّ الأمومة العازبة يمكن أن تكون أكثر صعوبةً من أنواع الأمومة الأخرى، بسبب بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذكوري. لذا، في دول الاتحاد الأوروبي مثلًا، يأتي الردّ على هذه الصعوبات الإضافية عبر مَنح الأمهات العازبات أفضلية الحصول على المعونة المالية، والدعم الاجتماعي، والمساعدات الإسكانية من الحكومة.

يجب التنبّه إلى التفاوت الاقتصادي الخطير بدلًا من التركيز سطحيًا على العائلات “الناجحة والفاشلة”. يحتاج الناس إلى وظائف، وأحيانًا إلى دعمٍ حكومي كي يتمكّنوا من إعالة الأطفال والمساهمة بشكلٍ أكثر جدوى في الأسَر التي يعيشون فيها. إنّ الخطر الفعليّ الذي يتهدّد الأطفال ليس أمهاتهم العازبات، ولا آباؤهم غير المتزوجين، بل الاقتصاد الذي يغذّي المظالم والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء.

شاركنَ المنشور