تقول النساء المزارِعات في الغور، في وادي الأردن الخصب، إنّهن ورثن ممارساتهنّ الزراعية والعلاقة التي تربطهنّ بالأرض من والداتهنّ وجداتهنّ، كما ورثن أزمةً مناخية. يُعتبر الأردن أصلًا البلد الثاني الأكثر فقرًا في العالم من حيث مصادر المياه، وكلّ عام، تشتدّ الحرارة ويتفاقم الجفاف، وتبرز أنماطٌ مناخيةٌ حادّة. وتُجبر هذه التغيّراتُ المزارعاتِ في الغور على تغيير ممارساتهنّ الزراعية للتكيّف مع الوضع الراهن، لذا يُطالبنَ المسؤولين بالإصغاء إلى مخاوفهنّ.
تقول جميلة أشتيوي، وهي مزارعةٌ ومديرة متحف أخفض مكانٍ على الأرض ورئيسة جمعية سيدات العباطه الخيرية، إنّ انخفاض منسوب الأمطار وزيادة التنافس على المياه على مدى السنوات الأربع الماضية قد أثّرا على نوع المحاصيل ومواسم زراعتها. لذا، باتت جميلة تزرع المحاصيل ذات الاستهلاك الكثيف للمياه كالموز والحمضيّات بصورةٍ أقلّ، وتزرع محاصيل أخرى كالبطيخ في وقتٍ متأخرٍ من العام عندما تتأكّد من حتميّة هطول الأمطار لريّها.
تتابع أشتيوي: “تمدّ [البلدية] كلّ شارعٍ بالمياه مرّتَين في الأسبوع، بينما كانت تفعل ذلك يوميًا في السابق. لقد تغيّر الوضع كثيرًا”.
وتضيف بالعامية الأردنية: “إحنا، كسيدات، عندنا كثير صبر. نصبر، نتحمّل”.
هؤلاء النساء لا ينظرن بعين الاستثنائية إلى أدوارهنّ كمزارعاتٍ وإلى الإجراءات المتعاقبة التي يتّخذنها للتكيّف مع المناخ. لكنّ أسماء سليمان العشوش، رئيسة جمعية نساء الغور، ترى أنّ مبادراتٍ دوليةً عديدةً تغفل دور النساء الفعّال في الزراعة لجهة دعمهنّ في المناطق الريفية. وتقول: “يكثر كلام الباحثين والباحثات أو المنظمات غير الحكومية عن تمكين النساء”.
وتتابع: “يا عمي في أمور إحنا متمكنين فيها. إحنا موروث”.
أما ربى الزعبي، الخبيرة الاستراتيجية في الطاقة الخضراء والمديرة السابقة للسياسات والتنمية في وزارة البيئة، فترى أنه غالبًا ما يُستهان بدور النساء في الزراعة. وتقول: “تتمتع النساء بالتمكين في الأصل. (…) إنه جزءٌ من تركيبتنا الجينية”. وتتوسع الزعبي في الشرح قائلة: “إذا ما أرادت المبادراتُ تعزيز الإشراك الجندري في العمل المناخي، فيتعيّن عليها أن تنظر إلى ما هو أبعد من مفاهيم تمكين النساء المختزلة وأن تركّز بدلًا من ذلك على المشاركة السياسية”.
مبادرات دولية عديدة تغفل دور النساء الفعّال في الزراعة لجهة دعمهنّ في المناطق الريفية
وتتابع الزعبي: “التغيّر المناخي (…) هو قضيةٌ سياسية. فإذا لم يتم تمكين النساء سياسيًا، وإذا لم يفهَمْنَ البُعد السياسي للتغيّر المناخي، وإذا لم يكنّ جزءًا من المشهد السياسي، فبالطبع ستكون النساء أكثر ضعفًا”.
في عام 2022، احتلّ الأردن المرتبة 155 من أصل 193 بلدًا على صعيد إشراك النساء في البرلمان الوطني، مقارنةً باحتلاله المرتبة 131 في عام 2019. وحاليًا، تشغل النساء 12% من مقاعد مجلس النواب. فقد أفسحَت الإصلاحات الانتخابية في عامَيْ 2015 و2016 والكوتا النسائية التي أُدخلت في عامَيْ 2003 و2007 المجالَ أمام التقدم المتزايد وإشراك النساء في الحكومتَين الوطنية والمحلية، إلا أنّ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية واللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة أفادتا بأنّ “التغيير يحدث تدريجيًا”، وأنّ “النساء لا يزلْنَ بعيداتٍ عن تحقيق التكافؤ مع الرجال في المناصب المُنتخبة”.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر معدلات تعليم النساء الأردنيات بين أعلى المعدلات في المنطقة، كما أنّ عدد النساء الناخبات المسجلّات يفوق عدد الناخبين. على الرغم من ذلك، يشدّد تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية واللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة على وجود مجموعةٍ متنوعةٍ من العقبات كالتصوّرات في شأن المناصب القياديّة للمرأة، وأوجُه عدم المساواة الاقتصادية التي تمثّل عثراتٍ كبيرةً تحول دون تحقيق الإشراك السياسي المتساوي. وبحسب التقرير المذكور، يتفاقم هذا الأمر جرّاء “الشرخ الواضح بين النخبة الحضرية وسكّان الريف الفقراء”.
وبالنسبة للزعبي، ينبغي إيلاء أولويةٍ للإشراك الجندري لكن من دون أن يكون محور التركيز الوحيد، وتضيف: “لا نتكلم هنا عن النساء فقط، بل عن الفئات المستضعفة والشباب والأفراد من خارج العاصمة. تحتاج كل هذه الفئات إلى أن تكون جزءًا من ذلك (…) كما للّاجئين والمجتمعات المضيفة حصةٌ أيضًا”.
إذا لم يتم تمكين النساء سياسيًا، وإذا لم يفهَمْنَ البُعد السياسي للتغيّر المناخي، وإذا لم يكنّ جزءًا من المشهد السياسي، فبالطبع ستكون النساء أكثر ضعفًا
وتتابع بالقول: “يرتبط التغيّر المناخي بالسياق إلى حدٍّ كبير، فهو بالفعل يختلف من مكانٍ إلى آخر ومن معيارٍ اجتماعي-اقتصادي إلى آخر”. وهذا ما يشير إلى الحاجة إلى استراتيجياتٍ تركّز على الجندر والمناخ، تكون تقاطعيةً وتضمن إشراك النساء في شتى قطاعات المجتمع”.
تشرح الزعبي أنّ الخطوة الأولى نحو وضع استراتيجياتٍ تقاطعيةٍ تكمن في جمع بياناتٍ أفضل. وتقول:”لا نملك ما يكفي من البيانات لإظهار الآثار الناجمة عن التغيّر المناخي، كالآثار على الاقتصاد والرعاية الاجتماعية”. قد تساعد هذه المعلومات الباحثين على فهم تأثير التغيّر المناخي على الفئات السكانية المختلفة بصورةٍ أفضل، وكذلك إحاطة صانعي السياسات علمًا من جهةٍ ثانية. وقد تتمثّل الاستراتيجيات الداعمة للجندر والمناخ بأفعالٍ كإشراك النساء في القرارات المتعلقة بالمناخ، أو دمج الاعتبارات الجندرية في التمويل المناخي.
سلطة اتخاذ القرارات
يتضح افتقار النساء إلى سلطة اتخاذ القرارات في الأردن من البرلمان إلى المزارع. فبحسب نايفة النواصره، وهي مزارعةٌ ورئيسة جمعية سيدات غور الصافي، إنّ أغلبية العمال الزراعيّين في الغور هم من النساء، لكنّ معظم هؤلاء النساء لا يملكن الأراضي التي يزرَعنها. وتقول: “إحنا عاملات بالزراعة مش أصحاب الزراعة”. يعني ذلك أنّه غالبًا ما تفتقر العديد من المزارِعات إلى السلطة لاتخاذ قراراتٍ كالقرارات المالية، من الاستثمارات والقروض إلى كيفية بيع وتسويق محاصيلهنّ.
وأضافَت النواصره أن معظم مالكي المزارع يرزحون تحت ثقل الديون، ما دفع الكثير من الرجال – الذين يتمتّعون إلى حدٍّ ما بفرص عملٍ أكثر تنوعًا وتوافرًا – إلى البحث عن عملٍ آخر. وتشرح: “نادرًا ما يدخل الرجال هذا المجال. فقط في حال لم يجد الرجل ما يفعله، يتوجه للزراعة”.
وتتابع بالدارجة الأردنية: “بس إنه الشباب، في عزوف كبير عن الزراعة. ليش بده يزرع إذا ما في تسويق؟”
وفقًا لمبادرة “ريتش” (REACH) وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، يشارك عددٌ أكبر من النساء في القوة العاملة الزراعية غير الرسمية مقارنةً بالرجال، ما يجعلهنّ أضعف اقتصاديًا. وتوضح الزعبي أنّ هذا الضعف يمتدّ إلى النساء في جميع القطاعات، ويعني أن النساء – لاسيّما اللواتي يعِشن في المناطق الريفية – هنّ أكثر عرضةً عمومًا للشعور بآثار التغيّر المناخي.
غالبًا ما تفتقر العديد من المزارِعات إلى السلطة لاتخاذ قراراتٍ كالقرارات المالية، من الاستثمارات والقروض إلى كيفية بيع وتسويق محاصيلهنّ
تقول: “من الظلم أن يتفرّد الرجال بصَوغ سياسات العمل المناخي، أو حتى أن يتفرّد أشخاصٌ من العاصمة أو المدن الرئيسة في صياغة أجندة التغيّر المناخي. يجب إرساء ما يُعرف بالعدالة المناخية”.
وتعني العدالة المناخية الإقرار بأنّ التغير المناخي هو قضية اجتماعية لا تؤثر بالطريقة نفسها على جميع الأشخاص ويمكن حتى أن تفاقم الشرخ الاجتماعي. يشير بعض مؤيّدي هذا المفهوم إلى أنّ تحقيق العدالة المناخية يستوجب معالجة حقوق الإنسان والتنمية والمناخ بشكلٍ مترابط. كما يشير آخرون إلى الروابط الجوهرية بين الأزمة المناخية والرأسمالية والاستعمار، ويعتبرون أن أيّ استجابةٍ فعالةٍ للتغيّر المناخي يجب أن تقرّ بهذه الصّلات.
وفي حين اتخذَت الحكومة الأردنية إجراءاتٍ لدعم المزارعين الكادحين تضمّنَت تقديم قروضٍ بدون فوائد إلى المتضرّرين من جائحة فيروس كورونا، والتخطيط لبرنامج التكيّف مع التغيّر المناخي، يقول المزارعون والباحثون إنه ينبغي بذل المزيد من الجهود.
ومع استمرار شحّ المياه، وكون موارد المياه المتجدّدة السنوية أقلّ بكثيرٍ من المستوى ما يدلّ على نقصٍ شديدٍ في المياه، هناك حاجةٌ ماسةٌ إلى وضع إجراءاتٍ للتكيّف مع هذا الشحّ. وتضمّنَت طروحات الحلول السياسية لأزمة المياه جرّ المياه من البحر الأحمر إلى عمّان، بالإضافة إلى المشاريع الوطنية المكلفة لتحلية المياه – لكن لم يتحقّق أيٌّ منها بعد. وفي العام الماضي، توصّل الأردن إلى اتفاقٍ مع إسرائيل يقضي بشراء 50 مليون مترٍ مكعبٍ من المياه، وهي خطوةٌ قوبلَت بجدلٍ عام، حيث أشار معارِضوها إلى أنّ الاتفاق يجعل الأردن معتمدًا على إسرائيل من دون تقديم حلٍّ كاملٍ لمشاكل البلاد المائية.
تقول الزعبي: “ستكون المياه أحد التحدّيات الرئيسة في المستقبل لأنّ الأزمة “المائية” قد تضاعفَت بفعل التغيّر المناخي”.
“إنها هويّتنا”
تعبّر عايدة عبد الدعيسات، وهي مزارعةٌ وعضوةٌ في المجلس البلدي للكرَك، عن اعتقادها بضرورة أن يكون للنساء دورٌ في عملية اتخاذ القرارات والقضايا المناخية وما هو أبعد من ذلك. وتقول: “المرأة مش بس دورها إنه تعمل مبادرات. هي دورها إنها تصنع قرار، من خلال الاستراتيجيات، والخطط والتنمية وخلق فرص عمل”.
وتتابع: “يضطلع الإعلام بمهمّة نشر ونقل أصوات النساء الريفيّات اللواتي يعِشن في أماكن بعيدة (..) لأنّ أصواتهنّ مهمّة. أريد أن أتحدث عن الزراعة (..) لأنني في الوقت الحالي أعاني من نقصٍ في المياه”. وتقول عبد الدعيسات إنّها اضطرّت إلى تغيير ممارساتها الزراعية بسبب ذلك، وإنّها على وشك البدء في زراعة البابايا للمرة الأولى. وتتابع: “بلشت أغير بنمط الزراعة، مش بس إنه إحنا نحكي”.
تعني العدالة المناخية الإقرار بأنّ التغير المناخي هو قضية اجتماعية لا تؤثر بالطريقة نفسها على جميع الأشخاص ويمكن حتى أن تفاقم الشرخ الاجتماعي
عبد الدعيسات، وأشتيوي، والنواصره، والعشوش والزعبي هنّ جميعًا بناتُ وحفيداتُ نساءٍ مزارِعات. وقد خَلَق هذا الإرثُ المُتوارث ارتباطًا قويًا بين النساء والأرض ينطوي على التزامٍ بمواصلة العمل الزراعي.
وأوضحَت أشتيوي أنها تحاول إيجاد طرقٍ مستدامة، كجَمع المياه في بركٍ والحفاظ عليها عن طريق تغيير ما تزرعه، قائلةً إنّها تفعل ذلك لضمان مستقبل الأرض التي تزرعها. وتقول: “هي هوية، هي حب. يعني إذا إنسان حب الهوية هاي ما بيقدر التخلّي عنها. من طفولتي كنت أشوف والدي ووالدتي بيزرعوا… كيف المرأة بتمسك الطورية، وتشتغل مع الطورية. حياة ممتعة”.
وعبّرَت أشتيوي عن أملها في أن يتابع أحد أبنائها الستّة مسيرتها الزراعية في المستقبل، وأضافَت أنهم حتى إن اختاروا مسارًا مهنيًا مختلفًا، فهي واثقةٌ من أنّ علاقتهم بالأرض لن تتزحزح. وتقول: “بالمستقبل، نعم. حتى لو ما كان صار تعليمهم، بيضل هويتهم في الزراعة”.
عملُ أشتيوي في متحفِ أخفض مكانٍ على الأرض ساعدَها في الحفاظ على هذه الصلة بالزراعة حتى إن لم تكن في مزرعتها. تقول: “عملي في الأرض دفعَني للتخصّص في علم الآثار. في علم الآثار تحمل الطورية، فهذا قريب من عملي في البستان”. بالنسبة إليها، الزراعة لا تقتصر على فعل الزرع، وإنما تتجاوزه لتشمل التاريخ والأرض التي أتينا منها.
تمثّل الزراعة إحدى الطرُق القليلة التي تُتيح للنساء اكتساب دخلٍ بشكلٍ مستقلٍّ نوعًا ما، وهي تجمع بين سُبُل العيش وهويةٍ متوارثةٍ من أمٍّ إلى بناتها
وفي حين أنّهنّ قد لا يصنّفنَها على هذا النحو، تدعو المزارِعات في الغور إلى تحقيق نوعٍ من العدالة المناخية النسوية. فهنّ يلاحظن العلاقة بين العدالة المناخية، والعدالة الجندرية، والإنصاف في المجال الصحّي، والعدالة الاقتصادية وغيرها من الحركات المناهضة لانعدام المساواة المُمنهج. وتمثّل الزراعة إحدى الطرُق القليلة التي تُتيح للنساء اكتساب دخلٍ بشكلٍ مستقلٍّ نوعًا ما، وهي تجمع بين سُبُل العيش وهويةٍ متوارثةٍ من أمٍّ إلى بناتها. لذا، يُشكّل التغيّر المناخي الذي يواجه المَزارِع في الأردن خطرًا على المزارِعات أيضًا.
ومن أجل تحقيق عدالةٍ مناخيةٍ نسوية، لا بدّ من الاعتراف بأنّه في حال جفّت أراضي أولئك النسوة، فلن يكون بإمكانهنّ البحث عن عملٍ آخر بالسهولة نفسها كالرجال. وقد يعني دعمهنّ في مواجهة الأزمة المناخية تخفيفَ آثار الجفاف على مزارعهنّ وإيجاد سُبُلٍ لتأمين فرص عملٍ أخرى. كما لا بدّ من الإقرار بانعدام تمثيل النساء، وبخاصّةٍ الريفيّات منهنّ، تمثيلًا كافيًا في النقاش السياسي. ولإيصال مخاوفهنّ على نحوٍ واف، يجب ضمان تمثيلهنّ في مضمار السياسة وإشراكهنّ في عملية اتخاذ القرارات. وكما أوضحَت عبد الدعيسات، النساءُ جاهزاتٌ لاتخاذ قراراتٍ حازمة – لكن ينبغي الإصغاء إليهنّ أوّلًا.