رويدة كنعان / الحركة السياسية النسوية السورية
وصلت خلود إلى تركيا في بداية عام 2015، كانت متحمسة جداً للقاء صديقة تعرفت عليها في إحدى السجون في دمشق. وجدتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتواعدت معها في أحد مقاهي اسطنبول. انتظرتها وهي تفكر كيف ستبدو وهي خارج السجن؟ وما هي المواضيع التي ستتحدثان عنها؟
اتخذت خلود قرارًا جريئًا بالمشاركة في الثورة السورية، بدافع بناء مستقبل أفضل. أدركت أن اللحظة مواتية للتغيير وبناء سوريا ديمقراطية بها دستورًا وقوانين تحقق الرفاه الاجتماعي والمساواة بين الجميع. انضمت إلى المتظاهرات والمتظاهرين، وصرخت بقوة في شوارع دمشق مطالبة بالحرية، وكانت من أجمل لحظات حياتها. شاركت بشكل سلمي مع إيمان راسخ بقوة اللاعنف كوسيلة لإحداث التغيير. أظهرت النساء السوريات بما فيهن خلود في سوريا مع بداية الثورة عام 2011 شجاعة ملحوظة في الانخراط في النشاط السياسي دون أن يدركن ذلك في بعض الأحيان. لقد كنَّ في طليعة المظاهرات السلمية، والمطالبة بالإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. ظهرت منظمات تقودها نساء، تعالج الاحتياجات والمخاوف الخاصة بالمجتمع والنساء السوريات. قمنَّ بالعديد من المبادرات التي مكنت النساء من تحدي الأعراف المجتمعية والمساهمة في المناقشات الجارية حول التغيير السياسي في سوريا.
ومع ذلك؛ فإن التزام خلود بالنشاط السلمي لم يمنعها من مواجهة الحقائق القاسية للصراع. اعتقلت من قبل الأمن السوري خلال مظاهرة مع مجموعة من المتظاهرات والمتظاهرين، ضحية إيمانها بالدعوة للتغيير بوسائل غير عنيفة. في إحدى الأيام وهي في السجن المدني في دمشق “عدرا”، جاء أحد الضباط وألقى محاضرة عن أهمية صوتهن في عملية التغيير المنشودة من خلال مشاركتهن في العرس الانتخابي الوطني في سوريا. وقال لها ولصديقاتها في السجن أنه يوجد العديد من المرشحين ويمكنهن الاختيار بينهم، لكنه على ثقة أنهنَّ سيخترن الأفضل لهن وللوطن بانتخاب بشار الأسد، وإلا سيخترن المجهول في هذا المكان. وتمت معاقبتها في السجن بالمنفردة لمدة أسبوعين، وحرمانها من زيارة عائلتها لمدة ثلاثة أشهر لعدم مشاركتها في الانتخابات.
بحثًا عن الأمان بعد تحررها من الاعتقال، لجأت إلى تركيا. هي في بلاد لا تعرف عنها شيئًا، لكن طاقتها ما زالت متوهجة وما زالت لديها الرغبة بالتغيير، لكن ربما يجب عليها تغيير أدواتها. التقت صديقتها وشربتا الشاي التركي معًا، شعرت وكأنها تتعرف على صديقة جديدة مختلفة عن التي عرفتها في الماضي، لكنها رائعة بكل الحالات. وأخبرتها بأنها ستسافر إلى أوروبا في الأسبوع المقبل وهذا اللقاء فرصة للقاء والوداع في نفس الوقت. هذا ما أحزن خلود كثيرًا، لأنها لا تملك صديقات في تركيا ولا تعرف شيئًا عن البلد وإمكانية ما يمكن فعله. ومن حديث لآخر أخبرتها صديقتها بأن تمثيل النساء يكاد يكون معدومًا في قوى المعارضة السورية، واقترحت عليها لكي تشارك بالسياسة بشكل فعلي وحقيقي أن تقدم سيرتها الذاتية لتكون عضوة في تجمع سياسي يمثل المعارضة “الائتلاف الوطني”، خاصةً أنها درست العلاقات الدولية في إحدى جامعات بيروت قبل الثورة. ومع ذلك؛ ترددت وأبدت تحفظات على الانضمام لهذا التجمع بالذات، فاجأها الاقتراح لأن صديقتها اعتبرت أن الانضمام لهذا التجمع هو الشكل الحقيقي للمشاركة السياسية. غمرتها ذكرياتها في دمشق بالعاطفة والشجاعة والتضحيات التي قدمتها بالفعل من أجل قضية تؤمن بها. مما دفعها إلى التفكير في طبيعة نشاطها السابق. ما هو جوهر المشاركة السياسية؟ سعت إلى فهم أوسع لدورها وتأثيرها.
بينما كان فهمها المبدئي للمشاركة السياسية يدور حول الاحتجاجات والمظاهرات في الشوارع، ثم هناك من أخبرها بأن المشاركة تكون بالانتخاب، إلا أن لقائها في تركيا قدم لها منظورًا جديدًا، وسيلة للمشاركة الرسمية والمشاركة في عمليات صنع القرار. لكنها اتفقت مع تعريف كل من Sidney Verba وNorman Ni على المشاركة السياسية في عملهما المشترك “الديمقراطية السياسية والمساواة الاجتماعية” (1974)، على أنها “سلوك يهدف إلى التأثير على السياسة العامة”، وأن المشاركة السياسية هي جانب مهم من جوانب الحكم الديمقراطي، لأنها تسمح للمواطنات والمواطنين بالتعبير عن آرائهن/م وتشكيل القرارات التي يتخذها الممثلات/ين المنتخبات/ين. بالتالي، يمكن أن يختلف مستوى ونوع المشاركة السياسية بشكل كبير اعتمادًا على الفرد والسياق السياسي .
بناءً على ما سبق؛ يمكن اعتبار المشاركة السياسية مشاركة مؤسسية ومشاركة خارج المؤسسات. ويقصد بالمشاركة السياسية المؤسسية تلك الأنشطة السياسية التي تأخذ الطابع المؤسسي والتي يضمنها الدستور وتنص عليها المؤسسات السياسية القائمة. وتشمل تسجيل الناخبات/ين، وعضوية الأحزاب السياسية، والترشح والتصويت أثناء الاستفتاءات والانتخابات. وهذا ما تقوم به العديد من صديقات خلود في سوريا ودول اللجوء في المؤسسات الرسمية للتأثير على السياسة وصنع القرارات. وتطالب به الكثيرات، لأنه ليس بالأمر السهل في سوريا. حيث شاركن على سبيل المثال بالتصويت في الانتخابات، والمشاركة في السلطات المحلية أو المؤسسات الرسمية للمعارضة مثل الهيئة العليا للمفاوضات واللجنة الدستورية، والعمل في المؤسسات السياسية واللجان والمجالس، والانضمام إلى الأحزاب السياسية. والعمل في المنظمات الدولية المعنية بالسلام والأمن. والعمل في المجال الأكاديمي والأبحاث، مثل القيام بالأبحاث والدراسات الأكاديمية حول القضايا السياسية وتوجيه السياسات العامة.
العمل في المنظمات غير الحكومية المعنية بالشأن السياسي والاجتماعي والعمل على تعزيز القضايا وصنع التغيير.
أما المشاركة السياسية خارج المؤسسات؛ فيقصد بها تلك الأنشطة السياسية التي لم يتم إضفاء الطابع المؤسسي عليها والتي توفرها الحكومة والمنظمات غير الحكومية بهدف التأثير على ما يحدث في الدولة. هذا ما أدركته خلود؛ أن المشاركة السياسية تمتد إلى ما هو أبعد من الأطر المؤسسية. لذلك قررت حينها عدم طلب الانضمام للائتلاف الوطني، ليس فقط لأنها تدرك مدى صعوبة الأمر وذكورية الائتلاف ورفض ومقاومة أغلبهم لمشاركة النساء، وإنما لعدم قناعتها بأثره. حيث تجاوزت مشاركتها وصديقاتها ومعارفها المشاركة السياسية الرسمية، وتشمل على سبيل المثال:
- مشاركة المواطنات والمواطنين في المسيرات والمظاهرات والحركات الاحتجاجية والاعتصامات والمقاطعة، والقيام بحملات على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الوطني. كما تندرج الاحتجاجات وتوقيع العرائض وتعبئة الجمهور عبر الإنترنت للمطالبة بحقوق معينة ضمن المشاركة السياسية غير المؤسسية.
- كتابة مقالات أو مقاطع في وسائل الإعلام البديلة للتعبير عن الرأي السياسي وتسليط الضوء على القضايا السياسية، والتواصل مع وسائل الإعلام لتعزيز القضايا النسوية.
- الانخراط في الحركات النسوية والمجتمعية والمشاركة في المنظمات والمبادرات الشبابية غير الحكومية التي تعزز الوعي السياسي وتمكين الشابات والشباب من المشاركة في صنع القرار.
- المشاركة في النقاشات والاجتماعات المجتمعية لتبادل الآراء والمساهمة في صنع القرارات على المستوى المحلي، وإقامة وحضور الندوات والمحاضرات حول القضايا السياسية.
- الانخراط في النشاطات الفنية والثقافية من خلال المشاركة في المعارض الفنية أو الأداء الثقافي لإيصال رسائل سياسية وتعزيز الوعي العام.
- تأسيس وإدارة مشاريع تنمية مجتمعية تعزز القضايا السياسية.
أيضًا؛ شرعت خلود في رحلة استكشاف. أدركت قوة الإنترنت كأداة للتغيير وبناء المجتمع. من خلال منصات الإنترنت، اكتشفت طريقة جديدة للتعبير عن مخاوفها، ومشاركة تجاربها، والتفاعل مع الأفراد ذوي التفكير المماثل الذين يؤمنون بديمقراطية سوريا. من خلال حملات وسائل التواصل الاجتماعي، حشدت الدعم وشاركت قصصًا عن الصمود، ودافعت عن حقوق المرأة في سوريا. أصبح العالم الرقمي مسرحًا لها، وربطها بالناشطات والناشطين والمنظمات والمجتمعات حول العالم الذين شاركوها رؤيتها. وهذا ما يراه بعض المؤلفين، مثل Jensen, Eva Anduisa وLaya Jorba في بحثهم “المشاركة السياسية عبر الإنترنت في أوقات التغيير: دروس من كاتالونيا” (2012)، أن الويب يؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من المشاركة السياسية. يرون أن الكثير من الأنشطة خارج الإنترنت يمكن القيام بها على الإنترنت بشكل أسهل وأقل تكلفة، وأن الوسائط الرقمية قد مكّنت من إنشاء أنماط جديدة للمشاركة السياسية لم تكن موجودة من قبل.
ومع ذلك؛ أدركت أن النشاط عبر الإنترنت وحده لم يكن كافيًا. كان من الضروري استكمال المشاركة الافتراضية بإجراءات ملموسة في مجتمعها المحلي. أدركت أن المشاركة السياسية الهادفة تشمل كلاً من النشاط الرقمي والحقيقي، مما يخلق نهجًا شاملاً لإحداث التغيير.
لم تلتقِ خلود مجددًا بصديقتها لأكثر من عامين، لكنهما تواصلتا عبر الإنترنت وشاركتا في نشاطات أو ندوات مشتركة. وفي عام 2018، كان اللقاء الثاني مؤثرًا، حيث التقتا مرة أخرى على هامش مشاركة صديقتها في المؤتمر الأول للحركة السياسية النسوية السورية. دُعِيَتْ خلود للانضمام للحركة، لكن هذه المرة فكرت وقرأت مبادئ وأهداف الحركة وقررت الانضمام. منذ ذلك الحين، وهما تناضلان في الحركة وفي نشاطاتهما الأخرى لتعزيز مشاركة النساء على كافة المستويات، بما في ذلك مراكز صنع القرار.