جمانة حداد / الـ22
كنّا في أواخر أيام الصف الخامس ابتدائي، عندما طلب منّا معلم التاريخ والجغرافيا أن نعدّ عرضاً شفهياً عن خمسٍ من أكثر الشخصيات التاريخية التي أثارت إعجابنا في المنهج الذي درسناه سنتذاك. عدتُ إلى البيت، بدأتُ البحث والتفكير، ثم كتبتُ على ما أذكر: حمورابي بسبب مسلّة قوانينه، نابوليون بونابارت بسبب أنه نابوليون بونابارت (وعشقه لجوزفين)، أبراهام لينكولن بسبب إنهائه العبودية، المهاتما غاندي بسبب فلسفته السلمية، وونستون تشرشل بسبب مواجهته الشجاعة للنازيين في الحرب العالمية الثانية.
حضّرتُ العرض، وذهبتُ في اليوم التالي إلى الصفّ وقدّمته، وفعل مثلي سبع وعشرون تلميذة في الصف الخامس ابتدائي في المدرسة المخصّصة للبنات التي كنتُ أرتادها. سبع وعشرون فتاة اخترن بدورهنّ شخصيات وزعماء رأين أنهم ملهمون بالنسبة إليهنّ في شكل خاص. في آخر الحصّة، صفعني استدراك ساطع لا مجال لتجاهله: كان كل القادة الذين اخترناهم… رجالاً.
وينن؟!
لا يعني هذا أن المادة التي كنّا نتعلّمها لم تأت على ذكر القائدات النساء. بل مرّت علينا بعض الشخصيات البارزة، مثل حتشبسوت وكليوباترا والملكتين زنوبيا التدمرية واليزابيت الأولى الإنكليزية، والإمبراطورتين جوليا أغريبينا الرومانية وكاترين الثانية الروسية وسواهنّ، لكنّه كان مروراً خفراً، ذا تأثير طفيف وقابلاً للنسيان بسهولة، وسط بحر الرجال الذين درسناهم ودرسنا كيف غزوا واحتلوا وقسّموا ووحّدوا وخطّطوا وتآمروا وغيّروا مجرى العالم، كلّ على طريقته.
ثم إن التركيز، لدى دراسة القائدات، كان على حياتهنّ الشخصية وسلوكياتهنّ أكثر بكثير مما كان على إنجازاتهنّ. هكذا تعلّمنا مثلاً أن الإمبراطورة جوليا، والدة نيرون، سمّمت كل الرجال في حياتها، واحداً تلو الآخر؛ وأن حتشبسوت اتخذت خادمها عشيقاً لها؛ وأن اليزابيت الثانية لم تنجب أولاداً؛ وأن كليوباترا كانت على علاقة بيوليوس قيصر ومارك أنتوني. هل تناولنا هذا الجانب من حياة القادة الرجال؟ هل قيل لنا، مثلاً، إن نابوليون بونابارت كان يخاف من القطط؟ أو إن غاندي كان يحب النوم إلى جانب فتيات قاصرات؟ أو إن تشرشل كان عنصرياً، والملك إدوارد السابع كان يحبّ الاستحمام بالشامبانيا مع المومسات؟ قطعاً لا.
يتم التركيز لدى دراسة القائدات، على حياتهنّ الشخصية وسلوكياتهنّ أكثر بكثير مما على إنجازاتهنّ. هكذا تعلّمنا مثلاً أن الإمبراطورة جوليا، والدة نيرون، سمّمت كل الرجال في حياتها، وأن حتشبسوت اتخذت خادمها عشيقاً لها؛ وأن اليزابيت الثانية لم تنجب أولاداً
بعد تلك الحادثة بثلاثين سنة، وتحديداً في سنة 2010، كنتُ أقرأ في إحدى الصحف خبراً عن اجتماعٍ عقده مجلس الاتحاد الأوروبي، صدف أن نظرتُ إلى الصورة المرافقة للخبر، فلم أتمالك إلا أن أستهول المشهد: سبعة وعشرون رئيساً أوروبياً (بين رؤساء جمهورية ورؤساء حكومة) يبتسمون باعتزاز للكاميرا، بينهم فقط امرأتان: أنجيلا ميركل من ألمانيا، وداليا غريباوسكايتي من ليتوانيا (اليوم، في المناسبة، أي سنة 2023، عددهنّ أربعة من أصل 27). قلتُ في سرّي: “ولو!! قارة طويلة عريضة متطوّرة، ليس فيها سوى دولتين ترأسهما نساء؟ وينن، أولئك الكفوءات، المؤهّلات، صاحبات الخبرة السياسية والإمكانات القيادية؟ هل يعقل ألا يكنّ موجودات على الساحة بأعداد كاسحة، أو، في الحد الأدنى، مقبولة، حتى في البلدان التي حقّقت فيها المساواة في الفرص والحقوق تحسّناً هائلاً؟”.
“إذا كنت تريد لشيء أن يقال، عليك برجل. إذا كنت تريد لشيء أن يُفعَل، عليك بامرأة”
ننتقل ثماني سنوات إلى الأمام، أي إلى سنة 2018، خلال فترة الانتخابات النيابية اللبنانية التي خضتُ شخصياً معركتها يومذاك. كنتُ قد انكببتُ طوال الأشهر السابقة على كتابة مشروعي الانتخابي، الذي بلورتُ فيه رؤيتي المفصّلة لدولة لبنانية عادلة وديموقراطية وعلمانية، والأهداف التي سأركّز عليها في حال فوزي بالمقعد النيابي، في ميادين المساواة وحقوق الإنسان والمواطنية وحرية التعبير. وإذ بي أدعى إلى المشاركة في حلقة حوارية تلفزيونية حول استحقاق الانتخابات، ما كان يشكّل فرصة لا تثمّن لمرشحة مثلي، لا تملك – ولا تريد أن تملك – إمكانات شراء وقت على الهواء لعرض برنامجها. وماذا كان السؤال الأول الذي طرحه عليّ الإعلامي الفذّ الذي كان يدير الحلقة يومذاك؟ كان، يا للفداحة، سؤالاً متعلقاً بصورتي المطبوعة على غلاف كتيّب المشروع!
الجارور
تختصر هذه القصص الثلاث إشكالية من أبرز الإشكاليات التي نعانيها في عالمنا الحديث، حتى الجزء منه المعتبَر “أوّلاً”، ألا وهي ضآلة حضور النساء في مراكز القيادة واتخاذ القرارات السياسية – وتحجيم اللواتي حضرن ويحضرن بأساليب مختلفة – حتى يومنا هذا. وإذا ما بحثنا في مسبّبات هذا الغياب – أو بالأحرى التغييب – والتحجيم، وفي حوافزهما وجذورهما، لا مفرّ من أن نوجّه أصابع الاتهام بشكل رئيسي ومنطقي للنظام البطريركي الذي لا يزال يحكمنا.
وإذا شئتُ أن “أبسّط” قواعد هذا النظام، فسأختصرها بالقاعدة/الاستعارة، أو بالتقليد التالي، الذي تحرّرتْ منه بعض الثقافات والمجتمعات والعائلات، لكنه لا يزال شائعاً في كل الأصقاع (وإلا لكانت شركة ماتيل التي تصنّع الباربي، أفلست من زمان): الفتيات تُهدَى إليهن الدمى، والفتيان جنود من بلاستيك. يعني: هي للحبّ وهو للحرب. هي للداخل وهو للخارج. هي للرعاية وهو للقيادة. يقال لها مراراً وتكراراً، بطريقة مباشرة أو بالتلميحات التي تشكّل صلب اللاوعي، إنها كائن عاطفي وانفعالي وحساس (ما يعني ضمناً أنها هشّة و”ضعيفة” وعاجزة عن التفكير بعقلانية)، ويقال له إنه كائن متّزن وموضوعي ومنطقي، يفكّر بهدوء ولا يتسرّع. لا بل ثمة أبحاث علمية مزعومة أكّدت هذا التمييز وبرّرته بالجينات وكيمياء الدماغ، قبل أن تتبيّن لاحقاً قلّة دقّتها.
هكذا نتربّى وهكذا نكبر، بناء على أحكام ذكورية مهينة وجائرة ومختصرة حيال المرأة في مجتمعاتنا، وهي أحكام لا تزال في “صحة جيدة”، مهما هدّدها الوعي وعارضها الواقع. لماذا لا تزال في “صحة جيدة”؟ لأنها تطمئن. تطمئن مَن؟ النظام البطريركي وأدواته. لماذا تطمئنه/م؟ لأنها تضع المرأة وقوتها وقدراتها – المفزعة لكثيرين – في جارور. تختزلها وتمنع تمدّدها. المرأة كذا والرجل كذا. هذا ما تجيده المرأة وذلك ما يستطيعه الرجل. لا يجوز لها لأنها امرأة ويحقّ له لأنه رجل. هي ينبغي لها أن تَقنَع بقدَرها (وقدرها طبعاً وحصراً الزواج والإنجاب والطبخ والنفخ والخدمة والتضحية)، أما فهو فيجب ألا يكون هناك حدّ لطموحاته وإنجازاته. الأنكى أن أعداداً هائلة من البشر لا تزال، حتى يومنا هذا، تربّي أبناءها وبناتها على هذه الكليشيهات. صغارٌ، وصغيرات خصوصاً، يسهل جبلهم وتكييفهم وتشكيلهم، يكبرون على الإيمان بهذه المغالطات إيماناً شبه أعمى يحول دون اغتنامهم أي فرصة انعتاق منها قد تتاح لهم في المستقبل. ثمة من ينعتق وتنعتق طبعاً، لكنهم الاستثناء، وليست العملية سهلة: تحتاج الواحدة منا إلى الكثير من المتانة الروحية والفكرية لكي تكسر القالب وتخرج منه، وتعيد تشكيل نفسها بمنأى من تأثيرات نشأتها وبيئتها، وهذا يؤدي، في ما يؤدي، إلى انسحاب النساء طوعاً، كما قسراً، من الشأن العام.
هل تتخيّلون مشهد امرأة تبكي داخل مجلس نوابٍ مثلاً، بسبب قرار أو قانون اعتبرته جائراً؟ إنه لرعب خالص لِمَن تربّى على ضرورة كبت مشاعره أمام العامة، وأيضاً لِمَن تربّت على اعتبار البكاء دلالة عجز أو حتى “هستيريا”. لستُ من مادحي فلش المشاعر، لكني، والحق يقال، إذا كان لي أن أختار، فإني أفضّل ألف مرّة مشهد نساء يبكين في برلمان نتيجة ظلم ما، على مشهد أولئك الرجال الذين نراهم في كل مناسبة يتناحرون كالضواري ويصرخون ويتقاذفون الشتائم. أي المشهدين أرقى إنسانياً؟ أي المشهدين يبرهن عن صدق وشجاعة حقيقيين؟ أي المشهدين، خصوصاً، يعكس ما يختلج فينا كمواطنين من قهر وحسرة وشعور بالغبن؟
ما زلت أذكر الصخب الإعلامي والسياسي الذي رافق مشاركة رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أردرن – وهي من المفضّلات عندي كشخصية سياسية معاصرة، لأنها قادت بإنسانية لم تحل دون الحزم – في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك سنة 2018. اصطحبت أردرن معها يومذاك طفلتها، لأنها كانت لا تزال ترضعها: فتعالت الانتقادات من هنا، وهيصات الترحيب من هناك، وبينهما الكثير من التمحيص والتحليل والمقالات والفيديوهات وهلم. إن مجرد إثارة فعل كهذا كل هذه الضجة، في حين ينبغي له أن يُعتبَر طبيعياً وبديهياً، لهو أبلغ دليل على المسافة الشاسعة التي لا تزال تفصلنا عن تطبيع وجود النساء في حلبة السياسة في العالم أجمع.
نحن الآن لا نزال في غالبيتنا “روبوتات” خاضعة للبرمجة التي نتعرّض لها منذ نرى النور. برمجة في البيت. برمجة في المدرسة. برمجة في التعاليم الدينية. برمجة على التلفزيونات وفي وسائل التواصل الاجتماعي
شغل الرجال
لكن المشكلة ليست فقط مشكلة النقص في عدد النساء في مجال السياسة، وتطبيع وجودهنّ في قطاعاتها (يا ريت!). أي ليست المشكلة فقط “عددية” وكمية، بل الأفدح أنها نوعية، وهنا، أعني خصوصاً منطقتنا. فلأتخذ لبنان مثلاً: ما عدا بعض الاستثناءات التي خاضت، وتخوض اليوم، عالم السياسة عن جدارة واستحقاق، كم من النائبات أو الوزيرات اللواتي مررن على الساحة، توصلن بالجدارة والمقدرة، وكم هنّ منتوج الواسطة، أو “تبييض الوجه الذكوري”، أو الإرث العائلي لشهيد من هنا، أو لوالد لم يحظ بابن من هناك؟ يزيد الطين بلة أن مثل هؤلاء السياسيات الفاشلات لسن “مجرّد صفر على الشمال”؛ لسن محض إضافة محايدة، بلا أي مفعول على الواقع القائم. بل لهنّ على العكس من ذلك مفعول كارثي، إذ يعزز جهلهنّ وافتقارهنّ للمؤهلات النظرة النمطية إلى المرأة التي، في عُرفِنا، “ما بتفهم بالسياسة”، أي أنهنّ يعمّقن الهوة بدلاً من أن يردمنها.
فعلاً، أنظر إلى النساء المنخرطات في العمل السياسي في هذا البلد، اللواتي لا يتجاوز عددهن أصابع اليدين، فأجد أن معظمهنّ – أكرّر: معظمهنّ- لا يستحققن المقارنة مع نظيراتهنّ في بلدانٍ أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتمييزية أسوأ – نعم، هناك أسوأ – من أوضاعنا اللبنانية. تشاندريكا كماراتونغا في سري لانكا، سهلورق زودي في اثيوبيا، شيخة حسينة واجد في بنغلادش، سارا كوغونجيلوا أمادهيلا في ناميبيا، غلوريا ماكاباغال أرويو في الفيليبين، ايلين جونسون سيرليف في ليبيريا: لائحة النساء اللواتي سطعن في “وادي الظلال” السياسي ليست بقصيرة في بلدان العالمين الثاني والثالث. فما الذي يحول دون حصول ذلك في لبنان؟
العوائق متعددة ومتشعّبة ومعقّدة طبعاً، لكنّي سأكتفي بإيراد ثلاثة منها، أعتبرها شخصياً أساسية:
العائق الأساسي الأول هو طبعاً السلطة الحاكمة لدينا، أو بالأحرى “العصابة” المستحكمة بنا، التي مدّت جذورها تحت الأرض وفي كلّ مكان، بحيث أنّ مجرّد التفكير باستئصال شرشٍ واحدٍ من شروشها، سيكون مدعاةً لتفريخ ما لا عدّ له من الشروش المتجذرة في كلّ شيء، وفي كلّ مؤسسة. هذا هو الواقع البشع، ومن بين شوائبه التي لا تعدّ ولا تحصى، أنه واقع ذكوري تستوستيروني بامتياز: رجال يدعمون رجالاً. رجال يتواطؤون مع رجال. رجال يسوّقون لرجال. رجال يؤمنون بالرجال ويستخّفون بالنساء. رجال لا يصغون إلا إلى صوت جعجعتهم الخاصة. لا أعني بكلامي هذا أنه ينبغي لنا أن نسلّم بهذا الواقع وأن نستسلم له. لا أعني أن ليس هناك أمل. هناك أملٌ طبعاً، بل يجب أن نخترع هذا الأمل اختراعاً رغم أن الواقع صعبٌ ومعقّد للغاية. نعم يجب أن نخترع هذا الأمل، لأن لبنان يستحق أكثر من ذلك، ولأننا نحن نساءه نستحق أكثر من ذلك، وسنعمل على تحقيق ما يستحق ونستحق، مهما تطلب الأمر من جهود وصبر ووقت ومواجهات شرسة.
العائق الثاني هو أسلوب التربية. أكرّر: لا تزال أعداد هائلة من الناس، ليس فقط في لبنان بل في العالم كله، تربّي أبناءها وبناتها على الكليشيهات، ومنها كليشيه أن “السياسة شغل الرجال”، رغم كل الكلام الظاهري عن المساواة والتمكين والإيمان بقدرات النساء. المساواة والتمكين والإيمان تتحقق بالفعل لا بالوعظ. وأبرز تجسيد لهذا هو أسلوب التربية، والنظرة إلى أنفسنا التي تُزرع فينا زرعاً منذ نعومة أظفارنا. من الجوهري والحيوي التمهيد للانعتاق، أكان الانعتاق فكرياً أم جسدياً، منذ الصغر، منذ الأصل، منذ نقطة الانطلاق. لن تنكسر الصيغ الجاهزة التي تكبّل تقدّمنا وتحدّ من قدراتنا، إلا متى ترافقت تربية الأطفال مع وعي تنويري يتحدّى هذه الموروثات البالية ويجهّز أجيالاً جديدة تفكّر بحرية وتعبّر بحرية وتعيش بحرية.
عالم سياسي عسكري ذكوري بامتياز، يسوده التستوستيرون وتُصرَّف أفعاله بناءً على قواعد الضمير المذكّر.
متى يحدث ذلك؟ نحتاج إلى الكثير من الوقت، الكثير من التراكم، والكثير من الإرادة الصلبة والمعارك الطاحنة مع الجهل. نحن الآن لا نزال في غالبيتنا “روبوتات” خاضعة للبرمجة التي نتعرّض لها منذ نرى النور. برمجة في البيت. برمجة في المدرسة. برمجة في التعاليم الدينية. برمجة على التلفزيونات وفي وسائل التواصل الاجتماعي. كل هذه العناصر تتضافر ضد الوعي الفردي منذ الطفولة، وتحدّ من مقدرة الإنسان عموماً، والمرأة خصوصاً، على المساءلة والتطلّع والقفز. ما إن نكتسب القوة والجرأة على طرح أسئلةٍ تشكّك في ما قُدِّم إلينا كبديهيات مطلقة، آنذاك يبدأ مشوارنا نحو التمكين. آنذاك نكفّ عن كوننا محض “متلقّيات” ونصير فاعلات، والأهم: نصير مالكات لحياتنا وطموحاتنا وقراراتنا.
أيضاً على هذا الصعيد، ومن سلبيات التربية المذكورة أعلاه، نقطة سوداء ثانية، هي ما يحكى عن أن “المرأة لا تثق بغيرها من النساء في مواقع القيادة”. إذا كان هذا الشعور موجوداً حقاً لدى البعض، فهو ناجم بالتأكيد عن المشكلة نفسها، أي التربية الذكورية التي تنتقص من قيمة المرأة وقدراتها، في نظرتها إلى ذاتها وإلى النساء الأخريات، ويلزم الكثير من التراكم التربوي والثقافي والنقدي ومن الإنجازات الصارخة كي تتحرّر المرأة من هذه العقدة.
أما العائق الجوهري الثالث فهو، للأسف، سوء التصويب على الهدف من جانب النساء أنفسهنّ. غالباً ما سمعنا ونسمع بمطالبات مثل: “نريد نساء أكثر في السياسة”، خصوصاً من جانب بعض المنظمات غير الحكومية التي تعمل، نظرياً، على “تمكين” المرأة وتعزيز حضورها في هذا المجال. لكن هذه المطالبة، أو بالأصحّ صياغة هذه المطالبة، خاطئة، وخاطئة جداً. إذ حري بنا أن نسأل بداية، أي نوع من النساء نريد في السياسة، وهي نقطة كنتُ أثرتُها في بداية هذه الفقرة، هل نريد نساء لمجرد تزيين المشهد ورفع العتب وإشعارنا بأن “كلو تمام” ظاهرياً، أم نريد نساء سيعملن فعلياً على تحسين ظروف المرأة وحياتها، وسيحملن قضاياها؟ هل نريد نساء مؤمنات بالنظام البطريركي وبقواعده المتحيّزة، أم نريد نساء مؤمنات بمبدأ المساواة في الفرص والحقوق؟
للأسف، يكفي في رأي بعض المناضلات النسويات أن تكون المرشّحة أو صاحبة المنصب امرأة، لكي يشكل ذلك مبرّراً قاطعاً لتشجيعها ودعمها من جانب عدد كبير من النساء. حتى إذا كانت المرأة المعنية، على سبيل المثل لا الحصر، لا تعترف بالاغتصاب الزوجي، أو تعارض الإجهاض، أو تجتنب الحديث عن زواج القاصرات. لأجل ذلك هناك كلمة، بل صفة، ناقصة في المطلب المذكور أعلاه: نريد – ونحتاج إلى – نساء “نسويات” أكثر في السياسة. نساء لن يكنّ انتقاماً من النساء. نساء عظيمات، مكافحات، باسلات، لم يرثن السياسة لا من زوج ولا من أب ولا من عمّ، بل شحذن الطموح وحفرن الطرق بكدّ وجهد واستحقاق. وبعضهنّ موجود الآن على الساحة السياسية اللبنانية، ولكن أكثريتهنّ غائبات و/أو مغيّبات.
قد يقول قائل هنا إني على خطأ، وأن على المرأة التي تعمل في السياسة أن تسعى إلى تحسين وضع المواطنين كافة، وليس فقط وضع بنات جنسها. هذا صحيح جداً من حيث المبدأ، وفي عالم “طبيعي”، كيلا أقول مثالي، لكن أين نحن من هذا العالم الطبيعي والمثالي؟ هل يمكن أن نتحمّل ترفاً كهذا، في بلاد تفتقر نساؤها إلى بديهيات الكرامة والحماية؟ قطعاً لا. فلتتحيّز المرأة السياسية إذن إلى المرأة المواطنة، ولترفع قضاياها بصوت عال وعلى الملأ وبإصرار و”وقاحة”، إلى أن نصل إلى نقطة لا يعود هناك فيها حاجة لمثل هذا التحيّز، ونصير فيها قادرين وقادرات، مثلاً، على قبول تعيين رجل في منصب وزير لشؤون المرأة، بلا أي شعور بالإجحاف أو العيب، كما حدث في لبنان سنة 2016 (وهو أمر، في المناسبة، لم يحدث، ولا يمكن أن يمرّ، حتى في أكثر البلدان الأوروبية تطوّراً على صعيد المساواة).
130 عاماً
هذا في لبنان تحديداً، وعند العرب عموماً وإن بدرجات متفاوتة بحسب البلدان، ففي تونس مثلاً إرث عريق من الممارسة السياسية النسائية، وفي الإمارات العربية المتحدة اليوم مجلس تشريعي (المجلس الوطني الاتحادي) نصفه نساء. ماشي. ولكن ماذا عن العالم الغربي؟ طيّب ما مبرّرات الانكفاء السياسي هناك، حيث لا تصح الحجج التي تنطبق على عالمنا، وحيث تسود، في المبدأ والظاهر حيناً، وفي التطبيق أحياناً، ظروف وقوانين تشجّع النساء على خوض غمار العمل السياسي، أو على الأقل ظروف وقوانين لا تعوق دخولهنّ هذا المعترك؟
أعلم أن لائحة النساء المنخرطات في السياسة بنجاح طويلة في العالم المتقدم، من رئيسات جمهورية وحكومة ووزيرات ونائبات وشيخات… الخ، لأنها بلدان، كما ذكرتُ آنفاً، قطعت أشواطا لا بأس بها في تخطي احتكار الذكورة لبعض الميادين. ولكن حتى في ذلك العالم، لا يزال التفاوت هائلاً: إذ تبيّن الإحصاءات الأخيرة للأمم المتحدة، وتحديداً لـ UN women، أن مشاركة النساء في الحياة السياسية لا تزال قاصرة في معظم البلدان، وأن تحقيق المساواة على هذا المستوى يحتاج إلى 130 عاماً إضافية. 130 عاماً، تصوّروا! على سبيل المثل، هناك ستة بلدان فقط تتألف مجالس نوابها من نسبة خمسين في المئة أو أكثر من النساء، وخمسة منها لا تعتبر من بلدان العالم الأول: رواندا، كوبا، نيكاراغوا، المكسيك، والإمارات العربية المتحدة. البلد السادس والوحيد المنتمي إلى العالم المسمّى “متطوّراً”، هو نيوزيلندا.
هذا العالم يعيش إذن فصاماً رهيباً داخل كينونته المجتمعية. هو يزعم أنه يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة لكنه لا يترك مجالاً، أو مناسبة، إلاّ يعيد تأكيد صمود الذكورية فيه. ليس هذا مبرّراً لليأس، لكن الواضح أن دهوراً من التمييز في حق المرأة لن تمحى في قرن أو في قرنين، وسوف نحتاج إلى وقت طويل وتراكم كبير، قبل أن تتحقق المساواة على المستوى السياسي، وحتى على المستوى الأدبي أو الفكري أو المجتمعي. ثمة تاريخ من الانفصام التمييزي والذكوري ينبغي الاستشفاء منه، قبل حصول مثل هذا “الشرف”.
عندما نكتسب القوة والجرأة على طرح أسئلةٍ تشكّك في ما قُدِّم إلينا كبديهيات مطلقة، آنذاك يبدأ مشوارنا نحو التمكين. آنذاك نكفّ عن كوننا محض “متلقّيات” ونصير فاعلات، والأهم: نصير مالكات لحياتنا وطموحاتنا وقراراتنا
قصاص البيولوجيا
وبعد: الكوكب بأسره، كما ذكرت وبيّنت، لا يزال يعاني مشكلة ذات صلة بالفلسفة الذكورية لمنطق الحياة، التي تستبعد النساء من مجالات كثيرة يمكن – ويحقّ لهنّ – أن يؤدين فيها دوراً محورياً. هنا أعود لأطرح السؤال: ما السبب، أو الأسباب، إذا ما حيّدنا الذكورية المُمَنْهجة أو السرّية (التحيّز الواعي أو اللاواعي ضدّهن، انعدام المساواة في الأجور بينهنّ وبين الرجال في المناصب نفسها، التنمّر عليهنّ والتركيز على حياتهنّ الشخصية، تشكيك الناخبين – والناخبات – في قدراتهنّ، القوانين الانتخابية التمييزية، الخ)؟ مقترح الجواب الذي لديّ هو، بكل بساطة، البيولوجيا. نعم، البيولوجيا. أعني، تحديداً، البيولوجيا النسائية.
ماذا أقصد بهذا الكلام؟ أقصد الأمومة، أو مسؤولية الخلق والتكاثر، وما يرافقها من ضغوط وانشغالات وتوقعات وجهود تحدّ من القدرة على الحركة وعلى العمل خارج نطاق المنزل، أقلّه لفترة زمنية ليست بقصيرة، وهي ضغوط وانشغالات وتوقعات وجهود تقع غالبية أوزارها على النساء، بحكم كونهنّ “صاحبات الأرحام والأثداء”. هناك قدر هائل من التمييز يمارس على المرأة بسبب هذا الموضوع – حريّ بي أن أقول بسبب هذه “القدرة” الخارقة والاستثنائية – في عالم الأعمال عموماً، وفي عالم السياسة خصوصاً، ما يجعل البعض منّا يشعر أحياناً، في لحظات التحرّر من الذنب الذي يرافق حكماً تأملات وأحاسيس مماثلة، أن هذه القدرة هي أقرب إلى “القصاص” منها إلى النعمة. كيف لا، ويعود غالباً إلى المرأة وحدها أن تختار ما بين سيرتها المهنية وطموحاتها، ورغبتها في أن تكون أمّاً؟ أو يعود اليها أن “تقولب” طموحاتها بناء على هذه الرغبة، فتختار حصراً مجالات عمل لا تتعارض معها (معلّمة مدرسة، موظّفة بنك… الخ)؟ أو، أخيراً وأيضاً وخصوصاً، يعود إليها أن تعيش حياتها ممزّقة بين توقعات الأولى منها، وتوقعات الثانية؟ بين واجبات الأولى وواجبات الثانية؟ بين متطلبات الأولى ومتطلبات الثانية؟ هكذا تمضي الوقت والعمر في محاولة إثبات أنها “سوبر وومان”، وأنها تستطيع أن تفعل كل شيء، وأن تكون كل شيء، خصوصاً في زمننا هذا الذي يروّج، في الكتب والأفلام والإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، لطروحات إرهابية وترهيبية مماثلة.
تنجح المرأة في فعل ذلك حيناً، وتفشل، حكماً، أحياناً أخرى، لكنها دائماً وبلا استثناء تقريباً، تستهلك روحها وطاقتها وصحتها النفسية في هذه الحلقة المفرغة من بذل الذات وبرهنة الذات ولوم الذات. وليهدي إليّ الرجال من دعاة “مشيئة الله” و”سامحك الله” سكوتهم هنا، أو ليجيبوني بصدق عن السؤال الآتي: أي واحد منكم اضطر، ولو لمرّة واحدة في حياته، أن يختار بين أبوّته وأحلامه المهنية؟ أكاد أجزم أن الجواب هو “لا أحد”. أكاد أجزم أيضاً أن التعليقات على هذه النقطة ستهدف، بشكل رئيسي، لتبرير مفهوم التكامل، وتبرير الأدوار المنمَّطة، وتبرير الجارور اللعين إياه.
لكن الحق ليس عليكم. ليس عليكم فقط. الحق أيضاً، جزئياً، علينا، نحن النساء اللواتي نصدّق أننا لا نستطيع ولا نستحقّ.
هل هناك حلّ لهذه المشكلة؟ نعم، وهو سهل للغاية ومعقّد للغاية في آن: أن يتولّى الرجل مسؤوليات أكثر على مستوى رعاية الأطفال، وأن يستثمر نفسه ووقته أكثر في الاعتناء اليومي بهم، وهذا ما بدأت تفرضه قوانين بعض البلدان الإسكندنافية (وينعكس، بحسب الدراسات، بشكل إيجابي، لا على النساء فحسب، بل على الرجال أيضاً، وعلى نفسيتهم وسلوكياتهم ومستوى رضاهم على حياتهم).
القائل والفاعلة
كنتُ ذكرتُ في بداية هذا المقال أن ضآلة حضور النساء في مراكز القيادة والقرار السياسيين هي مشكلة. لماذا هي مشكلة؟ طبعاً، يمكنني أن أستخدم هنا حجة حقّ النساء في المساهمة في قيادة بلدانهنّ، كونهنّ نصف المجتمع تقريباً بالطالع أو بالنازل، وهي حجة مجدية ومقنعة جداً في ذاتها، تتحدى بطريقة بسيطة ولكن حاسمة منطق الأدوار النمطية للرجل والمرأة، ومنطق “التكامل” الذكوري المحبِط، الذي يحصر نشاط النساء بالمنزل والعائلة والأولاد، وفي أحسن الأحوال بالتربية والتعليم، ويمنح الرجال المساحة الباقية من الملعب، وهي مساحة شاسعة. لكن غياب النساء عن مراكز القرار، مشكلة لأسباب أخرى أيضاً، جدية بدورها، وجلية ومثبتة، سوف أورد بعضها في ما يأتي.
أولاً، سأستشهد بكلام رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر التي قالت يوماً: “إذا كنت تريد لشيء أن يقال، عليك برجل. إذا كنت تريد لشيء أن يُفعَل، عليك بامرأة”. ليس هذا الكلام نوعاً من الشعاراتية النسوية التعميمية، بل واقع مبرهَن. إذ أظهرت التجارب، كما البحوث، أن قيادة المرأة للبلدان تحسّن نوعية الحياة فيها على مستويات عديدة، منها الصحة والتعليم، كما تنعكس إيجاباً على وضع العائلات والأقليات، كما تزيد فرص استتباب السلام، كما ترفع مؤشرات الديموقراطية والحريات والإنتاجية.
تالياً عندما يطّلع المرء – المتبصّر والفهيم – على هذه الأرقام والإحصاءات والدراسات، لا مفرّ من أن يساند مشاركة النساء – أعيد وأكرّر، النسويات تحديداً – في الحياة السياسية، وأن يعتبر تغييبهنّ عنها مشكلة، بل مشكلة كبرى.
ثانياً، وهذه نقطة أثرتُها آنفاً، ولكن ثمة حاجة إلى تكرارها: لا يمكن أن تتحسّن أوضاع النساء إذا لم يكن هناك نساء أكثر في السياسة. هنا أيضاً، أظهرت الدراسات أن جندر المشرِّع يؤثر في شكل مباشر على نوعية القوانين التي يقرّها مجلس تشريعي ما. وليس الهدف من السعي إلى تحسين أوضاع النساء، حصراً تحسين أوضاعهنّ، بل هو أيضاً وفي الدرجة الأولى تحسين أوضاع الدولة برمتها وبكل مكوّناتها. إذ لا يمكن دولة أن تدّعي الديموقراطية من دون احترام حقوق النساء، مثلما لا يمكن دولة أن تكون قوية اقتصادياً من دون انخراط النساء في سوق العمل، مثلما لا يمكن دولة أن تتقدم من دون مشاركة النساء الفاعلة في كل الميادين. تالياً فإن غيابهن عن مراكز القرار مشكلة بنيوية إنمائية وليست فقط حقوقية.
منذ قرون وأنتم تديرون الكرة الأرضية، تلعبون بها كأنها فوتبول، وتستخدمونها للقيام بحركات بهلوانية من كل نوع ولون. يعطيكم ألف عافية. هذا العالم يحتاج إلى عطلة منكم. حان الوقت لكي نستلم الحكم: “ما بيصير أكتر ما صار”. ارتاحوا… وجرّبونا
ثالثاً وأخيراً وليس آخراً: النقص في عدد النساء في مراكز القرار يعني استحواذ الرجال على مراكز القرار. يشكّل الرجال في عالمنا اليوم نسبة 77% من المشرّعين، و82% من الوزراء، و93% من رؤساء الحكومات، و94% من الرؤساء. إلام يفضي ذلك؟ يفضي، كما شهدنا ونشهد، وأقول ذلك بموضوعية – أكاد أضيف: “وببراءة” – إلى عالم مأزوم: إمعان في الحروب، وإمعان في الاقتتال، وإمعان في المطامع، وإمعان في الفساد، ولا مبالاة حيال قيم راقية وحيوية مثل الإنسانية والرحمة والتعاطف والنزاهة. لا أعمّم البتة، ولستُ صاحبة نظرة طوباوية عمياء للمرأة، لكنّ الوقائع تشهد، وهي لا تكذب: افتحوا أي كتاب تاريخ أو أصغوا إلى أي نشرة أخبار وستتأكدون من كلامي هذا. هل هذه مشكلة؟ أترك لكم أن تجيبوا.
في اختصار، ما دامت الهيكليات السياسية والاقتصادية والثقافية تحت سيطرة الرجال، لن تتطوّر العقلية البطريركية، أي لن تتطوّر الحياة، ولن يتطوّر العالم، مهما شهدنا من تقدم على مستويات كالتكنولوجيا وغزو الفضاء والذكاء الاصطناعي والطب. بالتالي، وسط أولئك الذين يحاولون تتفيه دور المرأة في السياسة، ووسط اللا اكتراث العام والصارخ والمستمر حيال التمييز ضد المرأة (لا تخدعنّكم الحملات الإعلانية والبيانات الصحافية: إن هي غالباً سوى ظواهر صوتية ومحاولات تجميل واقع بشع)، نحن في حاجة ماسة إلى عدد أكبر من النساء في مجالس النواب والحكومات والرئاسات وسواها من مراكز القرار.
ألا تعتقدون أننا، نحن نساء هذا العالم، نستحق الدخول في لعبة القرار، ليس بدلاً منكم، ولكن في الأقل إلى جانبكم؟
ارتاحوا…
أختم بالنداء الآتي:
أيها السادة الكرام، ساسة هذا العالم الأشاوس
منذ قرون وأنتم تتحكمون بهذه الأرض وناسها: تفكّون وتربطون؛ تقرّرون وتحلّلون؛ تتحالفون وتتخاصمون؛ توجّهون وتغيّرون؛ تُمرّرون وتتجاهلون؛ تتحاربون وتتصالحون. في اختصار: تقيمون الدنيا وتقعدونها من حولنا وفوقنا وتحتنا. لا مناص: عالم سياسي عسكري ذكوري بامتياز، يسوده التستوستيرون وتُصرَّف أفعاله بناءً على قواعد الضمير المذكّر. أما الضمير المؤنَّث فمغيَّب (طوعاً أو قسراً، لا فرق تقريباً)؛ وإن حضر، فبواسطة صلات القربى معكم: أخت فلان أو زوجته أو ابنته. وهكذا.
لكن مهلكم: هلاّ توقفتم دقيقة فحسب، عن الدوران في فلككم المغلق والمفرغ، وأتحفتمونا بلائحة إنجازاتكم حتى اللحظة في سبيل عالمنا هذا؟ هاكم اللائحة – ما عدا بعض الاستثناءات بينكم، ممّن عززوا الأمان بدلاً من العنف، وقدّموا الرِفق على البطش، وعملوا في سبيل الوفاق لا الصراع: جشع وحروب ودمار وكره ودماء وقتل وضغائن وانقسامات، والحبل ع الجرّار: هذه هي نتيجة قيادتكم الذكورية المجيدة، من أوّلكم إلى آخركم. كيف لا وأنتم منذ صغركم تُنشَّؤون على اللعب بالدبابات والمسدسات، فتكبرون في وهم أن الحياة هي هذه، وأن السياسة هي هذه، وأن هدف القيادة هو هذا. معظمكم صبيةٌ لا يزالون يلعبون حروباً صغيرة على نطاق أوسع. ألا تعتقدون أن الوقت حان لكي تغيّر الشعوب على ضرسها؟ ألا تعتقدون أننا، نحن نساء هذا العالم، نستحق الدخول في لعبة القرار، ليس بدلاً منكم، ولكن في الأقل إلى جانبكم؟
لكن الحق ليس عليكم. ليس عليكم فقط. الحق أيضاً، جزئياً، علينا، نحن النساء اللواتي نصدّق أننا لا نستطيع، ولا نستحقّ (سبب ذلك، على فكرة، أن غالبيتنا تتربّى، حتى اليوم، على سماع ذلك بل وتصديقه). الحق علينا، نحن اللواتي لا نأخذ في الاعتبار همومنا ومعاناتنا وطموحاتنا، ونقبل بتهميش هذه على حسابكم. نحن اللواتي نتردّد في خوض المعارك لأننا نعتبر أنفسنا خاسرات سلفاً. نحن اللواتي ما زلنا نربّي بناتنا على المساومة والخضوع والتسليم بالأقدار، وأبناءنا على الاندفاع والإحراز و”التطحيش”. نحن الذين نكتفي غالباً بالنقّ والشكوى، ونعطي الأولوية لكم بدلاً من أن نعطيها لحقوقنا كمواطنات شريكات أساسيات في البلدان كلّها.
أيها السادة، ساسة العالم الكرام
منذ قرون وأنتم تديرون الكرة الأرضية على هواكم، تلعبون بها كأنها كرة السلة والفوتبول وسواهما، وتستخدمونها للقيام بحركات بهلوانية من كل نوع ولون. يعطيكم ألف عافية. أنتم في أمسّ الحاجة إلى عطلة، صدّقوني. الأهمّ: هذا العالم يحتاج إلى عطلة منكم. حان الوقت لكي نستلم الحكم: “ما بيصير أكتر ما صار”.
ارتاحوا… وجرّبونا.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22