دريّة شفيق من البدايات الجميلة إلى الانتحار… قصة نضال نسوي حارب القمع والنسيان

رصيف22

“منذ عام 1851، كان الرجال من أصحاب العرق البيض تحديداً هم من يتحكمون بمن يستحق النعي على صفحات نيويورك تايمز، من هنا استحدثت الصحيفة قسماً مخصصاً يعيد الاعتبار لأشخاص مؤثرين لم يأخذوا حقهم على صفحاتها حين وفاتهم”. من بين هؤلاء كانت دريّة شفيق التي توفيت عام 20 سبتمبر 1975. في اعتراف لافت منها بالتقصير، احتفت الصحيفة الأمريكية بسيرة شفيق ومسيرتها كرائدة للحركة النسائية في مصر. عادت الصحيفة – معتمدة على فصل من كتاب ديفيد كيركباتريك الجديد بعنوان “في أيدي العسكر: الحرية والفوضى في مصر والشرق الأوسط” – إلى مفاصل حياة تلك “المرأة التي لا يتذكرها الكثير من المصريين اليوم”.  نبشت في تاريخها كصحافية وشاعرة بالعربية والفرنسية ومختصة بالفلسفة في السوربون، كمشاركة في مسابقة لملكات الجمال، كمؤسسة جمعية وقائدة تظاهرات، ومنظمة إضراب عن الطعام للمطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية لنساء مصر. ولأجل أفكارها ونضالها، دفعت شفيق، على عكس ناشطات أخريات حظين بالنفوذ السياسي والطبقي، من حياتها قمعاً وعزلاً وصولاً إلى الانتحار.

البدايات الجميلة

ولدت شفيق عام 1908، لأب يعمل بالقطاع الحكومي دفعته وظيفته للانتقال بأسرته بين عدد من مدن دلتا مصر، مثل الإسكندرية وطنطا والمنصورة، وأم (رتيبة ناصيف) كانت ربة منزل. أكثر ما ميّز شفيق كان جرأتها. لم تستسلم حين كانت أبواب التعليم بعد المرحلة الإعدادية موصدة أمام الإناث، فقد أصرت على استكمال دراستها بشكل ذاتي ووصلت إلى الاختبارات النهائية مجبِرة الأساتذة على الاعتراف بحصولها على أعلى المعدلات في مصر. بسبب إثباتها لنفسها، لفتت أنظار هدى الشعراوي التي ساعدتها في الحصول على منحة حكومية لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون في باريس. وكانت الشعراوي من الطبقة الأرستقراطية، ونظمت نساء من النخبة لتشكيل “الاتحاد النسائي المصري” الذي طالب بالحريات الاجتماعية للمرأة وأيّد الاستقلال عن بريطانيا. وعلى عكس شفيق، لم تضغط (الشعراوي) أبداً في سبيل الحصول على الحقوق السياسية للمرأة المصرية، ورغم ذلك لا يزال يُحتفى بها كبطلة قومية. بالعودة إلى شفيق، فمع بلوغها سن الـ32، كانت قد حازت على دكتوراه في الفلسفة من جامعة “السوربون”. وحين عادت إلى الإسكندرية شاركت في مسابقة ملكة جمال مصر عام 1935 من دون علم عائلتها، لتتعرّض إلى سيل من الانتقادات لكونها أول مصرية مسلمة تخوض هذه المسابقة التي كانت حكراً على الأوروبيات والقبطيات في ذلك الوقت.رأت شفيق في المسابقة مناسبة لإظهار نفسها كمسلمة يحق المشاركة لها، وعن ذلك تقول “في باريس أثبت نفسي في الفضاء الفكري، والآن أود أن أثبت نفسي في الفضاء الأنثوي”، بحسب ما نقله كتاب “درية شفيق: الناشطة النسوية المصرية” لسينثيا نيلسون عام 1996. وعن جمالها كتبت شفيق “كما ولو أن الطبيعة حرمتني من النفوذ والثروة، وعوضتني كنوع من العدالة بهذه المواصفات”، وقد استطاعت أن تفوز بلقب الوصيفة الأولى، لتهاجمها الصحافة المصرية بشدة. “كنت الفتاة المسلمة التي تصرفت ضد الإسلام”، تقول شفيق معلقة على الانتقادات التي طالتها.

النقطة الفارقة

أثناء تواجدها في باريس، التقت شفيق بنور الدين رجائي الذي كان حاصلاً على درجة الدكتوراه في القانون التجاري. تزوجت منه وأنجبا ابنتين هما عزيزة وجيهان. عند عودتها بشهادة الدكتوراه إلى مصر، رفضت الجامعة الوطنية منحها منصباً تدريسياً، إما بسبب جمالها أو بسبب أفكارها الليبرالية التي رأى البعض أنها تضر بسمعتها العلمية. حتى هدى الشعراوى نفسها أقصت شفيق من الاتحاد النسائي النخبوي، وربما يعود ذلك لخلفيتها الطبقية.

“النقطة الفارقة” في مسيرة شفيق، وفي تاريخ مصر المعاصر كذلك، تجلّت في ما قامت به عام 1951، حين قادت تظاهرة من 1500 فتاة وسيدة باتجاه البرلمان المصري

في عام 1957، وصفت شفيق عبد الناصر بـ”الديكتاتور”، ليقوم الأخير بوضعها في الإقامة الجبرية في منزلها وإقفال المجلة التي أسستها بطبيعة الحال، وإصدار تعميم بمحو اسمها من وسائل الإعلام والكتب

بعد ذلك، أسست شفيق حركتها الخاصة التي أسمتها “اتحاد بنت النيل” الذي وجّه دعوته إلى تعليم الفتيات وتنظيم عمل المرأة من كل الطبقات. وكانت الحركة تضم دورات محو الأمية، وكالة توظيف، برامج مساعدة وكافتيريا بأسعار مدروسة، كما تنظم نشاطات ثقافية ومسرحيات نسائية معظمها يدور حول المطالبة بالحقوق السياسية.   “لن يقرّ أحد بحرية المرأة إلا المرأة نفسها. قرّرت أن أقاتل حتى آخر نقطة دم لكسر القيود المفروضة على النساء فى بلادي”، كان أحد الأقوال المشهورة لشفيق.  لكن “النقطة الفارقة” في مسيرة شفيق وفي تاريخ مصر المعاصر كذلك، حسب كيركباتريك، تجلّت في ما قامت به يوم 19 فبراير 1951، حين قادت تظاهرة من 1500 فتاة وسيدة انطلاقاً من مقر الجامعة الأمريكية في القاهرة وصولاً إلى البرلمان المصري الذي كان يضم رجالاً فقط. ولأجل تنظيم الفتيات، كانت شفيق قد ادعت وجود محاضرة في الجامعة تحت عنوان “الكونغرس النسائي”، لكن ذلك كان فقط لحرف أنظار الشرطة. في المحصلة، نجحت شفيق مع رفيقاتها في تعليق العمل في البرلمان لحوالي الأربع ساعات بينما لم تقبل المغادرة إلا بعد أن سلمت لرئيس البرلمان عريضة مطالب، كان أبرزها منح السيدات الحق في التصويت وتولي المناصب السياسية، فضلاً عن تطبيق المساواة في الأجور وإصلاح قوانين الزواج والطلاق. وقد حجزت تلك التظاهرة لشفيق موقعاً بين أكثر النساء تأثيراً في تاريخ العالم العربي، ومع ذلك لا يعرفها الكثير من المصريين اليوم.

محاربة الاستعمار

حين كان المصريون ينظمون حملات الاستقلال عن بريطانيا، بدأت شفيق بتنظيم “بنات النيل”. وفي يناير 1952، قادت مجموعة من أعضاء حركتها لإغلاق بنك “باركليز” (الذي اعتبرته أحد رموز الاستعمار البريطاني)، قبل أن يعمّ الصخب وتفرّق الشرطة الجموع. توقعت شفيق أنه بمجرد سقوط النظام الملكي المدعوم من بريطانيا عام 1952، ستشهد مصر “بداية نهضة للنساء”. لكن لم يتغير شيء إذ لم يسمح للنساء بالتصويت أو المشاركة في جمعية تأسيسية. وفي وقت كانت اللجنة المشكلة من قبل حكومة الثورة تعدّ دستوراً مصرياً جديداً عام 1954، احتجت شفيق لعدم وجود امرأة واحدة بين أعضاء اللجنة، وحاولت اعتماد تكتيك جديد، إذ تعهدت بالاضراب عن الطعام حتى “النفس الأخير”، لتنضم إليها لاحقاً مجموعة من النساء الأخريات في إضراب شكّل العناوين الرئيسية في الصحف العالمية.وفي رسائل إلى الحزب الحاكم، في مارس 1954، قالت شفيق “نحن مقتنعات بأن النساء اللواتي يشكلن أكثر من نصف الأمة المصرية يجب ألا يخضعن، بأي ثمن، لدستور لا يلعبن أي دور في وضعه”، وقد استطاعت إثر هذا الإضراب انتزاع حقوق سياسية للنساء. بعد عشرة أيام من دون طعام، تم إدخالها إلى المستشفى بسبب حالتها المتدهورة، لتتلقى وعداً من الرئيس بالوكالة بحصول النساء على “حقوق سياسية كاملة”. لاحقاً، اتضح أن لن يكون لأحد مثل هذه الحقوق الكاملة، فقد كان جمال عبد الناصر قد عزز سلطته كرجل قوي جديد في مصر، ولم يمنح الرجال والنساء حق ممارسة هذ الامتياز بشكل حقيقي.

من عبد الناصر إلى العزل ثم الانتحار

في عام 1957، وصفت شفيق عبد الناصر بـ”الديكتاتور”، ليقوم الأخير بوضعها في الإقامة الجبرية في منزلها وإقفال المجلة التي أسستها بطبيعة الحال، وإصدار تعميم بمحو اسمها من وسائل الإعلام والكتب. في ذلك العام، جربت شفيق الإضراب عن الطعام مجدداً، هذه المرة لمدة ستة أيام. تعرضت في وسائل الإعلام الناصري لهجوم حاد وصفها بـ”الخائنة”، ووجدت نفسها بمواجهة الحلف النسائي الذي دعمته وقد انقلب عليها، كما تمّ طردها من جمعيتها الخاصة “بنت النيل”. أصبحت شفيق وحيدة وقد أُجبرت على قضاء حوالي 18 سنة في عزلة شبه كاملة. وبعد عشر سنوات على عزلها، أمر عبد الناصر بسجن زوجها لأشهر عديدة لاتهامه بالتحضير لعمل تخريبي، ثم أُبعد عن مصر ووُضع اسمه على لائحة الحظر من دخول البلاد، ومع ابتعاد الزوج ثم الطلاق الذي حصل بين الاثنين عام 1967، غرقت شفيق في عزلة كاملة. بعد محوها من الفضاء العام، دخلت شفيق في مرحلة سوداوية أدت بها لرمي نفسها عن الطابق السادس في أحد أيام سبتمبر من عام 1975. لكن ذكراها بقيت محفوظة بجهود نسويات مصريات. “كان هناك وقت، كانت فيه درية شفيق الرجل الوحيد في مصر… لقد استطاعت منذ عام 1957 أن تخبرنا أننا في طريقنا إلى الديكتاتورية، لكن للأسف كنا مجموعة حمقى غاضبين”، كتبت الناشطة النسوية فاطمة عبد الخالق في “الأهرام” بعد عقود على انتحار شفيق.

شاركنَ المنشور