كان يا ما كان نكتة بريئة بيني وبين ابني البكر منير: منذ أوائل عشريناته (وأوائل أربعيناتي)، وهو يحرقصني ويغيظني بقوله إنه سيجعلني “تيتا” قريباً، وأنا أجيبه في كل مرّة بثقة متعجرفة: “حتى إذا أصبحتُ جدّة، إعْرَفْ أني لن أحيك الصوف أمام النار، ولن أصير عجوزاً حكيمة وحصيفة وما شابه ذلك من ترّهات، بل سأظل أرقص على الطاولات وأتعلّم اللغات وأعيش قصص الغرام وأحصل على الوشوم. سأظلّ أعشق السفر وأضحك بصوتٍ عال وأقول كل ما يخطر في رأسي بلا فلترة، وأكتسب عادات سيئة جديدة… وقد أعذر من أنذر!”.
هروب الى الأمام؟
أنا اليوم في الثانية والخمسين، ومنير في الحادية والثلاثين، والنكتة أعلاه لم تعد بريئة الى هذا الحدّ، ولا طريفة حقاً. ليس لأن ابني تقدّم لخطبة صديقته حديثاً، ولأن نبوءة “التيتا” لم تعد أمراً يلوح في المستقبل البعيد، بل قد يحدث غداً أو في غضون سنتين أو ثلاث؛ ولكن لأني بتُّ أجد نفسي أخيراً غير مرتاحة مع الرقم الذي يشير الى سنّي، رغم عدم حرجي، بل قلْ حماستي الزائدة، في مشاركته مع الآخرين.
حتى إذا أصبحتُ جدّة، إعْرَفْ أني لن أحيك الصوف أمام النار، ولن أصير عجوزاً حكيمة وحصيفة وما شابه ذلك من ترّهات، بل سأظل أرقص على الطاولات وأتعلّم اللغات وأعيش قصص الغرام وأحصل على الوشوم
حتى أن شقيقي يقول لي باستمرار: “لم أعرف امرأة في حياتي تتبرّع بقول عمرها بهذه اللهفة”. فعلاً، غالباً ما أشعر بحافز لا إرادي، لا أستطيع مكافحته، لقول عمري لأي شخص جديد ألتقي به، منذ اللحظات الأولى لتعرّفي عليه، وكثيراً ما أتساءل عن السبب. هل لأني حقاً “مرتاحة مع نفسي” الى أبعد الحدود، مثلما قد يوحي سلوكي هذا للوهلة الأولى؟ أليس من الممكن أن تكون هذه اللامبالاة الظاهرية، أو هذا الاستعجال للإقرار، نوعاً من المواجهة المضادة لحتمية تقدّمي في السنّ، أي هروباً تكتيكياً الى الأمام، وبرهاناً دامغاً على عدم تقبّلي ذلك؟ أليس هذا موقفاً هجومياً يشبه، في تطرّفه، الموقف الدفاعي للواتي لا يعترفن بعمرهن، أو يكذبن في شأنه؟ أليس محتملاً أيضاً أني “أتبرّع بعمري”، لكي أستخدم عبارة شقيقي الساخرة، لأني أصطاد – أو أستجدي – إطراءات من صنف: “مش معقول! ما بِـ بيّن أبداً عليكي!” أو تفنيصات من نوع: “العمر رقمٌ ليس إلا”، وذلك بغرض طمأنة عقَدي وتهدئة مخاوفي؟
لكي أكون صادقة مئة في المئة، ألستُ أفعل ذلك الآن وهنا، عبر هذا المقال بالذات؟ على الأرجح بلى، لكني لستُ أكيدة من شيء. لفرط ما يحاول وعيي أن يحلّل لا وعيي، ويحاول لا وعيي أن يفرّ من رقابة وعيي، لا أعود أعرف أحياناً أيّاً منهما “يخدع” الثاني. جلّ ما أعرفه يقيناً هو أن علاقتي مع العمر اللعين، التي لم تكن يوماً قضية بالنسبة لي، أصبحت الآن، وفي شكل متزايد، أمراً يشغل تفكيري بانتظام لجوج وإصرار سمج.
“ما بدي خَتْير”، لا أنفكّ أردد لِمَن حولي، وأحسّ باستمرار أني مغدورة. هذا رغم أني من المحظوظات، إذ أدين لأمّي وجانبها من العائلة بجينات تجعلني أبدو أصغر سنّاً ممّا أنا. فضلاً عن ذلك، ثمة طفلة تتشيطن داخلي ليلاً نهاراً، ومراهقة تتزَعْرن، وعشرينية لا تسعها الدنيا. أملك طاقة تزحزح الجبال، ويسكنني ظمأ عنيد الى الحياة والحب والاكتشاف والاختبار والتعلّم… لكنّي، رغم ذلك كله، أراني أشعر بغصّة وانزعاج، و”مش بالعة” أنني أصبحتُ في الخمسينيات، أي أن الستينيات وراء الكوع، ولم تعد السبعينيات بعيدة، وما يفصلني عن الثمانينيات، يا للهول، أقلّ مما مرّ من عمري حتى الآن.
رغم أني من المحظوظات، إذ أدين لأمّي وجانبها من العائلة بجينات تجعلني أبدو أصغر سنّاً ممّا أنا. فضلاً عن ذلك، ثمة طفلة تتشيطن داخلي ليلاً نهاراً، ومراهقة تتزَعْرن، وعشرينية لا تسعها الدنيا
هكذا لا أفتأ أقاصص نفسي وأستبق الكارثة، رازحةً تحت وطأة دنوّها، بدلاً من أن أعيش اللحظة، لحظة ما تبقّى فيّ من شباب، وهو ليس بقليل. ذلك أن تطبيق نظرية “عيش اللحظة” يتطلّب قدرة خارقة ليست متوافرة فيّ: القدرة على إطفاء ماكينة الدماغ السادية.
من الصعب أن نعيش أي لحظة عندما يكون هناك صوتٌ مهيب في رأسنا يردّد على مسامعنا أن ما بين يدينا لن يدوم، وأنه “يزمط” منّا مثل الرمل بين الأصابع. صوتٌ يقول: “لا، جمانة، ليس العمر رقماً فحسب، وليس صحيحاً أننا نحن الذين نقرّر سنّنا. أيضاً: لسنا جميعاً مشروع جينيفر لوبيز. إنهم يضحكون عليكِ يا عزيزتي”.
سامحيني يا منى
ها أنا قد تحوّلتُ إذن، على غفلة منّي، وصرتُ أحد أفظع كوابيسي. مرّة من أصل اثنين أحدّق في المرآة، أشدّ جلد وجنتَيّ صعوداً وأفكّر: “تباً”. لكن الأمر لا يتوقّف هنا، بل ثمة ما يزيد الطين – طين التقدّم في العمر، وطين الانزعاج من التقدّم في العمر – بلّة، وهو إحساسي العميق بالخزي جرّاء ذلك. فأنا مخجولة للغاية من نفسي لأني مهمومة بسبب هذا الموضوع، وأعلّق كل هذه الأهمية عليه، خائنة بذلك قناعاتي واقتناعاتي ومبادئي.
ألستُ أردّد بمناسبة وبلا مناسبة، أني امرأة نسوية، قوية، واعية، وأني أثق جداً بنفسي، وأحبّ نفسي هذه، على حسناتها وعللها؟ فكيف لامرأة نسوية قوية واعية واثقة تحبّ نفسها، أن تقلق وتنهمّ جرّاء مسألة تافهة كالتقدّم في السن؟ يا لزيفي إذن، ويا لنفاقي.
في هذا السياق، وقعت أمامي منذ بضعة أسابيع تغريدة لكاتبة وصحافية نسوية سويسرية أحبّها وأتابعها، اسمها منى شوليه. أما التغريدة المذكورة، فعبارة عن لقطات لعناوين مقابلات صحافية مع ممثلات مشهورات في منتصف العمر (بالمناسبة، الخمسينيات ليست “منتصف العمر” بل ثلثاه في أحسن الأحوال). وكانت تلك العناوين تركّز حصراً على علاقة هؤلاء النساء مع سنّهن: هكذا نقرأ في عنوان حوارٍ مع جوليان مور، على سبيل المثال، أنها تبحث عن “كيفية تقبّل عمرها بدل مقاومته”؛ وفي عنوان آخر، أن ليتيسيا كاستا “قلقة من فكرة التقدم في السنّ”. أرفقتْ شوليه هذه اللقطات بتعليقٍ ينتقد تركيز الإعلام على أعمار الممثلات المذكورات بدل إنجازاتهنّ، ويستهجن اختصاره المرأة، كالعادة، بشكلها ومدى جاذبيتها.
سامحيني يا منى شوليه، لعلي أسامح نفسي. لكني أرفض أن أكذب عليك وعلى ذاتي وعلى أي كان: أنا، بكل بساطة، لا أستطيع ألا أكترث. تالياً ومجدّداً وعلى صحّة السلامة: “تباً”.
بلا نبيذ بلا بلوط
ولكن، هل مسألة التقدّم في العمر “تافهة” وثانوية حقاً؟ صحيحٌ أننا نركّز، أوّل ما نركّز، عندما نشرع التفكير في الشيخوخة، على تداعي “الخارج” المزعج والبغيض والملموس والجلي بالعين المجرّدة، ولكن هناك أيضاً، وخصوصاً، التداعيين الصحي والفكري اللذين سوف يجريان في “الداخل”، وهما الأشد خطورة والأكثر بعثاً على القلق والحنق والحسرة. تالياً، ليت القصة قصة تجاعيد فحسب: إذ هناك وهن العضلات، ووجع المفاصل، وتراجع الذاكرة، وفقدان السمع، وضعف القدرة على التركيز، وسواها من علامات التقوّض و”الهرهرة”، بحسب تعبير أبي الذي لا يني يقول لي: “هرهرنا يا بنتي”.
كل يقظة، كل نهوض من السرير، إعلان حرب: حرب على ما يفتّتنا ويدمّرنا ويحطّم أرواحنا يومياً.
كل هذا سيحدث لنا لا محالة في الحد الأدنى، إذا لم يحدث ما هو أسوأ. فهل من السهل تقبّل فكرة وقوع هذه التداعيات فينا، مهما كنّا مدركين أن لا مفرّ منها وأنها ستطرأ شئنا أم أبينا؟ كلا، ليس الأمر سهلاً البتة، والدليل أننا لا نفكّر بهذه التداعيات إلا عندما تصبح وشيكة. تعلّقنا الباطني المفرط بالشباب، الذي هو منتج ثانوي لغريزة البقاء المتجذرة في طبيعتنا وتكويننا، يخدعنا ويماكرنا ويجعلنا نتوهّم أن هذا الشباب سيدوم الى ما لا نهاية… حتى يقع “المحظور” وما يتعذّر إلغاءه أو تغيير اتجاهه عكسياً.
ما زلتُ أذكر المرّة الأولى حين شاهدتُ “الحالة المحيّرة لبنجامين باتن” (2008) و”عصر أدالين” (2015). هذان الفيلمان البديعان، اللذان يعالج كلٌّ منهما معضلة التقدّم بالعمر على طريقته، سحراني وجعلاني أحلم بالمستحيل: كم يكون رائعاً لو كنّا، نحن البشر، نولد مسنّين و”نُشَبْشِب” مع مرور الزمن، مثل بنجامين؟ كم يكون أكثر روعة لو كنّا نثبت على عمر الثلاثين مثل أدالين، ولا نتقدّم في السنّ البتّة؟
أعرف أن الفيلمين المذكورين يبرهنان في آخر المطاف أن الأمر ليس بالحلاوة التي يبدو عليها للوهلة الأولى (بنجامين وأدالين يخسران الكثير من الأحبّة على مرّ حياتهما بسبب وضعيهما الفريدين) لكنّ مرارة النهايتين لم تقنعني. لو خُيّرتُ سأختار أن أكون بنجامين أو أدالين (أدالين خصوصاً) بلا تردّد. ولكن، هيهات.
جميعنا يريد محاربة الزمن. الكمية المهولة من الأبحاث الجارية باضطراد حول العالم بهدف عكس تأثيرات هذا الزمن أو وقفها، وإطالة مرحلة الشباب، لهي خير برهان على ذلك. ليس السبب الخوف من الموت، كما يتوهّم كثر، بل هو الخوف من الانهيار بعد الحيوية، والتدهور بعد الألق، و”التبهدل” بعد الغواية، والخَرَف بعد الوعي، والتثاقل بعد النشاط، والمرض بعد الصحة. إنه خوفٌ إنساني بامتياز: صحيحٌ أني أتحدّث عنه اليوم من وجهة نظري كامرأة، لكنه ليس حكراً على النساء، بل غالبية الرجال يشعرون به أيضاً، وإن بحدّة أقلّ.
بسبب ذلك هناك ظواهر مثل “أزمة منتصف العمر” و”جهلة الخمسين”. بسبب ذلك هناك تمارين لتنشيط الدماغ وحبوب لإبطاء الشيخوخة وعمليات لشد الوجه. إنه خوفٌ طبيعي، ولكن هناك قمعاً هائلاً يمارَس بازدياد، في عصر فلسفة الزن والـ self-love هذا، على اللواتي والذين يجرؤون على التعبير عنه بطريقة أو بأخرى. إنه خوفٌ إنساني طبيعي، أكرّر، ومن غير المنطقي إغفاله أو رفضه أو إنكار وجوده بحجّة “ضرورة تقبّل الذات”؛ ومن غير العادل تخجيل الناس من الاعتراف به لأن “النسوية الحقيقية لا تبالي بذلك” و”الرجل الحقيقي لا تهمّه هذه الأمور”؛ ومن غير المستحَبّ، خصوصاً، تضليل الآخرين وأنفسنا بعبارات من مثل “المرأة كالنبيذ الجيد” و”الشيبة هيبة”. بلا نبيذ، بلا هيبة، بلا بلوط: التقدّم في العمر شغلة مقيتة، نقطة.
تحوّلتُ إذن، وصرتُ أحد أفظع كوابيسي. مرّة من أصل اثنين أحدّق في المرآة، أشدّ جلد وجنتَيّ صعوداً وأفكّر: “تباً”. لكن الأمر لا يتوقّف هنا، فأنا مخجولة للغاية من نفسي لأني مهمومة بسبب هذا الموضوع، وأعلّق كل هذه الأهمية عليه، خائنة بذلك قناعاتي ومبادئي
شكراً
في غرفة نومي بوستر كبير (متر ونصف متر بخمسة وسبعين سنتيمتراً) للصبّوحة، هو من فيلم “معبد الحب”، وفيه تظهر صباح بكامل سطوعها وفي عزّ جمالها وشبابها (صوّرتْ هذا الفيلم عندما كانت في الثالثة والثلاثين من العمر).
لطالما كانت الصبّوحة أيقونة من أيقوناتي، ولطالما عشقتُ فيها ولهها بالحياة وانغماسها فيها حتى اللحظة الأخيرة، بلا كثير اهتمام لما يُقال عنها. لا أعرف ما إذا كانت صباح امرأة نسوية بالتعريف التقليدي أو “الرسمي” للكلمة، لكنها عاشت حياة نسوية بالتأكيد، من حيث ممارستها لحريتها ولا مبالاتها بالأحكام، في منطقة ذكورية تحاسِب بلا رحمة كل امرأة تخرج “عن الزيح”. في المقابل، وبسبب طبعها “العيّيش”، ليس سرّاً أنها كانت تحارب الشيخوخة بكل ما أوتيت من أدوات (بالغرام وبالمبضع على السواء)، ومثلها الممثلة الأميركية جاين فوندا، التي أُحبّها كثيراً هي الأخرى.
الفرق الكبير، الجوهري، بين صباح وفوندا، أن مجتمع الأولى، أي مجتمعنا، كان يهزأ بها – سرّاً أو بتحبّب، لكنّه يظل هزءاً – بسبب أسلوب حياتها (لأنها تزوجت، مثلاً، تسع مرات، وكانت تحرص دائماً على أن تكون أنيقة وجميلة حتى بعدما تقدّمت في العمر)، بينما مجتمع الثانية يكبّرها ويقدّرها للأسباب نفسها. ليس من السهل أبداً على امرأة ثمانينية أن تصرّ على الظهور بأبهى حلّة؛ أن تحتمل تسريحات الشعر اليومية وجلسات الماكياج الطويلة وقياس الفساتين المنهك والأحذية ذات الكعب العالي، بينما كلّ ذرة في كيانها ترجوها أن تتمدّد في سرير وتستقيل من الحياة.
هل تتخيّلون حجم القوة المعنوية قبل الجسدية، التي تتطلبها مقاومة نداء غريزي كهذا؟ مثابرةٌ على الحياة كهذه المثابرة هي عمل بطولي، بلا مبالغة. لأجل ذلك، كلما التقيتُ في أحد شوارع بيروت بسيدة مسنّة تتهادى بكياسة ورشاقة، مع أقراطها وجزدانها وحمرة شفاهها، أبتسم وأقول لها في سرّي: “شكراً”.
إعلان حرب
أعلم ماذا يفكّر البعض منكم: أن هذه الأمور، أو مجرّد التأمّل فيها، بمثابة ترف للكثير من الناس الذين يكافحون في سبيل الحد الأدنى من متطلبات العيش. فكيف يمكن أن نطلب مثلاً من امرأة تمعسها الحياة، أو معستها وخِلصتْ، أن تهتم بشكلها، ليس في السبعين أو الثمانين، بل حتى في الأربعين والخمسين؟
أعرف أني لن أكفّ عن الرقص، ولا عن القهقهة، ولا عن الكتابة، ولا عن الحلم… ولا عن الوقوع في الحب.
وأنتم، طبعاً، على حقّ. نعم إنه ترف: الهجس بالعمر ترف، ومكافحة الشيخوخة ترف، والتأنّق ترف. ليست ترفاً من حيث القدرة المادية بالضرورة، إذ يمكن ترتيب الذات حتى بقدرات مادية محدودة، إذا ما كانت الرغبة موجودة. لكنها ترف، تحديداً، من حيث إمكان وجود هذه الرغبة والظروف الراعية لها. إنها رغبة هشّة، فانية، ركيكة، “واقفة على صوص ونقطة”، تقضي عليها بيسر وسرعة رياحُ التعب، وتفاصيلُ العيش اليومية، والصراعات النفسية التي تعتمل في كل واحد منّا. ليس أهون من الاستسلام والقول: “خلص!”.
ولكن في هذا المعنى، أليس الحب أيضاً ترفاً، والأمل ترفاً، وحتى الإصرار على الحياة ترفاً؟ بلى. فكل يقظة، كل نهوض من السرير، إعلان حرب: حرب على ما يفتّتنا ويدمّرنا ويحطّم أرواحنا يومياً. حربٌ على اليأس، على القرف، على الإعياء، على الأوجاع والجروح والخيبات. حربٌ على الأنذال والكاذبين والكارهين والسلبيين والأشرار. فعلاً، كل نهوض من السرير إعلان حرب: قد لا يؤدي بالضرورة الى انتصارات، ولكن لنا الفضل، على الأقل، في أننا نقاتل ونواجه ونقاوم. وهذا في ذاته إنجاز في عالم مسعور وظالم وعبثي كهذا العالم.
كنتُ كتبتُ، في مقال سابق، أني أعيش تحت وطأة إرهاب الرشاقة، فأقيس وزني كل صباح وأصاب بـ ميني-اكتئاب إذا اكتشفتُ أنه زاد قليلاً. قالت لي أخيراً إحدى صديقاتي، بعدما طفح كيلها من وطأة الريجيمات: “أتطلّع بفارغ الصبر الى أن أصير في السبعينيات من عمري كي أرتدي عباءة وآكل ما اشتهي بلا شعور بالذنب”. عندما سمعتُها تقول ذلك، فكّرتُ للحظة: “يا للخطة المحكمة والاحتمال المعزّي”، ثم تداركتُ وتذكّرتُ أن سبعينياتي ليست بعيدة الى هذه الدرجة – كلها عشرون سنة سوف تمرّ، إذا مرّت، بلمح البصر كسابقاتها – ولستُ أكيدة من كوني قادرة، نفسياً، على الاستسلام بهذه الطريقة لمزاجي بلا “ريغلاج” و”دوزاج”، والتخلي عن سيطرتي على نفسي وشكلي، حتى في تلك السنّ.
صديقة أخرى، غالية، قالت لي منذ أيام، إذ كنا نتحدث عن العلاقات والغراميات: “كيف إلكْ جَلَد بعد؟”. ابتسمتُ في لحظتها ولم أعلّق، لكن جملتها تلك، التي كان فيها شيء من الاستعلاء – كأني بها تقول لي إنها تخطّت “هذه الأمور” وصارت وراءها، كما لو أن العشق “ولدنة” وقلة نضج…
جملتها تلك، أقول، ظلت ترنّ وتونّ في ذهني. فكّرتُ: “جَلَد على ماذا، تحديداً؟ جلد على الشعور الجارف بالشغف الذي يذكّرني، وحده، بأني على قيد الحياة، والذي أتمنى ألا تخلو منه حياتي يوماً مهما كان، أحياناً، صعباً ومؤلماً؟ ام جلد على أن اكون معشوقة إنسان ومحط اهتمامه ومركز عالمه، وأن أتدلل وأتغنّج وأعي مرّة جديدة أني أستحق الحب؟ فكّرتُ أيضاً: أيهما أصعب؟ أن أحِبّ وأحَبّ، أم أن أعتبر أن الحب “صار ورائي”؟ الجواب، جوابي، على ما أعتقد، واضح لكم.
أذكر أني، لأربعة عشر عاماً خلت، قرأتُ في أحد الأيام مقالاً لمدّعي صحافة يهجوني فيه بوصفه لي بـ”العجوز المتصابية”. يومذاك ابتسمتُ فقط، ولم يثر فيّ هذا الكلام أي ردّ فعل أو شعور بالانزعاج، لأني كنتُ في الثامنة والثلاثين من العمر، ولا تنطبق عليّ هذه المقولة، لا من قريب ولا من بعيد. لكني، اليوم، أحدس بها تتحضّر فيّ، تلك المتصابية العجوز، وأشعر بها تتهيّأ لكي تولد منّي بعد عقد أو اثنين بالكثير. أراها تضع أقراطها وحمرة شفاهها وتحمل جزدانها و”تتغندر” في شوارع بيروت، حالمةً بقصة الحب المقبلة التي ستجرفها جرفاً.
فليكن: عجوز، ومتصابية، وصبية، وعلى راس السطح!
“لنحلّ عن سما” بعضنا بعضاً
في الحديث عن الجلَد، لطالما كنتُ “جهلانة” – كما يسمّون في بلداننا المرأة التي تهتم، في ما تهتمّ، بمظهرها وأناقتها – أحبّ عالم “الفاشن” والأزياء وأحرص على الاعتناء ببشرتي وشعري وجسمي وأظفاري ونظافتي الشخصية، وهذه الاهتمامات هي من تأثيرات والدتي المباشرة عليّ. إذ بينما كان أبي يجلب لي الكتب يومياً، ويمضي معظم وقته في البيت وهو يطالع، ما جعلني منذ صِغَري قارئة نهمة تلتهم الروايات والدواوين التهاماً؛ كانت أمّي بالمقابل (وما زالت) سيدة أنيقة، بهيّة، تلفت الأنظار أينما حلّت، وتعتني بأدق تفاصيل مظهرها. وكانت تخيط لنفسها ولي ملابس حلوة في كل مناسبة، حتى لا أشعر بعقدة نقص أمام رفيقاتي لأن وضعنا المادي التعيس لم يكن يسمح بشراء آخر صيحات الموضة.
الهجس بالعمر ترف، ومكافحة الشيخوخة ترف، والتأنّق ترف، تحديداً، من حيث إمكان وجود هذه الرغبة والظروف الراعية لها. إنها رغبة هشّة، فانية، ركيكة، “واقفة على صوص ونقطة”، تقضي عليها بيسر وسرعة رياحُ التعب، وتفاصيلُ العيش اليومية، والصراعات النفسية
“بنتِك كتير مفنطزة”، كانت إحدى الجارات تقول لوالدتي، كلما صادفناها على الدرج، تعليقاً على ملابسي، فيسارع والدي إلى “تصحيح المسار”: “إنها الأولى على صفّها في المدرسة!”. قطبان كانا يتجاذبانني طوال طفولتي ومراهقتي، من دون أن أشعر يوماً أنهما متضادان، بل كنتُ أعتبر الواحد منهما مكمّلاً للآخر. هكذا كبرتُ وأنا أولي، بطريقة شبه فطرية، أهميةً متناغمة للمضمون والقالب، وأوازن بينهما، ولا أؤمن بالصورة النمطية – الذكورية بالمناسبة – التي تُفتي بأن المرأة المثقفة والذكية والعميقة “منكوشة” الشعر وغير مرتبة في الشكل حكماً، وبأنها لا تعبأ بهيئتها، لأن “ليس لديها وقت لمثل هذه التفاهات كونها مأخوذة بالتفكير”، وبأن البلهاء الفارغة السطحية وحدها هي التي تحفل بهذه الأمور.
شخصياً، وبسبب تربيتي وطبيعتي على السواء، لطالما حاولتُ التوفيق بين المسألتين، أي الاهتمام بالخارج وتغذية الداخل، ورفضتُ أي فصل بينهما. هناك فقط تفصيل واحد في هذا المجال، ليس تفصيلاً على الأرجح، أعترف بأنه يشكّل قاعدة مقدّسة بالنسبة لي: إذ بينما أعتبر أن كل امرأة حرّة تماماً في أن تقرّر ما إذا كانت تريد أم لا تسريح شعرها وتنسيق ثيابها واللحاق بركب الموضة وسواها من الأمور المشابهة، وبألا دخل لأحد إطلاقاً في كيفية تعاطيها مع هذه المسائل الشخصية جداً، لا أعتبر في المقابل بأن تثقيف نفسها أمر اختياري، بل هو واجب ومسؤولية، وإجباري تماماً.
إنني ديكتاتورية وحاسمة ومتطرفة على هذا المستوى، لأني أعرف كيف يمكن الثقافة والمعرفة والقراءة والعِلم والأدب أن تغيّر حياة إنسان بشكل جذري، وكم أن كل امرأة، خصوصاً في منطقتنا، بحاجة الى هذه الأدوات لكي تعرف قيمة نفسها وتواجه من يستقوي أو يتذاكى عليها، ويحاول إقناعها بأنها كائن “درجة ثانية”، ولكي تنجو من تربية بطريركية مشينة لا تني تعاملها كديكور، وتنظر إليها كشيء، وتجعلها تنظر هي الى نفسها كمخلوق موجود حصراً لخدمة الذكر وإرضاء حاجاته وإنجاب أولاده وغسل كلساته وتعبئة بطنه وتفريغ شهوته.
في مقابل معاناتي من الحكم الذكوري أعلاه، القائم على ثنائية “كوني جميلة واسكتي، أو كوني فهيمة وأهملي شكلكِ”، لطالما حاول نوع معيّن من النسويات تخجيلي، والتشكيك في نسويتي و”تخويني”، لأني أهتم بمظهري، بناء على منطق أن المرأة تتحمّر وتتبوْدر وتتهندم حصراً من أجل الرجل: تالياً لا ينبغي للنسوية الحقيقية، “الأصلية”، أن تحفل بمظهرهاـ لأنها لا تعير نظرة الرجل إليها أي أهمية.
في بداياتي، حاولتُ جاهدة أن أفسّر وجهة نظري، وأن أشرح لهؤلاء النسويات كم أنا واثقة من أني سوف أرتّب شعري وأضع الكريم المضاد للتجاعيد وألوّن أظفاري وأقف أمام المرآة وأقلق بسبب وزني وأشتم السيلوليت على فخذيّ، حتى لو وجدتُ نفسي فجأة على جزيرة كل سكانها نساء وليس فيها رجل واحد، وأنني أقوم بهذه الأمور بدافع ذاتي لا بتأثيرات خارجية، وأن القضية قضية ذوق شخصي الخ… ولكن، بلا جدوى.
كان هناك إصرار على أن دماغي مغسول، وأني إذا كنتُ أهجس بهذه الأشياء، فلأني ثمرة تربية بطريركية تضع المرأة دائماً وحصراً في موقع المنظور إليها لا الناظرة. عبثاً حاولتُ أن أشرح لهنّ أن لديَّ الوعي الكافي والصرامة الفكرية اللازمة كي أسائل نفسي بشجاعة وجرأة أدبية حول ذلك، وأكتشف ما إذا كنتُ فعلاً محض رد فعل وحصيلة تأثيرات، أم صاحبة قرار حرّ… أيضاً من دون جدوى.
في آخر المطاف، قررتُ أن خوض مثل هذه النقاشات نشاط بلا أي فائدة، وهدر للوقت والطاقة والأعصاب، وأنها، هذه النقاشات، بمثابة جدل بيزنطي صاف. قررتُ أيضاً أن أفكّر أن هؤلاء النسويات قد يكنّ على حق، وأن دماغي قد يكون مغسولاً فعلاً، مثلما قد لا يكنّ على حق، ولكن في الحالين ليس الأمر مهماً. المهم هو حقي في أن أكون في كل لحظة مثلما أريد أن أكون في تلك اللحظة، بمعزل عن مثل هذه الأحكام وبلا حاجة الى أي تبريرات. ولهنّ في المقابل الحقّ في أن يكنّ مثلما يردن، أيضاً بلا أي تبريرات. المطلوب فقط عدم توجيه أصابع الاتهام بسبب ميول أو ممارسات من هذا النوع. فما رأيكنّ أن “نحلّ عن سما” بعضنا بعضاً نحن النسويات، ونترك لكلّ واحدة أن تقرّر كيف تريد أن تكون؟
شعائر الغواية وطقوس الافتراس
سؤالٌ صعبٌ ولكن ضروري عند هذه النقطة، إذا كنتُ أتوخّى الحقيقة والعدالة كما أعلن: ما الفرق بين اقتناع بعض النسويات، كما ذكرتُ في ما سبق، بأن هاجس الاعتناء بالشكل هو نتيجة قولبة ذكورية، واقتناعي أنا، على سبيل المثل، بأن ارتداء الحجاب هو نتيجة قولبة ذكورية؟
أعرف أن عطشي لن يرتوي، وجوعي لن يشبع، وناري لن تخمد. أعرف أني سأظل “جهلانة” و”عييشة” و”مفنطزة”، ألعن تجاعيدي في المرآة وأضع أحمر الشفاه وألبس على الموضة، بقدر ما سأظلّ متلهّفةً للمعرفة والتعلّم ومدمنة قراءة وفن وسفر
في الحقيقة، وهذه المرّة الأولى أقول ذلك، ليس هناك فرق: كلانا مذنب، وأيضاً كلانا على حقّ. تماماً مثلما تصحّ حجتي بأن الأديان التوحيدية بطريركية في جوهرها، وترى المرأة كضلع وأكسسوار وكائن ثانوي، وأن الحجاب أداة تغييب وتمييز؛ كذلك تصحّ حجتهنّ بأن ثقافة الاستهلاك بطريركية، وعالم الإعلان والإعلام بطريركي، وانهواس المرأة بشكلها ليس بريئاً وعفوياً، بل هو مفتعل وخبيث، وهدفه دفعها للشراء والشراء سعياً وراء صورة مثالية وهمية، والى الإرضاء والإرضاء على حساب سعادتها وراحتها.
اعترافٌ شاقٌ ثان: صحيح أني “ناظرة”، لكني أيضاً منظور إليّ، وذلك بإرادتي وبلا اعتراض أو تأفف منّي. صحيحٌ أني صيادة، لكني أيضاً طريدة تتلمّظ كونها طريدة، وتتمتّع بطقوس قنصها وافتراسها. أي، لأكون أكثر مباشرة: تهمني علامات الإعجاب. تهمني شعائر الغواية. يهمني الإحساس بأني جذابة وجميلة ومُلفتة، ليس فقط في عين نفسي، بل في أعين الآخرين أيضاً، الرجال منهم خصوصاً. أثّمن الإطراءات على مظهري بقدر ما أثّمن تعبيرات التقدير حيال كتبي أو أفكاري أو ثقافتي. إذا كان ذلك يجعلني إنسانة مقولبة، حسناً، أنا إذن، للأسف، إنسانة مقولبة: ألف مرّة إنسانة مقولبة ولكن صادقة وواعية وشغوفة، ولا مرّة واحدة إنسانة غير مقولبة ولكن منافقة، أو واهمة، أو فاترة.
(استطرادٌ خاطف: من منّا، أصلاً، يستطيع أن يدّعي أنه ليس مقولباً، بشكل أو بآخر؟ حتى التمرّد على القولبة هو، في معنى ما، قولبة. واستيعاب القولبة هو، في معنى ما، خيار. نحن، أو بعضنا على الأصحّ، نتوخّى الحرية ونصبو إليها، لكننا نعرف أنها رحلة مستمرة بلا نقطة وصول، وأنها تحدّ أكثر منها تحققاً).
لا أزعم أن ليس هناك نساء متصالحات مع أنفسهنّ، ومنعتقات من الرغبة في إثارة الإعجاب، حدّ أنهنّ لا يكترثن البتة لنظرات الآخرين: طبعاً هؤلاء موجودات. هل أحسدهنّ؟ ليس بالضرورة. أولاً، لأن الحسد يفترض اقتناعي بأني أستطيع أن أكون مثلهنّ، وأشكّ عميقاً في ذلك. ولكن ليست القضية قضية قدرة فحسب، بل أيضاً قضية غاية. أي أنني، ثانياً وخصوصاً، لا أظنني أنشد هذه الدرجة المتطرّفة من اللامبالاة ومن الانسلاخ عمّا وعمّن حولي، مهما بدت هذه اللامبالاة وهذا الانسلاخ مريحين أو جديرين بالثناء.
يكفيني مَجْداً أني متحرّرة – غالباً وليس دائماً – من أحكام الآخرين على حياتي وآرائي وكتاباتي. فلأكن “جهلانة” إذن، وأهتمّ بشكلي وأهجس بعمري وأحرص على جاذبيتي. لتكن لي فسحة الأسر “الجسدية” هذه، التي أقبلها طوعاً بقدر ما أنا راضخة لها رضوخاً إجبارياً، كي تذكّرني أننا، نحن البشر، مهما سعينا وادّعينا وتكابرنا، موجودون في قفص، بل في أقفاص بأنواع وأشكال وهيئات مختلفة… جميعنا بلا استثناء.
للعلم، ليس كلامي هذا محاولة تبرير أو طلب إذن أو التماس سماح أو نُشدان رضا أو تغطية نقيصة… فقط. هو كلّ ما سبق، بطبيعة الحال، فضلاً عن شيء آخر، أساسي، لا يني يصنعني بلا هوادة: حاجتي الملحّة، الحارقة، المتطرّفة (والمرضية؟) لتعرية نفسي واستكشافها وكشفها. لأجل ذلك سأظل أؤثر الشفافية المُحرِجة على الغشّ المُجمِّل والفوتوشوب المعنوي، وهذا رهاني في الكتابة والحياة على السواء.
لن تخمد
ختاماً، أعرف أن لا مفرّ من المحتوم، وأني، مهما فعلتُ و”شِلتُ وحطّيتُ وزبّطتُ”، سوف “أُخَتْيِر” لا محالة في أحد الأيام (للمرّة الأخيرة: “تباً”!). أعرف أني سأصير “تيتا” قريباً، وأني سوف أحبّ تلك الحفيدة أو ذاك الحفيد بشكل جنوني. لكني أعرف أيضاً، قبل ذلك وبعده وأثناءه ومعه، أن عطشي لن يرتوي، وجوعي لن يشبع، وناري لن تخمد. أعرف أني سأظل “جهلانة” و”عييشة” و”مفنطزة”، ألعن تجاعيدي في المرآة وأضع أحمر الشفاه وألبس على الموضة، بقدر ما سأظلّ متلهّفةً للمعرفة والتعلّم ومدمنة قراءة وفن وسفر. أعرف كذلك أني لن أكفّ عن الرقص، ولا عن القهقهة، ولا عن الكتابة، ولا عن الحلم…
ولا، خصوصاً وأولاً وأخيراً، عن الوقوع في الحب.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22