هيا حلاو / جيم
هاجرت الفنانة هيا حلاو وعائلتها من سوريا منذ سنوات طويلة إلى الأردن، حيث مكثت فترة إلى حين هجرتها مرّة ثانية إلى ألمانيا. رافق هذه الانتقالات القسرية تغيّرات مناخية وبيئية. اليوم تجلس حلاو إلى طاولة عملها في هامبورغ وتتأمّل في هذه التبدلات وتأثيراتها الجندرية.
كل يوم، وفي كلّ اتصال، تسألني ماما: “كيف الجوّ بألمانيا؟” أجيب: “اليوم برد، بس ما في مطر”.
وفي كلّ مرّة، تردّ بالإجابة ذاتها: “والله ما في مطر بعمّان وكتير شوب”. نتساءل سويّةً عن تغيّر الطقس الملحوظ في خلال السنوات الأخيرة. تتحسّر: “يا الله! كيف بدنا نعيش إذا ما في مَيّ؟ عم يقطعوا المَيّ كتير بعمّان”.
ذلك غيضٌ من فيض ما هو آتٍ، وهو أكثر ما يُثير القلق. فبَعد هجرتي وعائلتي من سوريا – ناهيك عن آلاف الآخرين – إلى البلدان الشقيقة، أصبح كثيرون وكثيراتٌ في مخيّمات اللجوء تحت رحمة الكوارث الطبيعية من عواصف ثلجيةٍ عاتية، وفيضانات، وموجات حرٍّ وغيرها من العوامل الضاغطة والمصيريّة. كما أصبحَت هذه العوامل أشدّ وطأةً على النساء والفتيات اللواتي كنّ وما زلن الحلقة الأضعف في مواجهة هذه الأزمات، إذ تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أنّ 80٪ من المشرّدين بسبب تغيّر المناخ هنّ من النساء، ما يجعلهنّ أكثر عرضةً للعنف، ولاسيّما العنف الجنسي.
وتشرح مفوّضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت: “بينما تنام النساء، أو يغتسلن، أو يستحمِمن أو يبدّلن الملابس في المآوي أو الخيام أو المخيّمات، يتحوّل خطر تعرّضهن للعنف الجنسيّ إلى واقعٍ مأساويّ في حياتهنّ كمهاجراتٍ أو لاجئات. ويؤدّي الإتجار بالبشر، وزواج الأطفال، والزواج المبكر والقسري، وكلّ ذلك تتحمّله النساء والفتيات المتنقّلات، إلى تضاعف هذا الخطر المُحدق بهنّ”.
في أثناء تحضيري لهذه المادة، اكتشفتُ أنّ فقدان التنوع البيولوجي والتغيّر المتسارع في المناخ، مثل احترار المحيطات، وذوبان الأغطية الجليدية، والجفاف، والفيضانات وحرائق الغابات، يؤثّران سلبًا على المزارِعات والفلّاحات من النساء والفتيات اللواتي يشكّلن أكثر من 40% من القوة العاملة في قطاع الزراعة. وعليه، سيؤدي تدهور الأراضي الزراعية إلى صعوبة وصول هؤلاء النساء للقوت اليومي، وأحيانًا إلى موارد المياه، وبالتالي إلى ازدياد فجوة الأمن الغذائيّ بين الجنسَين، وزيادة معدّلات التشرد والهجرة.
أسأل نفسي: هل سأواجه أيًا من هذه الكوارث؟
من أعزّ ذكرياتي، الأوقاتُ التي كنتُ أقضيها في خلال مراهقتي في قرية أمي، عسيلة، في أثناء مواسم قطاف الزيتون والقمح، وجلساتُ عائلتي حول الحطب والنار والموائد بعد يومٍ طويلٍ في الحقول. لا تزال رائحة الحطب في أنفي. أحنّ إلى قرية أمي، حيث كنتُ أسرق مع أقاربي حبّات اللوز الأخضر والكرز من البساتين صيفًا، ونجلس بالقرب من نبع الماء الذي تتعالى منه أصواتُ الضفادع (جفّ الآن)، ونتفيّأ بظلال شجرة الصّفصاف العملاقة. لا أدري ما حلّ بهذه الحقول والبساتين وشجرة الصّفصاف، لاسيّما بعد سيطرة ميليشياتٍ مسلّحةٍ على القرية وما حولها.
اليوم، أجلس إلى طاولة عملي في هامبورغ، وأراقب التغيّرات المناخية المتعدّدة والطيور المختلفة التي تحطّ بالقرب من نافذتي.
أرى الطبيعة امتدادًا لي. أتأثر بتقلّباتها، أفرح بدفئها وربيعها وأراقب تفاصيلها بدهشةٍ دائمة. أخرج يوميًا إلى الحدائق القريبة من منزلي في هامبورغ، وأنصت بغبطةٍ لسيمفونية الأصوات المحيطة التي تتوالى من كلّ حدبٍ وصوب: رياحٌ تلاعب الأوراق، أشجارٌ تتنفّس الهواء، عصافير تغرّد، مياهٌ تخرّ، أمطارٌ تهطل، وقرقعة خطواتٍ على الثلج…
الطبيعة هي حيث أرتاح من العمل، وحيث أمشي لأطردَ عنّي نوبات الهلع والقلق، وحيث أجد الطمأنينة. كثيرٌ من النساء والفتيات لم يحظَين بتلك التجارب. كنتُ وما زلتُ من المحظوظات. لَم أخسر بيتي عندما ضرب الزلزالُ شمالَ سوريا في شهر شباط الفائت، ولم أمضِ سنواتٍ من دون منزلٍ آمن، ولم أتعرّض لحادثة تحرّشٍ أو عنفٍ جنسي. تعلّمتُ السباحة مع خالي في منزله في القرية، ولم يغمرني مرةً الطوفان. كنتُ وما زلتُ من المحظوظات… لغاية الآن.
_________________________________
ملاحظة: تم إنتاج هذه المادة بالتعاون مع مؤسسة هاينريش بول، مكتب بيروت – الشرق الأوسط. الآراء الواردة هنا تعبر عن رأي المؤلفة، وبالتالي لا تعكس بالضرورة وجهة نظر المؤسسة.