تشكّل المؤسسات الدينية رافدًا أيدولوجيًا مؤثّرًا في حيوات النساء والمجموعات المهمشة. ليس لأهميتها الروحية فحسب، بل بسبب السلطة التي تتمتع بها وتمنح لها من الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة.
يندر أن تكون هذه المؤسسات محايدة فيما يخصّ التعامل مع قضايا المجتمع أو النظام السياسي.
تطلّ هذه المؤسسات دائمًا بآراء وتوجيهات تستهدف الفئات الأكثر هشاشة. فتأمرها بالرضا بالوضع القائم والامتثال للسلطة.
ربما يجادل البعض بأن هذه المؤسسات تختلف باختلاف التيارات، وقد يكون منها من يعارض النظام السياسي. لكنّ القراءة النسوية لتاريخ هذه المؤسسات تعطينا فرصةً في النظر إلى أن تضادها مع النظام السياسي لا يعني خدمتها للنساء.
فرغم اختلاف التيارات والمذاهب هناك تلاقٍ بينها في الانشغال بالسلطة على النساء والمبالغة في توجيه الأوامر لهنّ ومهاجمتهنّ وتبرير اضطهادهنّ.
ربما لا يمكن اختزال الإسهام النسوي في قراءة دور المؤسسات الدينية في ترسيخ الاضطهاد الجندري، إلا أنه من الضروري التذكير دائمًا بالدور الكبير الذي خاطرت من خلاله عدة نسويات في المنطقة الإسلامية من أجل تفكيك دور المؤسسات الدينية في اضطهاد النساء.
مثل النقد الواضح للتشريعات الدينية الذي قامت به الراحلة نوال السعداوي، التي تعتبر من أكثر الأصوات النسوية تحديًا للمؤسسات الدينية. فساهمت بكشف العنف الرمزي الذي قام به رجال الدين من مختلف المذاهب والتيارات ضد النساء وسلامتهنّ والتي كانت هي نفسها ضحيةً له.
وقد خاضت نوال، كما هو مؤرَّخٌ بشكلٍ كبير في الأدبيات النسوية، وهي أكثر المعارك صعوبة مع النظام الأبوي. ووضعت نفسها في مواجهةٍ مباشرة مع المؤسسة الأكثر قدرة على تطبيع العنف والسيطرة على العقول حتى أصبحت العدوة رقم واحد لرجال الدين.
فالتشريعات والقوانين التي تسن حول النساء ومصيرهن لطالما اعتُبرت غير قابلةٍ للمساءلة من النساء اللاتي لا يحظين بالشرعية لتولي قراءة وتفسير النصوص الدينية من منظورهن.
كما منعت النساء حتى اليوم من تولي شؤونهن الروحانية. وأولت الأمور التي تخص دينهن للرجال حتى أصبحوا يفتون في أجساد النساء وكل ما يتعلق بهنّ. وإن كانت أكثرها خصوصية، كشؤون الحيض والولادة، فأصبحوا ينظّرون بها أكثر مما يهتمون بالواقع المعيشي لملايين المؤمنين/ات.
النساء أخطر من الجوع والقمع
تظهر المؤسسات الدينية بمظهر المنشغل بشؤون الناس ومصالحهم/ن.
لكنّ عدم استقلالية هذه المؤسسات عن الأنظمة السياسية، وعدم توجيه الدين أو الجانب الروحي للعب دور في الخلاص الاجتماعي للناس أو مواجهة الظلم، ساهم في مظلمةٍ تاريخية للنساء والفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
ومع تطور الوسائل الإعلامية انتشر الدين الدعوي منذ ثمانينات القرن الماضي في السياقات الإسلامية. وهي الفترة التي عرفت انتشارًا كبيرًا للفتاوى والآراء الدينية التي تركز في معظمها على النساء وأجسادهن، وساهمت في تهديد أمنهنّ وسلامتهنّ.
ورغم حساسية وخطورة التحريض ضد أمن فئةٍ اجتماعيةٍ ما، من مؤسسةٍ تنال شرعية لا يمكن المساس بها، كهيئة العلماء أو ممثلين عن مؤسسات أو تيارات رسمية، كانت النساء ولا يزلن عرضة لهذا الخطر من قبل رجال الدين. خطرٌ لا يختلف فيه العنف المباشر عن العنف الرمزي.
وخلال العقود الماضية كان موضوع الفتاوى الموجهة للنساء يستحوذ على النقاش العام، ويطغى على المواضيع الحياتية مثل نقص الخدمات الأساسية.
وقد شكّل الدين الدعوي الذي ساد عبر شاشات التلفزيون الشكل الأوضح لهذا العنف. حيث ظهر كمساحة لتمرير الوصاية على النساء والانشغال بتفاصيل حيواتهن كأنها المشكلة الأبرز للمجتمعات.
خلال هذه الفترة انتشرت الأوامر للنساء بتغطية أنفسهن وتحميلهن وزر الجوع والقمع السياسي. ما أدى للوصول إلى أعلى نسبة للنقاب والحجاب في مختلف المجتمعات الإسلامية.
شنت هذه البرامج حملات على تعليم الفتيات وعمل النساء، وساهمت في نشر مزيدٍ من القمع على حركتهن.
كما أدّت إلى فتح مساحةٍ عمومية أكبر للاعتداء على النساء. سواءٌ تعلق ذلك بالعنف الجسدي أو الجنسي، أو فرض مزيد من القيود عليهن. ومهاجمة كل امرأة تظهر على الفضاء العام.
وكانت هذه البرامج والمؤسسات الدينية التي تمثلها غطاءً للأنظمة القائمة لنشر القمع والفساد والنهب الاقتصادي.
فشكّلت مجالًا خصباً للتجهيل السياسي وقمع الوعي الطبقي، واعتبار ألّا معركة للمجتمعات سوى معركتها ضد أجساد النساء والفتيات وحيواتهن.
المؤسسات الدينية وصناعة الخوف كتجارة
ازدهرت البرامج الدعوية وضخّت على أصحابها أرصدة مالية واجتماعية ضخمة. أصبح الوعظ تجارة رابحة لخلطه بين حاجة الأفراد للإرشاد الروحي وانتشار الخوف والاضطرابات وانعدام المساعدة النفسية والاجتماعية.
كان استغلال الخوف عاملًا مهمًا في استهداف الفئات التي تتعرض للقمع بشكلٍ أكبر بسبب هويتها الاجتماعية كالنساء.
حرصت المؤسسات الدينية على زجّ النساء في النسبة الأكبر من إنتاجاتها وخطابها. ليس من أجل منفعةٍ عامة يمكن أن تضمن لهن القليل من الأمن أو الحقوق التي انتزعت منهن لقرون، بل من أجل استغلال وضعيتهن ومحاولة الاستثمار في رضوخهن.
كان ولا يزال نشر الخوف بين النساء الوسيلة الذكورية الأنجع للسيطرة عليهن وإنتاج مجتمعات ترضى بالظلم والاضطهاد.
شكل الخوف إذًا تجارة مدرّة للربح على رجال الدين باختلاف تياراتهم. وذلك من خلال الوعيد بالعذاب للنساء ولومهن على مصائب المجتمع وفشل الدولة.
فما أكثر الأوقات التي عاشت فيها الكثيرات منا الرعب والألم بسبب هذه الخطابات. واعتبار أن الاعتداء الجنسي الذي نتعرض له نحن السبب فيه. وأن رغبتنا في ارتداء ما نشاء تسبب الفتنة وتأتي بالمصائب وتنشر الأوبئة والحروب والجوع.
بين التحريض على العنف وتبريره.. أمن وحيوات النساء بخطر
لا تنشغل معظم النسويات بالجانب العقدي للأشخاص، بل يعتبر هذا جانبًا خاصًا جدًا من حياة الأفراد. وعليه لا تدخل في النقاشات اللاهوتية أو إثبات صحة أو خطأ هذه المعتقدات.
إن الجانب الأهم لعملنا وتنظيرنا النسوي ينطلق نحو المؤسسات التي تشرّع العنف ضد النساء وتبرره، سواءً كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية واقتصادية.
لذلك تفكك النسوية دور المؤسسات الدينية مثل دور الإفتاء والمؤسسات التي تمثل المذاهب والتيارات في التحريض على العنف.
وتنتقد النسوية التشريعات الرسمية أو الفتاوى أو التصريحات أو دورها في تشجيع سلوكيات العنف الجسدي والجنسي، مثل “ضرب الزوجة” و الاغتصاب الزوجي. أو الانتصار للظلم وانتهاك حقوق الأمهات ونساء العائلة مثل قضايا الحضانة والنفقة والإرث.
وتحاول النسويات باستمرار دفع هذه المؤسسات للتراجع وضمان سلامة جميع أفراد المجتمع، وتحديدًا النساء، عوضًا عن التحريض المستمر ضدهن. خصوصًا مع الانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي واستعمال عدد من رجال الدين لهذه المنصات لإنتاج خطابات كارهة للنساء.
فقد طالعنا كيف تستخدم مؤسسات دينية رسمية كـ”دار الإفتاء المصرية” و”مؤسسة الأزهر” التدوين على منصات التواصل الاجتماعي، وينشغل العاملين فيها بنشر خطابات ميسوجينية، مثل تبرير ضرب الزوجة واعتبار أنه ليس عنفًا مبرحًا، في تطبيع مستمر للعنف الزوجي.
فبدل نبذ فكرة العنف أساسًا يستمر هؤلاء في اعتبار أنها “حق شرعي للزوج، لكن له ضوابط”.
في نفس السياق تُكثر هذه المؤسسات من الحديث عن “الحق الشرعي للزوج” لتشرعن بذلك الاغتصاب الزوجي بل وحتى العنف المؤدي للقتل والذي يحصد أرواح النساء كل يوم.
من يوقف عدّاد الجرائم؟
هذا التشريع المباشر للعنف، بغض النظر عن وجود النصوص التي يُستمد منها، هو تحريضٌ مباشر على أمن النساء، بل ومشاركة واضحة في جميع الجرائم التي راحت ضحيتها أعداد هائلة من النساء. وليس آخرهن شهيدة الغدر الذكوري آية الشبيني التي قُتلت على يد زوجها تحت ذريعة رفضها اعطاءه “حقوقه الشرعية”.
وبالطبع، لن تخرج أي مؤسسة من هذه المؤسسات التي ساهمت في قتل آية الشبيني لتعتذر من روحها وأرواح ملايين النساء اللواتي قُتلن وبُرر ذلك بـ”الحقوق الشرعية” للزوج. كما لن تدين هذه المؤسسات الاغتصاب الزوجي وتعتبر أنه جريمة وأن الزواج شراكة وليس امتلاك للزوجة.
إن رغبتنا في إيقاف العنف ضد النساء لن تكتمل سوى بالاعتراف بدور الدولة في تشريع العنف وبدور المؤسسات الدينية أيضًا في التحريض عليه وتبريره. وهذا لا ينطلق من ترفٍ فكري بل من واقعنا الذي تهدده هذه المؤسسات كل يوم.
لأجل العدالة لأرواح ملايين النساء اللواتي قُتلن بسبب الحجاب القسري والاغتصاب والعنف الزوجي وتحت ذرائع ما يسمى بـ”الشرف” وأساطير مُلكية النساء،
ولأجل العديدات ممن يعشن في الخوف ولا يمكنهن عيش الجانب الروحاني لمعتقداتهن بسبب الخلط بين الإيمان والخوف،
تقف النسوية صفًّا واحدًا، وصوتًا واحدًا، وكلمةً واحدةً، بوجه إمعان المؤسسات الدينية على التحريض والقمع والتمييز ضد النساء والفتيات.