يحتفل العالم في هذا الأسبوع بـ”اليوم العالمي للمرأة”. القصد المبدئي من هذه المناسبة هو التذكير بالإجحاف اللاحق بالنساء على المستويات القانونية والاقتصادية والسياسية والتربوية والثقافية وسواها، في إطار المنظومة البطريركية التي لا تزال سائدة، مباشرة أو خفية، في جميع الأنحاء تقريباً، وحثّ الجهات المسؤولة على رفع هذا الظلم والسعي إلى إحقاق العدالة.
هذا من حيث المبدأ، لكن المناسبة تحوّلت في التطبيق، ما عدا بعض الاستثناءات، لكرنفال من الطبطبة على الظهر والضحك على الذقون وباقات الورد والعبارات التي من نوع “المرأة أمّي وأختي وحبيبتي”، وهي عبارات تبعث فيّ، وفي كثيرات، شعوراً بالغثيان الفكري لا مثيل له.
وسط كل هذا النفاق و/أو الانحراف عن الهدف الأساسي، ارتأيتُ أن أغتنم هذه الفرصة بالذات، بغية موازنة القوى إذا شئتنّ وشئتم، للحديث عن الرجل والرجولة والاسترجال والمرجلة، وما يلفّ لفّها من مفاهيم، وما يحيط بها من سوء فهم والتباسات وإشكاليات ذات مفاعيل مأسوية غالباً.
ارتباك وضياع
هناك قول شهير للكاتبة ورسّامة الكارتون الأميركية نيكول هولاندر، مفاده: “هل تتخيّلون العالم بلا رجال؟ سيكون عالماً بلا جرائم، ومترعاً بالنساء السمينات السعيدات”.
بمعزل عن موقفي من مضمون هذا الكلام، الذي أجده طريفاً بالطبع، لكنه تعميميّ وغير صحيح، فضلاً عن كونه متحيّزاً جنسياً sexist، أودّ أن أدعوكنّ بدوري (نعم أتوجّه هنا إلى القارئات تحديداً، وإن ليس حصراً) إلى تمرين مشابه: تخيّلن معي عالماً جميع رجاله نسويون. ترى كيف سيكون؟ هل سنحبّ العيش في عالمٍ كهذا، أم ترانا سنضجر ونتململ ونحنّ إلى أيام “سي السيّد”؟
أعي جيداً أن مجرّد طرح سؤال مماثل هو في ذاته، خصوصاً من وجهة نظر بعض النسويات الراديكاليات، كفرٌ وهرطقة واستفزاز. لكني، أولاً، أؤمّن بأحقية طرح كل الأسئلة بلا استثناء، خصوصاً الأسئلة المزعجة والمُضَعْضِعة منها، وحتى بضرورة فعل ذلك بإصرار واستمرار، لمكافحة الركود الفكري ولعدم الوقوع في فخّ المسلّمات، ثانياً، أعترف بأنه لا يضايقني البتة – التعبير ملطَّف – أن أستفزّ بين حين وآخر، فقليل من التحدّي، للآخر كما للذات، ينعش عقل الإنسان.
أودّ أن أدعوكنّ بدوري (نعم أتوجّه هنا إلى القارئات تحديداً، وإن ليس حصراً) إلى تمرين مشابه: تخيّلن معي عالماً جميع رجاله نسويون. ترى كيف سيكون؟ هل سنحبّ العيش في عالمٍ كهذا، أم ترانا سنضجر ونتململ ونحنّ إلى أيام “سي السيّد”؟
ثالثاً وأخيراً، أنا لا أطرح هذا السؤال، اقتناعاً مني بأن نموذج “سي السيّد” هو الرجل “الحقيقي” و”المثالي”، بل جلّ ما أريد فعله هو أن أستدرج نفسي، والقارئات والقرّاء، إلى بعض الأسئلة الاستطرادية، المحيّرة جداً، وبازدياد في عالمنا المعاصر. كيف لا وقد اكتشف هذا العالم، وبات يجاهر، بتنويعات جندرية وجنسية متعددة، تكاد تكون لامتناهية، تتجاوز بأشواط ثنائية الذكر والأنثى، والرجل والمرأة، والمغايَرة والمِثلية الجنسية. تنويعات يشعر حيالها بعض الناس اليوم – ربما الغالبية – بالارتباك، كيلا أقول بالضياع، فيما لا يزال البعض الآخر غير عالمٍ بها حتى، أو غير معرّض لها.
هذه الأسئلة المحيّرة، سوف أختصرها بالمحاور الأربعة الآتية:
ما هي الرجولة، وما الذي يصنع الرجل “الحقيقي”؟ هل لا يزال يصحّ التعميم حول مفهومٍ وانتماءٍ وهويةٍ صرنا مدركين حجم الفوارق الدقيقة التي تنطوي عليها، وكم تختلف بين شخص وآخر؟
مَن هو الرجل “المثالي”؟ مَن قرّر/ يقرّر صفاته ومعاييره وخصائصه؟ هل هو واحد أحد، عالمي عابر للقارات، أم هناك تنويعات منه بحسب البلد والثقافة والخلفية وحتى الذوق الفردي …الخ؟ بمعنى: المثالي لِمَن، وقياساً على ماذا، تحديداً، بما أن المثالية لا يمكن أن تكون مطلقة، بل هي دائماً مرتبطة بمقارنة مع ما/مَن هو أقلّ أو “ناقص”؟
هل من الصحيح الافتراض أن الرجل المثالي “على الورق”، وبالعقل والمنطق، هو نفسه الرجل الأكثر جاذبية بالنسبة إلى غالبية النساء؟ (أخصّ النساء هنا لأني أتحدث في هذا النصّ عن الانجذاب بين المغايرين جنسياً).
هل هناك حقاً مخلوق اسمه “رجل نسوي”، أم هو محض اختراع ثقافي نظري جميل، ابتكرته مخيّلة نساء نسويات، لكنه مستحيل تطبيقياً؟ وإذا كان موجوداً فعلاً، أو جائز الوجود في الحدّ الأدنى، ما هي سماته ومزاياه؟ أي ما الذي يجعله “نسوياً”؟ وهل تنال نسويته من جاذبيته أم تؤججها؟
استفهامات وشكوك واختلاطات، وأيضاً وخصوصاً تشويهات كثيرة تحوم حول هذه التيمات، سوف أحاول إثارتها بقدر الإمكان في هذا المقال، من منطلق خبرتي ورأيي الشخصيين، اللذين، كالعادة، لا يجوز – ولا أريد – تعميمهما: في هذا الموضوع تحديداً، مثلما أدركت، لا إجابات أو حقائق حاسمة. إن أنا سوى إنسانة تتساءل وتفكّر وتسعى معكنّ ومعكم.
مَن هو الرجل “المثالي”؟ مَن قرّر/ يقرّر صفاته ومعاييره وخصائصه؟ هل هو واحد أحد، عالمي عابر للقارات، أم هناك تنويعات منه بحسب البلد والثقافة والخلفية وحتى الذوق الفردي …الخ؟
سرّ الرجولة
فلأبدأ ببعض المعلومات الأولية: كثيراً ما نسمع، أو نستخدم، عبارات من مثل “هذا رجل حقيقي” أو “هكذا يكون الرجال” أو “يا هيك الرجولة يا بلا”. فماذا تعني هذه الجمل بالضبط؟ من هو هذا الرجل “الحقيقي”، وما المقصود بـ”الرجولة”؟ ما الفرق بين أن يكون الإنسان ذكراً (male) ورِجالياً (masculine)؟
قبل الخمسينيات من القرن العشرين، لم يكن هناك إدراك لأي فرق. ظهر التمايز أول ما ظهر مع عالم الجنس جون ماني، الذي تحدّث عام 1955 عن التباين بين الجنس والجندر، كما تحدّث أيضاً عن التوجّه الجنسي، أي أنه أوضح المستويات الثلاثة المنفصلة التي تشكّل هوية الإنسان الجنسية والجندرية: 1- تكويننا البيولوجي والفيزيولوجي (من مثل: أيّ أعضاء تناسلية نملك عند الولادة، كروموسوماتنا، هورموناتنا …الخ) – 2- نوعنا الاجتماعي (أي مجموع السلوكيات والسمات والأدوار التي تُعرف تقليدياً بأنها خاصة بالرجل أو بالمرأة)، وقد يتطابق النوع الاجتماعي مع التكوين البيولوجي والفيزيولوجي وقد لا يتطابق – و3- ميولنا الجنسية (من مثل الانجذاب إلى أشخاص من الجنس نفسه أو من جنس آخر أو الاثنين معاً أو سوى ذلك)، وقد تتطابق الميول الجنسية مع النوع الاجتماعي و/أو الجنس، وقد لا تتطابق. من الجدير القول إن هذه العناصر ليست ثابتة، وقد تتغيّر لدى الإنسان في طور حياته، أي قد يكون المرء منتمياً إلى نوع اجتماعي ما، أو صاحب توجه جنسي معيّن، ويكتشف، في مرحلة لاحقة من حياته، أنه بات ينتمي إلى نوع اجتماعي آخر، أو صاحب توجّه جنسي مختلف.
إنها متاهة من الأطياف، نعم، وهي دائمة التفرّع والتوسّع في زمننا، ويتطلّب الإبحار فيها درجة كبيرة من الوعي، والفضول الصحّي، وانفتاح العقل، وتقبّل الاختلاف. (للعِلم، لا يحول توافر هذه الصفات بالضرورة دون الشعور بالضياع).
ما سبق، هو لمحة سريعة ومبسّطة عن موضوع قد يقتضي الغوص فيه، والإحاطة بجميع جوانبه، مئات المجلدات، لكنّه ليس موضوعنا، أو لعلّه فقط محض مدخل إلى موضوعنا، الذي عنوانه العريض: “الرجولة”.
إذا ما لجأنا إلى اللغة العربية، فسنجد أن الرجل بحسب “لسان العرب” هو “معروف الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة”، أي أن الخلط لا يزال قائماً، لغوياً، بين الجنس البيولوجي والجندر. في لغتنا أيضاً، سوف نجد كلمات مثل “استرجال”، وهي غالباً تُستخدم لانتقاد وتعييب امرأة تعتمد سلوكاً يعتبر تقليدياً خاصاً بالرجال: “استرجلت المرأة أو ترجّلت أي تشبّهت بالرجل”، يقول المعجم، و”لعن الله المترجّلات من النساء”، يقول أحد الأحاديث.
ثم هناك “رَجُلة”، وهي، أيضاً بحسب المعجم، “امرأة تشبه الرجال في الرأي والمعرفة”، علماً أن هذه الكلمة، على عكس “مسترجلة”، مديح وليست ذمّاً – أي أن التشبّه بسلوك الرجل عيب، أما التشبّه بعقل الرجل فارتقاء. ثم هناك “المَرْجلة” بالعامية، وهي تعني الشجاعة والقوة والبسالة: “يتمرجل المرء على أحدهم أي يستقوي عليه”. ولكن، أبعد وأعمق من هذه المفردات وتفسيراتها، ومن أحكام القيمة الذكورية التي بتنا مدركين لها في اللغة والدين والمجتمع وسواها، ما هي الرجولة حقاً وفعلياً؟
في ما مضى، كانت الرجولة مجموعة سمات وسلوكيات وأدوار منسوبة تقليدياً إلى الذكور البيولوجيين، مرتبطة بالقوة البدنية والعضلات المفتولة والبراعة في الصيد وما شابهها من صفات “فحولية”، لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم، ما عدا في بعض الحالات أو البيئات التي لم تخرج بعد معنوياً وفكرياً من الكهف.
تالياً، ما الذي يجعل الرجل رجلاً في عصرنا الراهن؟ هل يمكن الزعم أن المضمون، لا الشكل فحسب، هو في عين الناظِر/ة، وأن الرجولة أصبحت مفهوماً نسبياً مع تغيّر القواعد والأسس والمراجع؟ هل هناك رجولة واحدة أم ينبغي استخدام مصطلح “رجولات “masculinities؟ على سبيل المثل، هل المغنّي الإنكليزي هاري ستايلز، الذي يحب ارتداء الفساتين (وهو ليس مِثلياً جنسياً بالمناسبة، وهذه ملاحظة ضرورية لِمَن يسارع إلى لصق اتيكيتات)، وعالم النفس الكندي جوردان بيترسون، الذي “يؤلّه” الذكورة التقليدية، رجلان من النوع نفسه؟
هل المغنّي الإنكليزي هاري ستايلز، الذي يحب ارتداء الفساتين (وهو ليس مِثلياً جنسياً بالمناسبة، وهذه ملاحظة ضرورية لِمَن يسارع إلى لصق اتيكيتات)، وعالم النفس الكندي جوردان بيترسون، الذي “يؤلّه” الذكورة التقليدية، رجلان من النوع نفسه؟
فلنعد إلى نقطة الانطلاق، أي إلى البيولوجيا. يقول العِلم إن الذكر هو “أحد جنسَيْ الكائنات الحية الذي ينتج حيوانات منوية ويحمل الكروموسوم XY، هذا من حيث التعريف الأبسط للجنس البيولوجي الذكري، لكنّ الجنس البيولوجي، كما ذكرنا ونعلم، لا يعني الجندر، أي أن الجنس البيولوجي الذكري لا يعني الرجولة، فماذا يقول العِلم عن هذه؟ يقول: “الرجولة بنية اجتماعية بحتة وهوية مكتسبة يتم تعلّمها”؛ ويقول عكس ذلك أيضاً: “تشير الأبحاث إلى أن السلوكيات التي تسمّى عادةً ونمطياً رجالية هي ذات طبيعة بيولوجية، من حيث تأثير الهورمونات على التصرّف”.
باختصار، مَن يغوص في التحقيق عن هذا الأمر سيضيع أيضاً في متاهة، لكنها متاهة من نوع آخر: إنها متاهة الفرضيات ونقيضها، بسبب أن مسألة الرجولة والأنوثة ومروحة الاحتمالات القائمة بينهما لا تزال حتى اليوم موضع نقاش وجدال لدى الكثير من العلماء وفي الكثير من مجالات العلوم (علم الأحياء، علم النفس، علم الجهاز العصبي، علم الاجتماع، علم الإنسان، علم الجندر، الخ). ولكلٍّ علمٌ، بل ولكل عالمٍ نظرياته التي يدافع عنها ويحاول إثباتها، والأكثر إرباكاً في الموضوع أن لكل نظرية براهينها الموجودة والمقنعة!
طيّب، والحال هذه، أكرّر: ما الذي يجعل الرجل رجلاً؟ هل هو امتلاك عضو ذكري وهورمونات ذكرية، والتنشئة بناء على تركيبة اجتماعية محدّدة، وامتلاك ميول جنسية مغايِرة، أي تطابق عناصر الهوية الثلاثة وتوافرها معاً وفي آن واحد؟ حسبي أن هذا اختصار سهل ومسطّح، عدا عن كونه مهيناً للرجال المثليين جنسياً، الذين يعتبرون أن مثليتهم لا تنال من رجولتهم، وأنهم ليسوا رجالاً “أقل” من أولئك المغايرين جنسياً.
الحلّ، للتخلّص من “الذكورة المسمومة”، لا يعني بالضرورة الاستغناء عن الأدوار الجندرية التقليدية، بل تليينها وتوسيع آفاقها بحيث لا تكون مطلقة وراديكالية، وتعزيزها بقيم إنسانية تحصّن الرجل المستقبلي ضد النذالة والتمييز والاستقواء والهوموفوبيا والترانسفوبيا
ثم لو كان الأمر مقتصراً على قضيب وهورمونات وتربية وتوجّه جنسي، ماذا، مثلاً، عن الرجال العابرين trans men، أي أولئك الذين ولدوا في أجساد إناث لكنهم- وغالبيتهم منذ الطفولة، قبل مرحلة البلوغ وطفرة الهورمونات- يحسّون أنها، تلك الأجساد، لا تشبههم، وأنهم في الحقيقة صبيان عالقون في قوالب بنات، رغم أنهم، في الأقل أكثريتهم، يتربّون تربية بنات؟
هؤلاء، ما الذي يجعلهم يشعرون أنهم “رجال”، طالما ليس العضو الذكري ولا العامل الهورموني-الكيميائي ولا التربية والظروف؟ ما هي الصفات أو الميول “الفطرية” الموجودة فيهم، التي خلقت فيهم الإدراك بأنهم رجال، طويلاً قبل التحولات التي يخوضها بعضهم من خلال العلاج الهورموني أو العمليات، لكي تصير أجسادهم أجساداً رجالية في الشكل؟ يمكن أن يُهيّأ للمتقصّي، للوهلة الأولى، أن “السرّ”، سرّ الرجولة، بحوزة هؤلاء العابرين في شكل خاص، كونهم عزّلاً من تأثيرات البيولوجيا والفيزيولوجيا والتنشئة وذرائعها، فهل هناك شيء اسمه فطرة جندرية، أو قدرية جندرية، منفصلة عن العوامل الأساسية التي تشكّل معاً هويتنا في هذا المجال، أي، أكرّر، البنية الجسدية (الفرج والقضيب …الخ)، والجينات XX أو XY وما يلازمها أو ينجم عنها من عناصر كيميائية، وطريقة التربية المنمَّطة (الزهري والأزرق، الدمية والمسدّس البلاستيكي، العَروس والقائد، وهلمّ)؟
عندما طرحتُ هذا السؤال على ثلاثة أصدقاء هم رجال عابرون، واحد منهم لبناني واثنان أجنبيان، كانوا قد شعروا بهذا اللاتطابق بين خارجهم وهويتهم منذ الصغر – دون أن يكونوا قد تعرّضوا لتروما أو حادث أو قولبة دفعتهم في هذا الاتجاه، كما هي حال بعض العابرين والعابرات باعترافهم- جاءت أجوبتهم غامضة حتى بالنسبة إليهم. جلّ ما استطاعوا قوله في هذا الشأن هو أنه كان لديهم، منذ طفولتهم، حتى من عمر الرابعة أو الخامسة، ما يشبه “الحدس” بأنهم رجال، وأن إدراكهم لذواتهم، أي تلك العين العليا التي نراقب بها أنفسنا ونقيّمها، أو الإيغو، كانت تعكس لهم صورة فتى لا فتاة.
“كيف كان يترجَم هذا الحدس فعلياً وعملياً؟”، سألتُهم. فكانت الاجوبة كالآتي: التوق إلى الانسلاخ عن أجسادهم و”خلعها” عنهم؛ رفض الألعاب الأنثوية، كالدمى مثلاً؛ كره اللون الزهري والفساتين؛ الرغبة في الركض و”الشيطنة” واللعب مع الصبيان؛ وما هنالك من سلوكيات مشابهة. أي أن إحدى علامات أو أعراض الفطرة الجندرية المختلفة لديهم، كانت التمرّد على، أو النفور من، التنميط الذي ذكرتُه آنفاً. أو، لأكن أكثر دقّة، هم تمرّدوا على تنميط معيّن (سلوكيات البنات) لكنّهم اعتنقوا تنميطاً آخر بدلاً منه (سلوكيات الصبيان). أي كأنّ العابرين هم أيضاً عالقون في “سجن” البنية الاجتماعية: جلّ ما في الأمر أنهم يفضّلون سجناً على آخر.
ولكن، مجدداً، من أين أتى هذا التفضيل، طالما الجسم جسم بنت، والتربية المفروضة عليهم أو الممنوحة لهم تربية بنت، وليست هناك هورمونات أو خلل في الهورمونات يتفاعل داخلهم، ويدفعهم نحو جهة دون أخرى، كونهم لم يكونوا قد اقتربوا بعد من سنّ البلوغ؟ كيف يولد هذا الميل إلى اعتناق جندر دون آخر في الصغر، وخصوصاً إلى جندر هو نقيض ما تفتي به البيولوجيا والكيمياء والتربية على الإنسان؟ أي لغز هو هذا؟
تحضرني هنا قصّة رواها لي غورو (مرشد روحي) برازيلي من السكّان الأصليين، ممّن يؤمنون بالتقمّص، حول مفهومَي الرجولة والأنوثة. هذان، قال لي، هما نتاج الحيوات المعيشة السابقة بقدر ما هما نتاج الحياة الحالية. فإذا كانت هوية الإنسان الجندرية الحالية تتطابق مع هويته في حياته السابقة، فلن يعاني من أي تعقيدات على هذا المستوى، وستكون علاقته مع جسده ورغباته وأناه سلسة. أما إذا كان هناك تعارض بين الاثنتين (أي إذا كان مثلاً امرأة في حياته السابقة وولد الآن رجلاً) فسيعاني حكماً من نزاعات داخلية في مرحلة ما من عمره: فإما تنتصر هويته الجديدة على السابقة ويكمل حياته بها وبناء عليها، أو يحدث العكس، أي تكون هويته السابقة أقوى، وهذا ما يُنتج أفراداً من مجتمع الميم عين، بما يضمّه من مثليين وعابرين وسواهم من غير المعياريين جنسياً وجندرياً.
وينبغي للناس، أضاف الغورو، أن يتعاملوا مع هؤلاء بقدر هائل من الحب والاحتضان، لأنهم سيظلون على صراع ماهياتي مع أنفسهم، مهما تقبّلهم المجتمع وتقبلوا هم ذواتهم واختلافهم. الفطرة الجندرية، بالنسبة له ولقبيلته، هي إذن موروث من حياة سابقة. بمعزل عن أي حكم قيمة حيال معتقد مماثل ومدى كونه قابلاً للتصديق أم لا (على غرار جميع الأديان والمعتقدات)، يمكننا أن نتعلّم منه بعض الدروس القيّمة: أهمية الحبّ، عدم الإقصاء، احتضان الاختلاف، وتقبّل واقع أن هناك أسراراً في هذه الدنيا، سوف تظل على الأرجح أسراراً.
ولكن، هل هي أسرار حقاً، أم حقائق علمية لم تُكتَشف بعد؟ في نظرية ثورية لعالم الفيزياء البريطاني الحائز جائزة نوبل سير روجر بنروز، قد يكون وعينا (وهو لا يزال منطقة غير مستكشفة تماماً في المجال العلمي) مرتبطاً بالميكانيكيا الكمية. تالياً فإن إدراكنا لأنفسنا ليس حسابياً، أي أنه ليس منتجاً ثانوياً من الدمج الحاصل بين القدر الهائل من المعلومات التي يتلقاها دماغنا، وبين مجموع العمليات التي تجري فيه، بل هو مكوِّن يتخطّاها. بناء على هذه النظرية، فإن الفطرة الجندرية المذكورة آنفاً قد تجد يوماً ما تفسيرها في العِلم، وليس فقط في تفسيرات ماورائية.
بمعزل عن أي حكم قيمة حيال معتقد مماثل ومدى كونه قابلاً للتصديق أم لا (على غرار جميع الأديان والمعتقدات)، يمكننا أن نتعلّم منه بعض الدروس القيّمة: أهمية الحبّ، عدم الإقصاء، احتضان الاختلاف، وتقبّل واقع أن هناك أسراراً في هذه الدنيا، سوف تظل على الأرجح أسراراً
القوي أم الحساس؟
فلأنتقل الآن إلى المحور، أو السؤال الثاني: مَن هو الرجل “المثالي”؟ السؤال هنا تحديداً هو عن الصفات المعنوية، المرتبطة بشخصية الإنسان، لا عن الصفات الجسدية. من المنطقي أن نفترض أن مصطلحاً كهذا سوف يشمل حكماً تباينات في الخصائص المرغوبة، وهي تباينات ناتجة من أذواقنا وتفضيلاتنا واختباراتنا وتوقعاتنا الشخصية. ولكن بعدما أجريتُ، لِغَرض هذا المقال، استفتاء لمئة وثلاث وأربعين امرأة مغايِرة جنسياً من معارفي، هنّ من بلدان وأعمار وخلفيات مختلفة (أعرف أن العينة ليست كبيرة ولكن لا بأس بها ويمكن، بقليل من التغاضي والتساهل، اعتبارها مقبولة)، اكتشفتُ أن ليس هناك فروق جذرية، من حيث المبدأ، في البورتريه المعنوي لهذا الرجل المثالي – وكأن هناك “صيغة” نظرية توافق عليها الجميع. لكني اكتشفتُ أيضاً، وفي الوقت نفسه، أن ثمة فروقاً، بل تناقضات، في مكان آخر: تحديداً بين المتخيّل والمعيش، أي على مستوى التطبيق.
فلأوضح: معظم النساء ذكرن الكرم والصدق والوفاء، علماً أن هذه صفات “إنسانية” عامة، مرغوبة في الرجال والنساء على حد سواء، أكثر من كونها محض صفات رجالية (وحصرها بالرجال، في المناسبة، يدلّ على تحيّز جنسي ضدهم، إذ إن هذا التخصيص يفترض أن الرجل وحده هو الذي من واجبه أن ينفق المال، وأن الرجل وحده هو الذي يكذب، وأن الرجل وحده هو الذي يخون). أما في ما يتعلق بالصفات والسلوكيات التي يمكن اعتبارها، ثقافياً واجتماعياً على الأقل، رجالية، فغالبية النساء المستَفتَيات ذهبن عكس التيّار، ورسمن في رجلهنّ المثالي صفات وسلوكيات غير رجالية، نمطياً وتقليدياً. على سبيل المثل، قلن إن الرجل المثالي بالنسبة إليهنّ هو “الحساس الذي هو على تماس دائم مع مشاعره”. أيضاً، العدد الأكبر منهنّ اعتبر أن الرجل المثالي هو ذاك اللطيف، العطوف، المتساهل؛ والذي يرى المرأة كندٍّ له ولا يفرّق في معاملته بين امرأة ورجل؛ والذي لا تفرق معه مَن يبادر، لأنه لا يشعر بالتهديد من امرأة واثقة بنفسها… جميلٌ، أليس كذلك؟ ولكن مهلاً: في الاستفتاء نفسه، وفي القسم المتعلّق بماضيهنّ وتجاربهنّ السابقة، يُظهر الواقع حقيقة مختلفة تماماً. إذ اعترفت هؤلاء النساء أنفسهنّ بأنهنّ اخترن غالباً في حياتهنّ الارتباط برجال أقوياء، حازمين، غير انفعاليين، لا يهزّهم شيء؛ وبأنهنّ أغرمن بأشخاص صارمين وفجّين ومسيطرين؛ وبأنهنّ انجذبن إلى وتعلّقن بـِ نماذج كانوا يتصرّفون كحامين لهنّ (معادلة الفارس على حصان أبيض الذي ينقذ الأميرة الضعيفة)؛ وبأنهنّ أحببن رجالاً كانوا هم المبادرين في العلاقة، وهكذا دواليك.
ملاحظة مهمة: استخدمتْ نسبة 71% من النساء المذكورات أعلاه كلمة “نسوية” لوصف أنفسهنّ، فاقتضت الإشارة.
بعد انتهائي من التدقيق في نتائج استطلاعي، اكتشفتُ أن إحدى الخاصيات التي تكرّرت أيضاً لدى غالبية النساء هي الاحترام، أي معظمهنّ قلن إن الرجل المثالي بالنسبة إليهنّ هو ذاك الذي يحترم المرأة ويقدّرها. اللافت أن قلة قليلة فقط (ثلاث عشرة امرأة) اعتبرن أنه يمكن الرجل المثالي أن يكون قوياً وحنوناً في آن واحد، بحسب الموقف والحالة، أي لم يعلقن في ثنائية الأسود والأبيض.
لا أريد أن أعمّم، لكنّ المسألة مقلقة.
الرجل النسوي موجود حتماً وقطعاً. الرجل النسوي حقيقة بالتأكيد. الرجل النسوي واقع مثبت وليس وهماً ولا خيالاً ولا اختراعاً. ولكن هناك كمّ هائل من الالتباسات تحوم حوله وحول مفهومه
المشكلة، أيضاً، فينا
ثمة فرق هائل إذن بين أن نقرّر، بالعقل والذكاء والوعي، أننا ننجذب إلى نوع معيّن من الرجال، وبين أن نكون غريزياً وفطرياً منجذبات فعلاً إلى هذا النوع أم لا.
لا أتحدّث هنا عن متلازمة ستوكهولم، أي عن النساء اللواتي يتعاطفن أو يتعلقن بِمَن يسيء إليهنّ أو يعنّفهنّ، بل أتحدّث حصراً وتحديداً عن دينامية الانجذاب أو الشرارة بين اثنين. تعالوا، تالياً، نبتعد عن النظريات حول الرجل المثالي، أي الرجل كما نحبّه أن يكون “على الورق”، أو على الأصحّ الرجل كما نظنّ ونتخيّل أننا نحبه أن يكون. سوف يبيّن لنا الواقع “على الأرض” – الذي يمكن استشفافه من التناقضات الموجودة في الاستفتاء الذي أجريتُه، ولكن أيضاً من اعترافات الصديقات والقريبات، ومن المدوّنات على شبكة الإنترنت، ومن البوستات والتعليقات على منصّات التواصل الاجتماعي، ومن أقوال المعالجين النفسيين، وسواها من وسائل استنباط المعلومات – سيُظهر الواقع، أقول، نزعة مربكة، وربما خطيرة ومخيفة. إذ لا تزال نساء كثيرات – أشدّد: كثيرات، لا جميعهنّ – في هذا القرن الحادي والعشرين، ينجذبن بغريزتهن ولاوعيهن وبداهتهن الجنسية الخام – كأن بنوع من البرمجة الداخلية، البيولوجية – إلى الرجل “الجلف”، الخشن، “الفحل”، طبعاً بدرجات مختلفة، وعلى مستويات متنوّعة، لا تصل كلّها إلى مرحلة الانجذاب العنيف، لكنها تجاورها أحياناً إلى حدّ مقلق. أما اللواتي ينفرن من هذا الرجل، فنفورهنّ ناتج غالباً من عقلهنّ ووعيهنّ وحرصهنّ على كرامتهنّ وسلامتهنّ واحترامهنّ لذواتهنّ والقيم التي تربّين عليها، أي أنه نفور عقلاني وثقافي أكثر منه تلقائي و”طبيعي”.
تحضرني هنا نظرية لعالم النفس الحائز جائزة نوبل دانيال كانمان، في كتابه “التفكير، ببطء وبسرعة”، الذي يقول إن نسبة تسعين في المئة من دماغنا تعمل بناء على الحدس والانفعالات (النظام رقم 1، وهو السريع)، وعشرة في المئة فقط يسيّرها المنطق (النظام رقم 2، وهو البطيء)، وإنّ النظامين يتزاحمان لا هوادة للسيطرة على سلوكنا وأفعالنا. ويعتبر كانمان أنّ جزءاً كبيراً من قرارتنا في الحياة، ليس فقط في موضوع العلاقات، بل أيضاً في مجال العمل والصداقات وسواهما، ناتج من النظام الأول، أي من مشاعرنا وحدسنا وانفعالاتنا، لا من المنطق.
لا تزال نساء كثيرات – أشدّد: كثيرات، لا جميعهنّ – في هذا القرن الحادي والعشرين، ينجذبن بغريزتهن ولاوعيهن وبداهتهن الجنسية الخام – كأن بنوع من البرمجة الداخلية، البيولوجية – إلى الرجل “الجلف”، الخشن، “الفحل”، طبعاً بدرجات مختلفة، وعلى مستويات متنوّعة
لستُ أوحي بتاتاً، في ما سبق، أن ما تتفتّق عنه مثلاً “عبقرية” ياسمين عزّ صحيح (ولا أفهم حتى الآن كيف يمكن إفساح المجال أمام هذا القدر من الجهل المعيب على شاشةٍ ما، مهما كان السعي لزيادة عدد المشاهدات عبر إثارة الجدل محموماً). ولكن لنعترف أن عدداً كبيراً منّا نحن النساء المغايرات جنسياً – ولستُ خائفة هنا من التعميم- ينعجب بالرجال الواثقين من أنفسهم، الذين تنضح شخصيتهم بالقوّة المعنوية وروح المبادرة والطاقة الحيوية، ويمنحون الانطباع بأنهم يعرفون ماذا يريدون ويفعلون. في المقابل، لا نشعر – ما عدا بعض الاستثناءات- بأي انجذاب تقريباً حيال الرجل الخجول، المتردّد، الهامد، المتلقي فقط، ذي الحضور الخافت أو المتواري، الذي تنبعث منه طاقة “خائفة” أو حائرة أو عاجزة، مهما كان رائعاً ومبهراً “على الورق”.
وغالباً ما تكون هذه المعادلة قائمة بمعزل عن طباعنا نحن، أي بمعزل عمّا إذا كنّا ذوات شخصيات قوية أو خفِرة، مشاكسة أو مسالمة، مغامِرة أو ورعة، عالية النبرة أو ناعمة، مجابِهة أو متفادية، وهكذا دواليك. لكي أبسّط الفكرة: ليس صحيحاً أن المرأة القوية تريد شريكاً ضعيفاً. تالياً نظرية “المغناطيس” بين الموجب والسالب، بين الشيء وضدّه، ليست هي التفسير الدقيق هنا. أي أن المشكلة أيضاً فينا.
لماذا هي “مشكلة”؟ لأنّ كثراً من هؤلاء الرجال الجذّابين، الأقوياء، الواثقين من أنفسهم، المبادِرين، “الطحّيشين”، قد تربّوا تربية جندرية منمّطة تقليدية، تهدف، عمداً أو من غير قصد، مباشرة أو لاشعورياً، إلى تحويلهم إلى ما يسمّى بـ”رجال ألفا”alpha males أو ما يُعرَف لدينا بِـ “سي السيّد”. ومن سلبيات تربية كهذه أنها تعزّز فيهم احتمال أن يعتمدوا سلوكيات عنفية في أحد الأيام، إذا ما تكاتفت الظروف لتحفيز هذه السلوكيات أو تشجيعها.
يعني كأننا نلعب لعبة روليت روسية، و”حظّنا نصيبنا”: قد يتظهّر العنف أو لا، لكنّ الخطر موجود، نائم في انتظار مَن/ما سيوقظه. أما التربية غير المنمّطة، تلك التي، على سبيل المثل، تقول للفتيان جملاً من نوع “الصبيان يبكون أيضاً” و”ليس ضرورياً أن تكون الأقوى” و”ليست مهمّتك أن تحمي النساء”، فهي على ما يبدو تجرّد الرجال من عامل الجاذبية لديهم.
لماذا هي “مشكلة”؟ لأنّ كثراً من هؤلاء الرجال الجذّابين، الأقوياء، الواثقين من أنفسهم، المبادِرين، “الطحّيشين”، قد تربّوا تربية جندرية منمّطة تقليدية، تهدف، عمداً أو من غير قصد، مباشرة أو لاشعورياً، إلى تحويلهم إلى ما يسمّى بـ”رجال ألفا”alpha males أو ما يُعرَف لدينا بِـ “سي السيّد”
أظهرت مثلاً دراسة أُجْرِيَت سنة 2019 على عينة من النساء الأسوجيات، أي اللواتي هنّ من بلدٍ اعتمد منذ أجيال مقاربة الانعتاق من الأدوار الجندرية المتشددة، أن هؤلاء النساء مرتاحات في حياتهنّ بسبب تقاسم الشركاء معهنّ كل الواجبات، بما فيها تربية الأطفال والاعتناء بهم؛ لكنهنّ في المقلب الآخر اعترفن بأنهنّ غير محفّزات جنسياً، ولا يشعرن بانجذاب جنسي قوي حيال شركائهنّ، وأنهنّ ما زلن يفضّلن الأدوار الجندرية التقليدية.
قد يبدو ما سبق باعثاً على اليأس: هل يعني ذلك أن علينا أن نختار بين القويّ الجذّاب الذي من “المحتمل” أن يصير عنيفاً، أو اللطيف المسالم، لكن غير المثير؟ أي بين الانجذاب الغريزي، أجرؤ أن أقول “الحيواني” (انجذاب النظام رقم 1)، والانجذاب الذي يمليه علينا عقلنا ووعينا ومبادئنا والعدالة (انجذاب النظام رقم 2)؟ هل يمكن تسمية النوع الثاني انجذاباً أصلاً؟ ألا يمكن أن نحصل على الاثنين معاً وفي آن واحد؟
الجواب هو نعم. نعم، هناك في هذه الحياة، ولحسن الحظ، رجال أقوياء وحنونون في الوقت نفسه، حازمون ومحترمون، واثقون وحساسون. هؤلاء هم الذين يستحقون، أقلّه بالنسبة لي، صفة “مثاليين”. ليسوا كثراً (الأوغاد أكثر، للأسف)، لكنهم موجودون، وعددهم قابل للازدياد إذا ما أردنا له أن يزداد. أقول “إذا ما أردنا”، وأعني نحن، أي النساء، لأن لنا دوراً ونفوذاً ومسؤولية كبيرة في ذلك، خصوصاً على مستوى طريقة تربية الأمهات لأولادهنّ الذكور.
مجدّداً، أجريتُ استطلاعاً صغيراً، هذه المرّة مع رجال أعتبرهم، شخصياً، من النوع “المثالي” المذكور أعلاه (أكرّر: لا أزعم بأي شكل من الأشكال أن استطلاعاتي “علمية” ودقيقة وقابلة للتعميم، لكنها عينة ذات دلالات، مهما كانت ضئيلة). فكان أن وجدتُ أن الرجال أصحاب هذه الشخصية والسمات، أي الذين يجمعون مثلاً بين الصلابة والعطف، لم يتربّوا تربية غير منمّطة، متحرّرة من منطق الأدوار الجندرية، بل هم خضعوا لتربية تقليدية، لكنها ترافقت مع معايير أخلاقية عالية جداً.
هل يعني ذلك أن الحلّ، للتخلّص من “الذكورة المسمومة”، لا يعني بالضرورة الاستغناء عن الأدوار الجندرية التقليدية، بل تليينها وتوسيع آفاقها بحيث لا تكون مطلقة وراديكالية إلى هذا الحدّ، وأيضاً وخصوصاً وفي الدرجة الأولى، تعزيزها بقيم إنسانية تحصّن الرجل المستقبلي ضد العنف والبطش والنذالة والتمييز والاستقواء والهوموفوبيا والترانسفوبيا؟ أجرؤ أن أقول نعم، رغم موقفي النقدي جداً من التنميط والكليشيهات، ورغم خطر أن يُظهرني كلام مماثل كإنسانة محافظة. أقول نعم، لأن تربية كهذه قد تكون أساساً متيناً يحمي الرجولة من خطر الذكورية، فضلاً عن استيعابها الأطياف الجندرية الموجودة وعدم سحقها لها، بل على العكس هي تتيح للفتى، إذ لا تقمَع فيه سلوكيات تُعرف تقليدياً بأنها رجالية، أن يستكشف في الآن نفسه الاحتمالات الأخرى القائمة فيه من دون خوف أو إرهاب أو شعور بالعيب.
نعم، هناك في هذه الحياة، ولحسن الحظ، رجال أقوياء وحنونون في الوقت نفسه، حازمون ومحترمون، واثقون وحساسون. هؤلاء هم الذين يستحقون، أقلّه بالنسبة لي، صفة “مثاليين”. ليسوا كثراً (الأوغاد أكثر، للأسف)، لكنهم موجودون، وعددهم قابل للازدياد إذا ما أردنا له أن يزداد
تربية كهذه، ستجنّبنا، ربما، الفوضى القائمة حالياً في جزء من الغرب، نتيجة اعتماد هذا الغرب أسلوب تنشئة يسمّونه “محايداً”، يترك للطفل أن يقرّر جنسه وجندره وميله الجنسي: الإشكالية هنا في كلمة “طفل”. إذ بينما من الطبيعي والبديهي أن يكون الإنسان الراشد، أو في الحدّ الأدنى المراهق الواعي، صاحب القرار في ما يتعلق بهويته الجندرية وتوجهه الجنسي، حسبي أن قراراً كهذا يتطلّب درجة من البصيرة والمعرفة ومساءلة الذات، وعدداً من التجارب أيضاً، ليست متوافرة للأطفال.
أليس من الأفضل، كنقطة انطلاق في الأقل، عدم مكافحة ما قد يُفتي به جنس الأطفال البيولوجي من سلوكيات وميول وصفات نمطية، ولكن في الوقت نفسه، وتدريجاً بحسب أعمارهم، تثقيفهم حول الاحتمالات الجندرية الموجودة وتربيتهم على احترامها– ما يسهّل حكماً استكشافهم لها في الوقت المناسب إذا ما أرادوا ذلك، من دون أحكام قيمة أو خوف، ولكن أيضاً من دون تحريض مفتعل أو برمجة، كأنهم يُدفشون دفشاً إلى الاختلاف؟
هل هناك كائن اسمه “رجل نسوي”، أم هو محض فبركة – ربما لدى البعض عن حسن نية – نتيجة الضغط الثقافي الراهن ضد الذكورية، التي من السهل الخلط بينها وبين الرجولة؟
أليس من الأفضل، أيضاً في الوقت نفسه، غرس قيم المراعاة والتعاطف واللياقة الإنسانية فيهم، كي يتحولوا إلى راشدين رؤوفين وخلوقين، بدلاً من أنذال ذكوريين؟ قد أكون مخطئة، لكن ما أشهده من ضياع وبلبلة في الغرب على هذا المستوى لا يشجّع، ولا يبدو أنه يحلّ المشكلة، بل هو يخلق مشاكل وأزمات هوياتية إضافية غالباً. وهو، فضلاً عن ذلك، يخلق طاقة عدائية فائضة لدى بعض الرجال “التقليديين” أو “المعياريين”، إذ يشعرون أنهم يتعرضون للهجوم أو الإهانة أو الانتهاك أو حتى الإلغاء.
طبعاً، لا أبرّر لهؤلاء، فهذا يدلّ في ما يدلّ على نقص في الوعي والثقة لديهم، لكني أصف التعقيدات الناتجة من هذا التمرّد على التنميط. ليس حلّ التنميط استبداله باللاتنميط، بل الحلّ على الأرجح هو “أنسنة” التنميط ومطّ حدوده وجعله أكثر أخلاقية. أعرف أن كلامي هذا قد لا يكون مستحباً لدى جماعة “الحركة اليقِظة” wokism، لكنّ الواقع هو أن هذه الحركة تتحوّل للأسف في شكل خطير، في بعض فروعها، إلى تيار فاشي قامِع رقيب، يريد أن يمنع حتى التساؤل أو المساءلة أو التفكير في قضايا معيّنة. وهذا يتعارض مع مبدأ الحريات التي يزعم هؤلاء الدفاع عنها، فضلاً عن كونه لا “يمشي” معي. ليس هكذا يكون النضال الحقوقي في رأيي.
ملاحظة لا بدّ منها: عندما أتحدّث عن “التربية المنمّطة التقليدية”، لا أقصد طبعاً التربية التمييزية، التي تضع الصبيان في موقع أعلى وأهمّ من البنات، فتزرع في الذكور حسّ الاستقلالية والقيادة والطموح، بينما تقتل أحلام الإناث وتكرّسهن لخدمة الرجل وإشباع حاجاته. قطعاً لا.
أيضاً وبالدرجة نفسها، لا أقصد التربية المبرمجة، المتنمّرة في بعض الحالات، التي تدفع الطفل دفعاً، خصوصاً الذكر – أحياناً بعنف ورغماً عنه – إلى التماثل مع الأدوار الجندرية التقليدية. بل أقصد التربية التي، بينما تعتمد المساواة قاعدة رئيسية، لا تتنصّل من الاختلافات المحتملة بين الأطفال الذكور والإناث، إذا ما عبّرت هذه الاختلافات – وعندما تعبّر هذه الاختلافات – عن نفسها لدى هؤلاء الأطفال بشكل فطري وعفوي، كما أنها لا تخشاها أو تنكرها أو تمعسها.
لأضرب مثلاً تبسيطياً: إذا شاء فتى ما لعب الروغبي أو الملاكمة، فليس هناك من مبرّر لدفعه بدلاً من ذلك إلى اللعب بالدمى بطريقة مفتعلة، فقط كيلا يتربّى تربية منمّطة. العكس أيضاً صحيح. لكن في المقابل، من الجوهري ألا تجعل هذه التربية من أي اختلافات، مهما كان نوعها وحجمها، ذريعة لاستمرار اللامساواة والظلم والتمييز اللاحقة بالبنات والنساء. مثلما المساواة لا تعني التشابه، كذلك لا تبرّر الاختلافات، إذا وجدت، سيطرة جندر على آخر.
كائن أسطوري أم حقيقي؟
يحملني ما سبق إلى السؤال الرابع والأخير والأساسي لهذا المقال: وسط كل النقاشات النسوية الراهنة، وضغوط الحركة اليقِظة، وتبعات الـ me too movement خصوصاً من حيث تأثيراته الجذرية على سلوكيات الرجال مع النساء -وليست كلها إيجابية برأيي- وسط كل هذه “الثورات” في الغرب خصوصاً، ولكن التي تصل أصداؤها وتأثيراتها إلى بلداننا، في هذا العالم الذي بات مشرّعاّ بعضه على بعض، هل هناك كائن اسمه “رجل نسوي”، أم هو محض فبركة – ربما لدى البعض عن حسن نية – نتيجة الضغط الثقافي الراهن ضد الذكورية، التي من السهل الخلط بينها وبين الرجولة؟ هل هو كذبة أو قناع أو تمثيل، أم واقع أو إمكان؟ هل وُجِد في الماضي، أو هو موجود اليوم، أو يُحتَمَل وجوده في المستقبل، أم تراه من نوع الكائنات الأسطورية المجنّحة التي نقرأ عنها فقط في كتب الأطفال؟
كلّ واحد منّا خليط من الأجناس والهويات والأصوات. حقّ الإنسان في أن يكون نفسه وأن يعبّر عن حقيقته/ حقائقه مقدّس، مهما كانت حقيقته/ حقائقه هذه غير متطابقة مع الاتجاهات السائدة أو التوقعات الجندرية التقليدية، أو ما يطمئننا ويريحنا
التساؤل والتشكيك أعلاه مشروعان. شخصياً، التقيتُ كثيراً في حياتي برجال كانوا يدّعون النسوية، أو بالحدّ الأدنى، إذا لم يستخدموا هذا التعبير بحذافيره (وهو تعبير “ينقّز” كثيرين، رجالاً ونساء على السواء)، كانوا يزعمون أنهم “مناصرون لحقوق المرأة”، ويعتبرونها شريكة مساوية لهم، لا محض أكسسوار أو ديكور. لكنهم، ما إن تلفحهم نار التجربة، سرعان ما يكشفون عن وجههم الذكوري تحت القناع “المودرن” الذي يضعونه، وتتظهّر ازدواجيتهم.
هذا الذي يهدّده نجاحي، ذاك الذي لا يحتمل استقلاليتي، هؤلاء الذين يريدون امتلاكي بأي ثمن، أولئك الذين ينزعجون من أن أفكاري وأفعالي وكتاباتي وأقوالي “جريئة” وأني لا أراعي الأعراف السائدة في مجتمعنا، ناهيك عن الذين يشعرون أنه يحقّ لهم فرض رأيٍ ما – لم أطلبه – حول طريقة لبسي أو أسلوب عيشي. حتى إنني صرتُ أقول لصديقاتي من باب المزاح: “اعتبريه ورقة تيكو تاك: لا تقولي إنك تعرفينه حقاً قبل أن تحكّيه”.
لكن وجود نسخ زائفة و”مغشوشة” لا ينفي وجود الأصل. ومثلما التقيتُ برجال منتحلي صفة “نسوي” أو متطوّر أو منفتح، التقيتُ أيضاً، وأحببتُ وارتبطتُ برجال هم ذروة الأخلاق واللياقة والإيمان بقدرات المرأة وحريتها وبأحقية نضالها من أجل حقوقها.
نعم، الرجل النسوي موجود حتماً وقطعاً. الرجل النسوي حقيقة بالتأكيد. الرجل النسوي واقع مثبت وليس وهماً ولا خيالاً ولا اختراعاً. ولكن هناك كمّ هائل من الالتباسات تحوم حوله وحول مفهومه. كثرٌ، مثلاً، رجالاً ونساء، يخلطون بين الرجل النسوي والرجل الأنثوي (ولأوضح هنا أمراً بديهياً: أنا لا أصدر حكم قيمة على النوع الثاني البتة)، وهذا الربط غير دقيق، لأن الرجل الأنثوي يمكن أن يكون نسوياً، أو ألا يكون نسوياً، والعكس بالعكس. كثرٌ، أيضاً، يصفون النسوي بالمملّ، الباهت، المرتخي، الواهن، الضعيف، أي الفاقد، في المعنى التقليدي، رجولته.
في مقابلة حديثة أجرتها صحيفة الغارديان الإنكليزية مع الممثل الفرنسي فانسان كاسيل، وهو رجل يفيض جاذبية رِجالية، أفاد بأنه “إذا أصبح الرجال أنثويين وقابلين للعطب أكثر من اللزوم، فسنكون أمام مشكلة”. لم تستفزني الجملة ككلّ، بقدر ما استفزّني الجمع بين صفتَي الأنوثة والقابلية للعطب. هل كان كاسيل يقصد، بجملته هذه، الرجال النسويين، أي هل وقع هو الآخر في فخ الخلط بين نسوي وأنثوي؟ لا أعرف. أحكامٌ تعميمية جمّة لا تزال سائدة، وهي، لسوء الحظ، تؤثر حتى على الذين واللواتي من المفترض أن يكونوا أكثر إدراكاً ووعياً وعمقاً.
كنتُ قلتُ في ما سبق إن نساء كثيرات – حتى النسويات منهنّ – لا يزلن على ما يبدو ينجذبن بغريزتهن إلى الرجل “الفحل”، أي إلى النموذج الذي يُعتبر في العادة أنتي – نسوياً، رغم تمجيدهنّ اللفظي والنظري والعقلي لِمن يُعتَبر نسوياً. فكيف يمكن تغيير هذه المعادلة؟
حسبي أن الحلّ يكمن في إدراك حقيقة أولية جداً وواضحة جداً لكنها، حتى اليوم، غير متجلية للغالبية، بسبب الأحكام التعميمية السائدة المذكورة أعلاه. هذه الحقيقة هي أن الرجل النسوي هو، تماماً مثل المرأة النسوية، إنسان يؤمن بالمساواة في الحقوق والفرص والواجبات بين الرجال والنساء، ويسعى لإحقاق هذه المساواة بما أوتي من أدوات.
هو الرجل اللا ذكوري، اللا تمييزي، اللا متسلّط، اللا بطريركي، اللا ظالم، اللا ابتزازي، اللا متحرّش، اللا مغتصب، اللا مُشَيِّئ، اللا مستقوي، اللا مستَحْقِر، بمعزل عمّا إذا كان رِجالياً أو أنثوياً، مغايراً جنسياً أم مثلياً، وسواها من الهويات والأهواء التي لا علاقة لها بقيم المرء الأخلاقية وإنسانيته. لا يعني هذا أن الرجل النسوي “بلا شخصية”، أو “متخاذل” أو “هش” أو “خاضع”. لا يعني أنه “مملّ وباهت ومرتخ وواهن وضعيف وقابل للعطب”. ولا يعني، خصوصاً، أنه ليس “رجلاً”، بل هو، على العكس من ذلك، رجلٌ أكثر من سواه، إذا ما اعتمدنا المعايير التقليدية السائدة، وافترضنا أن علامات الرجولة الحقّة هي صفات مثل الشهامة والمروءة والنبل. ثمة طبعاً من يفترض أن علامة الرجولة الأساسية هي العنف، وهذا اعتقاد خاطئ جداً، بمعزل عن كونه مهيناً وظالماً للرجل.
هو الرجل اللا ذكوري، اللا تمييزي، اللا متسلّط، اللا بطريركي، اللا ظالم، اللا ابتزازي، اللا متحرّش، اللا مغتصب، اللا مُشَيِّئ، اللا مستقوي، اللا مستَحْقِر، بمعزل عمّا إذا كان رِجالياً أو أنثوياً، مغايراً جنسياً أم مثلياً، وسواها من الهويات والأهواء التي لا علاقة لها بقيم المرء الأخلاقية وإنسانيته
ليس صحيحاً أن الرجولة عنيفة، حكماً وبيولوجياً. كثيراً ما نسمع عن دور التستوستيرون في الطاقة العدائية الكامنة لدى الرجال، فكم صحيح هو هذا الأمر؟ هل القضية فعلاً قضية هورمونات (ذكر يعني تستوستيرون يعني عدائية، وأنثى يعني بروجستيرون يعني رقة ورعاية)؟
سأفتح هنا هلالاً سريعاً في ما يتعلّق بمسألة الهورمونات هذه، لكي أرفع بعضاً من غبنٍ تاريخي واقع على الرجال. أظهرت دراسات عديدة أجرتها صروح جادة ومرموقة مثل جامعات هارفرد وزيوريخ ورويال هالواي، ومركز أبحاث علم الغدد في الولايات المتحدة، أن الرابط بين التستوستيرون والعنف والعدائية والجريمة ليس مثبتاً و/أو ليس العامل الوحيد، لا بل أظهرت دراسة منشورة في المجلة العلمية التابعة لأكاديميا العلوم الوطنية الأميركية، أن التستوستيرون يمكن أن يجعل الرجل اجتماعياً أكثر، أي على عكس ما هو مروّج وشائع.
سأعود هنا إلى فانسان كاسيل. بمعزل عن الخطأ الفادح الذي وقع فيه عندما جمع بين الأنوثة والقابلية للعطب، سأجرؤ أن أقول إنه قد يكون على حقّ، أقلّه في الجزء الأول من كلامه. هل المطلوب طمس الفوارق بين الرجال والنساء، أو بين الأنوثة والرجولة؟ أليست هذه الفوارق ضرورية، مهما كانت سطحية وتافهة وشكلانية، وربما مزعجة وموتِّرة أحياناً؟ هل حلّ مشكلة الذكورية هو أن نتجه إلى انسان أندروجيني ينتمي إلى جندر ثالث واحد أحد، مهما كان تكوينه البيولوجي؟
أنا، المرأة النسوية بلا مساومات، المدافعة عن حقّ كل إنسان في أن يكون ما ومَن يريد أن يكون، سوف أجيب بـ “لا” عن هذا السؤال. بل أكثر من ذلك: سأقول، بصراحة، إن هذا الاحتمال يرعبني.
لماذا يرعبني هذا الاحتمال؟ بمعزل عن كوني لا يمكن أن أنجذب جنسياً وعاطفياً إلى رجل “أنثوي” – وأعرف تماماً أن هذا مزاجي وذوقي الخاصان ولا أنوي تعميمهما أو فرضهما بأي شكل من الأشكال – تكمن خطورة ما يحدث، بالنسبة لي، في سوء الفهم العظيم والكارثي لمفهوم النسوية. لم تزعم النسوية يوماً إلغاء التباينات بين النساء والرجال أو محقها، بل تدعو إلى المساواة في الحقوق والفرص والواجبات، وإلى الاحتفاء بالأنوثة كقوة لا تقل أهمية وقدرة وقيمة عن الرجولة. جلّ ما في الأمر أن طريقة تفسيرها المشوّهة تؤدي أحياناً إلى سوء فهم مماثل.
وهذا خطير لمجموعة أسباب سأوردها في ما يأتي:
أولاً: هذا خطير لأنه يسطّح النسوية. النسوية تحترم طبعاً وقطعاً حق كل إنسان في أن يعيش كما يشاء، وأن يعبر عن الهوية الجندرية والتوجه الجنسي اللذين يريدهما ويتماثل معهما، وتالياً، حق الذكور البيولوجيين في أن يتبنوا مظاهر أو سلوكيات هي نمطياً أنثوية. هذه من البديهيات. لكن تعميم هذا الميل والاحتفاء به كأنه هو حصراً دلالة الرجولة المثالية أو النسوية خطير، كونه يؤدي إلى تمييز من نوع آخر، وإلى قولبة وتعليب وحتى غسيل أدمغة، بحيث يصير هذا النوع من الرجال هو المثل الأعلى role model للفتيان، ما يؤدي إلى دفعهم للتشبّه به.
ما الفرق، آنئذ، بين القولبتين، القولبة الذكورية المكروهة، وهذه؟ ثم إذا كان هناك من جندر (أو جنس) ثالث ينبغي لنا الدفاع عنه وحمل لوائه، أليس الأجدى أن يكون هذا الإنسان/ة الإنسانوي/ة (the humane human) ، النبيل/ة، الشهم/ة، العطوف/ة، بمعزل عن توجهه/ا الجنسية، والدور الجندري الذي يتبنّاه أو تتبنّاه، وسواها من الموازين والخيارات والميول الذاتية جداً والمرتبطة بحياة الفرد وحريته الشخصيتين؟
ثانياً: هذا خطير لأنه يخلق رد فعل معاكساً لدى بعض الرجال الذين يشعرون بالتهديد، فيتمسكون بالمظاهر العنفية لذكورتهم، أو يبالغون فيها بصفتها وسيلة دفاعية عن كيانهم ووجودهم. أكرّر، لا أبرّر هنا، لكني أعرض ببساطة النتائج والمفاعيل.
ثالثاً: هذا خطير لأنه يلغي مفعول التجاذب الذي ينتج أحياناً من الثنائيات، ومنها ثنائية الذكر والأنثى. ولأن هذه الثنائية، على مساوئها المحتملة، ضرورية لبعضنا في الحد الأدنى، شئنا أم أبينا، وجميلة ومثيرة لبعضنا الآخر في حدها الأقصى، حتى إذا كانت في بعض أوجهها مفتعلة ومفبركة وملقّنة تلقيناً للإنسان. ولأنها، أيضاً وخصوصاً، ما يستمزجه ويحبّه حتى الآن عدد لا يستهان به من البشر. أليس السعي إلى إلغائها نوعاً من الديكتاتورية، ومحواً استبدادياً لرغبات فئة، بحجة أنها ليست هي الصحيحة؟ من يقرّر ما هو الصحيح؟
خاتمة غير مقنعة
بات ينبغي لي، عند هذه النقطة، أن أقرّر أن أنهي هذا المقال (غير القابل بطبيعته للإنهاء). وأعترف بأنني، إذ أتمّم الكتابة حول هذا الموضوع، والتفكير والتأمل اللذين يترافقان معها، لا أجد نفسي أقلّ ضياعاً وتشويشاً ممّا كنتُ عندما شرعتُ فيها، فسامحوني.
سأكتفي بأن أذكّر، على سبيل الختام، ببضع حقائق جوهرية بالنسبة إليّ: الرجولة لا تعني الذكورية. القوة لا تعني العنف. النبل واللياقة والعطف لا تعني الضعف. الرجل الحقيقي ليس قاسياً وظالماً ومؤذياً ووغداً و”سي السيد”. النسوية والأنوثة مفهومان منفصلان، قد يلتقيان في بعض البشر وقد لا. الرجل النسوي موجود، وهو ليس أنثوياً بالضرورة، وإن قد يكون، وهذا خياره وحقّه. التربية التقليدية (لا التمييزية) التي تترافق مع بثّ معايير أخلاقية وإنسانية عالية، وحرية تفكير ومساءلة، ومع التركيز على الاختلافات والخصوصيات الفردية، لا الجندرية (أي “أنسنة التنميط”)، قد تكون أفضل للطفل من تربية تتجاهل عمداً جنسه البيولوجي وتبعاته، أو تتقصّد تحييدها أو إلغاءها، فتثقل كاهله بمسؤوليات وقرارات مصيرية ليس مستعداً لها.
الرجولة لا تعني الذكورية. القوة لا تعني العنف. النبل واللياقة والعطف لا تعني الضعف. الرجل الحقيقي ليس قاسياً وظالماً ومؤذياً ووغداً و”سي السيد”. النسوية والأنوثة مفهومان منفصلان، قد يلتقيان في بعض البشر وقد لا
الأطفال ليسوا مجهّزين، من حيث الوعي والنضج الفكري والنفسي والجنسي، لخوض متاهة الهويات الجنسية والجندرية، لذا من الأفضل تقبّل الفوارق الهوياتية الفطرية التي قد يعبّرون عنها، بدلاً من محاربتها وقمعها كما لو أنها حكماً سيئة، مع ضرورة زرع مبدأ احترام الاختلاف فيهم. أما إذا هم عبّروا، باكراً، عن ميل جندري أو جنسي معيّن لا يتطابق مع جنسهم البيولوجي، فآنذاك المقاربة الصحيّة واللازمة هي إتاحة المجال أمامهم ليستكشفوا أنفسهم.
الشيطنة المطلقة والحاسمة والمتطرّفة للفوارق “البدائية” بين الرجولة والأنوثة، ليست هي الحلّ، ولا الحلّ، على نقيض هذه الشيطنة، قمع أصحاب الهويات والميول غير النمطية والمختلفة، وكرههم ورفضهم والتمييز ضدهم أو إجبارهم بالقوة على الامتثال لما يُعتبر “معيارياً”. دنيانا – وقلوبنا – تتّسع للجميع: لنتذكّر ذلك.
أخيراً وأولاً وقبل كل شيء: كلّ واحد منّا خليط من الأجناس والهويات والأصوات. حقّ الإنسان في أن يكون نفسه وأن يعبّر عن حقيقته/ حقائقه مقدّس، مهما كانت حقيقته/ حقائقه هذه غير متطابقة مع الاتجاهات السائدة أو التوقعات الجندرية التقليدية، أو ما يطمئننا ويريحنا. ردّ الفعل الوحيد المقبول على الاختلاف ليس البغض، ولا الشتيمة، ولا المسخرة، ولا النبذ، ولا الأذية، ولا الشفقة. إنه الحبّ، ثم الحبّ، ثم المزيد من الحبّ.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22