تأملات في النسوية (2)… هل هناك شيء اسمه “جنس نسوي”؟تأملات في النسوية (2)… هل هناك شيء اسمه “جنس نسوي”؟

جمانة حداد / الـ22

تعرّفتُ إلى الجنس من أحد أبوابه الأكثر صدماً وخطورةً. هذا واقع لا يمكنني شيءٌ حياله، ولستُ أصلاً واثقةً، لو كانت في وسعي العودة إلى الوراء وتغيير الأمر، من أني كنتُ لأغيّره، لأسباب متنوّعة لا مجال -ولا حاجة أيضاً- إلى الخوض فيها الآن، وهنا.

بين مارتين وجوستين

كنتُ يومذاك قارئةً نهمةً في الحادية عشرة من العمر أو أكثر بقليل، تلتهم كل ما يقع بين يديها من كتبٍ التهاماً، حين عثرتُ بالمصادفة على كتاب بعنوان “جوستين”، لأديب فرنسي جهنميّ اسمه الماركي دو ساد. كتابٌ أقلّ ما يمكن أن يقال فيه وعنه إنه مروّع لفتاة في تلك السنّ، بل مروّع لأي إنسان مهما كان عمره، إذا لم يكن مهيّأً ومتوفّزاً و”ملقّحاً” لتلقّيه. تلك الفتاة كانت، إلى ذلك، تتلقّى تربيةً محافظةً للغاية -لنسمِّ تلك التربية “معمل عقد” من الطراز العربي الرفيع- تنأى بها حتى عن التفكير في مثل هذه الأمور، والإتيان على ذكرها، فكم بالأحرى الاستفسار عنها والتجرّؤ على مناقشتها بصوتٍ عالٍ مع أي كان.

كنتُ، في طفولتي، قد أدمنتُ قراءة سلسلةٍ من المجلدات بالفرنسية بعنوان “مارتين”، عن فتاة مهضومة وشقيّة تكتشف الدنيا وتعيش مغامرات متنوّعةً: “مارتين تذهب إلى البحر”، “مارتين تخيّم”، “مارتين في حديقة الحيوانات”، “مارتين تسافر مع والديها”، وهكذا. قصصٌ مسلية، طريفة، ومزيّنة بالكثير من الرسوم الجميلة. لأجل ذلك، عندما قرأتُ اسم “جوستين” على غلاف الكتاب المذكور، في تلك اللحظة-المنعطف، لاح فوراً في ذاكرتي اسم “مارتين”، وخُيّل إليّ أن العمل الذي بين يديّ سيكون من الطراز نفسه، ولكن موجّهاً إلى عمرٍ أكبر، كونه لا يحتوي على رسوم (لحسن الحظ، لم تكن تلك الطبعة تحتوي على رسوم، إذ اكتشفتُ في ما بعد طبعات كثيرةً من “جوستين” تحتوي على رسوم، سأكتفي بالقول إنها “خلاقة”، وأملك اليوم مجموعةً كبيرةً منها). ولكن شتّان، كما اتضح لي منذ الصفحات الأولى، ما بين مارتين وجوستين، بين مغامرات هذه ومغامرات تلك!

حدثت لي الحياة إذاً، ولكن ليس فقط. حدث لي شيء آخر، في غاية الأهمية، في الوقت نفسه: حدثت لي النسوية. وبشدّة، وبعمق، وبشراسة.

كان ذلك الكتاب الصادم، الفاحش، أول احتكاك لي مع مسألة المضاجعة والعلاقات الجنسية. تخيّلوا فداحة الوضع: القفز مرّةً واحدةً وبلا مقدمات أو حتى تلميحات تمهيدية، من حالة اللا معرفة شبه المطلقة -لن أسمّيها براءةً، لا أؤمن بهذه الكلمة- إلى عالم الأورجيات الجماعية بين رجال بالغين (غالبيتهم كهنة)، وطفلات لا حول لهنّ ولا قوّة، مع ما يرافق تلك الحفلات الماجنة، في خيال ساد، الساديّ الخصيب، من إذلال وقهر وتعذيب واغتصاب وأوجاع جسدية ونفسية على أنواعها. كنتُ أرى وأشمّ وألمس وأسمع وأذوق كوكتيلاً من الدموع والدماء والصراخ، والمنيّ يزداد تكثّفاً وحِدّةً من صفحة إلى أخرى، من دون أن يمنحني النصّ الأبوكاليبتي الذي بين يديّ هنيهةً لأتنفّس أو لحظةً لأرتاح أو فاصلاً لأستوعب ما كان موصوفاً أمامي بالكلمات. كلمات فجّة، جلفة، وصاعقة، تكاد تضاهي ما كانت تصوّره خشونةً ووحشيةً وإرهاباً. طبعاً، لا حديث، في خضمّ كل تلك الفظاعات، لا عن حبّ ولا عن إحساس ولا حتى عن رغبة وانجذاب ولا من يحزنون، بل كان كلّه كرنفالاً من الغرائز البهيمية والإجبار المستبد والتخضيع الباطش والأنانية الصرفة والحيوانية الشرسة: عنفٌ خالصٌ أصمّ لا تنفع معه أي محاولات استرحام أو تضرّع أو توسّل من جانب الطفلات-“الذبائح”.

في عالمٍ موازٍ تماماً لهذا العالم -موازٍ إلى حد أن هذين العالمين كانا يستحيل أن يلتقيا آنذاك في عقلي ووجداني- كانت تصلني ذبذبات، لا واعية تارةً، ومباشرةً وحسيةً طوراً، عن معنى الحبّ وطريقة عيشه، من روايات رومنطيقية وأفلام رومنطيقية وأغنيات رومنطيقية حفلت بها طفولتي ومراهقتي. يا عيني على الحبّ! مشاعر جيّاشة وكلمات شاعرية وحنان جارف واهتمام سخي وأشواق صافية. وأيضاً: قبلات ناعمة وعناقات أفلاطونية ويد تلامس الشَّعر برقّة لترفع خصلةً طائشةً عن الخدّ المتورّد خجلاً. يعني سكّر زيادة حتى الغثيان. لا شهوات، لا عري، لا لحم، لا أعضاء تناسلية “في الدقّ”. لا معاناة خصوصاً. لا خبيط ولا خنق ولا إهانة ولا إكراه. الجنس، إذاً، كوكبٌ، والحبّ كوكبٌ آخر، في مجرّة أخرى. تطرّفان تفصلهما هاوية. بلاك أند وايت. هكذا تَكوّنا في مخيلتي، وهكذا تلقّيتُهما وتلقّنتُهما. للعلم، لم يؤدِّ هذا إلى أن أفضّل واحداً على آخر -ويهمنّي هنا أن أعترف بذلك لكي أنصف ذاتي الفتيّة تلك، وشجاعتها وفضولها ووقاحتها، في حين كان يمكن لها بسهولة أن تصاب برهاب الجنس- بل كنتُ أريد الحب وأريد الجنس بالقوّة نفسها، وأتلهف إلى اختبارهما بعطشٍ متساوٍ، برغم هول الثاني مثلما تناهى إليّ، وارتعابي الشديد منه (أو ربما بسبب ذلك). فعلاً، كنتُ تواقةً إلى هذا وذاك، لكنهما كانتا تجربتين مختلفتين ومنفصلتين تماماً في اعتقادي. كنتُ أفكّر: هناك أولئك الذين نحبّ من جهة، وأولئك الذين نضاجع، أو بالأحرى، “على قدّ فهماتي” في تلك الأيام، أولئك الذين يضاجعوننا، من جهة ثانية.

خلصنا بقى!

ثم حدثت الحياة. حدثت الحياة نعم، وشرع الكوكبان، كوكب الجنس وكوكب الحبّ، يتقاربان ويندمجان تدريجاً، ليس كلياً، وليس في كل المرّات، ولكن في عدد لا بأس به منها في الأقل. قصّة وراء قصة وعلاقة وراء أخرى، تدانى الاثنان في مفهومي وتوازنا مع مرور الوقت، ولم يعد الفصل الراديكالي بينهما، أو بين طبيعتيهما، حاسماً مثلما كان في البدايات. في موازاة ذلك، شرعتُ أيضاً أفهم جسدي وخيالي أكثر، وأستوعب متطلباتهما وحاجاتهما ورغباتهما أفضل. هكذا أدركتُ تدريجاً أني لن أتخلّص من تأثيرات الماركي دو ساد المبكّرة، التكوينية، على أهوائي واستيهاماتي الجنسية، وتقبّلتُ ذلك، لا بل تعلّمتُ أن أحبّ هذا الواقع وأقدّره وأستثمره، بعدما قرأتُ أكثر عن الموضوع وثقّفت نفسي فيه. لكل منّا ميوله وتحفيزاته وفانتاسماته، وليس هناك بالضرورة شيء غير طبيعي في هذه الميول والتحفيزات والفانتاسمات، طالما أنها تتفاعل وتتحقق بين شخصين راشدين يدركان تماماً ماذا يريدان ويفعلان، ويعبّران عنه بلا خوف أو ضغوط، ويقومان به بنضج وعن رغبة حقيقية.

من أنا؟ سادو-مازوشيست أو فيمنيست؟ كيف يمكن أن يطلب جسدي ما يرفضه عقلي وكرامتي؟ كيف يُعقل أن تتنافر رغباتي إلى هذا الحد مع عزّة نفسي ونرجسيتي؟ كيف يصحّ أن أقبل وأتمتع في غرفة النوم، بما قد أرتكب جريمةً بسببه في الصالون؟

حدثت لي الحياة إذاً، ولكن ليس فقط. حدث لي شيء آخر، في غاية الأهمية، في الوقت نفسه: حدثت لي النسوية. وبشدّة، وبعمق، وبشراسة. لا بل أدركتُ أني، على غرار نسوياتٍ كثيراتٍ سواي، كنتُ نسويةً حتى قبل أن أكتشف الكلمة والمفهوم والنضال. الغضب والتمرّد عندي، والرغبة في إرساء العدالة، سبقت تسميتها. عرفتُ منذ بدايات الوعي أني أنثى تؤمن بقوتها وقدراتها وطموحاتها ولن تسمح لأحد بالوقوف في وجه أحلامها؛ أنثى سوف تصبو طوال حياتها الى تحقيق استقلاليتها، المادية والمعنوية على حد سواء، كي لا تتيح لأيٍّ كان ابتزازها؛ أنثى ترفض التمييز والتحيّز واللا مساواة؛ ترفض العنف الجسدي والمعنوي والثقافي والاقتصادي الممارس على المرأة؛ ترفض جرائم اللا شرف وتزويج القاصرات ومنظومة الولاية وممارسة الختان وفرض النقاب وأدوات التسليع والحرمان من التعليم وسواها من الارتكابات المهولة في حق الفتيات؛ ترفض كليشيه أن المرأة كائن ثانوي وأكسسوار وضلع؛ ترفض أن يُنظَر إليها كـ”فراشة” هشّة وضعيفة (خلصنا بقى!)؛ ترفض منطق “كوني جميلةً واسكتي”، بل ترفض منطق “اسكتي” كلّه كيفما كان وفي كل الظروف؛ ترفض أن يُتَوقَّع منها أن تخضع وتطيع وتلبي وتضحي وتقول نعم رغماً عنها؛ ترفض أنها كأنْ موجودة لا لشيء سوى لترضي الذكر؛ ترفض أن يكون دورها محصوراً بالزواج والإنجاب والطبخ والنفخ وسواها؛ ترفض واقع أن القوانين تظلمها، والعادات والتقاليد تظلمها، والأديان تظلمها، والسياسات تظلمها، والحروب تظلمها، وحتى البيولوجيا تظلمها، وهلمّ جرّاً.

ترفض كليشيه أن المرأة كائن ثانوي وأكسسوار وضلع؛ ترفض أن يُنظَر إليها كـ”فراشة” هشّة وضعيفة (خلصنا بقى!)

عرفتُ، في اختصار، أني امرأة نسوية يُغضبها انعدام المساواة الفادح في الحقوق والفرص بين الجنسين، والإجحاف الذي مأسسه، ولا يزال، نظامٌ أبويٌّ عالمي عابر للقارات والحضارات والأزمنة، قائمٌ نتيجة حلف تاريخي متين بين عوالم الدين والسياسة والمال. وعرفتُ أيضاً أني، وبالقدر نفسه، امرأة نسوية ترفض أن يُختصَر غضبها هذا، ودفاعها عن كرامتها، بعبارة “أنتِ تكرهين الرجال”. خسئ أيّاً كان أن يُنقِص هكذا من قيمة نضالي ونضال كثيرات، بهذه الدرجة من الاستسهال والتعميم والتبسيط والتتفيه المهينة والخطأ والخبيثة، التي لا تهدف سوى إلى تشويه كفاح محقّ ونبيل وإنساني وراقٍ، بالزعم بأنه، في حقيقة الأمر، ليس سوى “ظلم مضاد”، ومحض رد فعل طفولي وانتقام ساذج. لا وألف لا. هي كراهية الظلم لا كراهية الرجال. كراهية التمييز لا كراهية الرجال. كراهية المعيارين والمكيالين لا كراهية الرجال. كراهية النظام البطريركي (الذي يؤذي الرجال بقدر ما يؤذي النساء)، لا كراهية الرجال. كراهية الاستقواء والاستعلاء والتحقير والتشييء والاستملاك والتحامل لا كراهية الرجال. كراهية “السلبطة” والاستغلال والتذاكي والتعسف والتعنيف والابتزاز لا كراهية الرجال. فمَن لديه، من الأساتذة، مسلّة ممّا سبق تحت إبطه، فلتنعره. وبقسوة. أما الآخرون فأحبّهم، وأحترمهم، وأقدّرهم، وأراعيهم، وأحتضنهم، وأرافقهم على الدرب. هل ثمة ما هو أوضح من ذلك؟

جنس ستاندرد

ما علينا: قلتُ حدثت الحياة وحدثت النسوية. حدث الجنس وحدث الحبّ. حدث الماركي وحدثت سيمون دو بوفوار ومثيلاتها وأمثالها. النتيجة؟ صراع وتمزّق وتخبّط، واصطدام جبّار بيني وبيني، خصوصاً على مستوى هويتي في العلاقات. طويلاً رحتُ أتساءل: من أنا؟ سادو-مازوشيست أو فيمنيست؟ كيف يمكن أن يطلب جسدي ما يرفضه عقلي وكرامتي؟ كيف يُعقل أن تتنافر رغباتي إلى هذا الحد مع عزّة نفسي ونرجسيتي؟ كيف يصحّ أن أقبل وأتمتع في غرفة النوم، بما قد أرتكب جريمةً بسببه في الصالون؟ (أو العكس، إذ إن أقلّ مطرح مؤاتٍ للجنس هو في الحقيقة غرفة النوم). كيف تثيرني كلمات وأفعال، يستحيل أن أسكت عليها في الحياة “العادية”؟ تحليلي آنذاك أدّى إلى اعتقادي بأني حتماً نسوية سيئة وكاذبة و”باطلة”. هكذا نحن النساء: ليس أشطر منا، ولا أسرع، في لوم أنفسنا وجَلدها وتعذيبها لأقلّ الأسباب. تَربَّينا لكي نشعر بالذنب حيال كلّ شاردة وواردة، حتى بات الذنب طبيعتنا الثانية. وما أن نستشعر خللاً ما في حياتنا أو علاقاتنا، نسارع إلى تحميل أنفسنا المسؤولية (هي هي، استعارة التفاحة وخرافة سقوط الإنسان من الجنة. من جعلكِ أصل البلاء يا حواء، وأقنعكِ بذلك؟!).

صراع وتمزّق وتخبّط واصطدام إذاً. الحلّ؟ حاولتُ جاهدةً، في البداية، أن أتماثل جنسياً مع معايير وأذواق لا تتنافر مع نسويتي، وأن أفرض على نفسي ممارسات وسلوكيات تُعدّ “نموذجيةً” و”صحيحةً”، ولكن بلا جدوى. لم يؤدِّ ذلك في الواقع سوى إلى تجارب مخيّبة للغاية، كي لا أقول مؤلمة نفسياً، مثلما في كل مرة كنتُ أتخلى فيها عن حقيقتي في سبيل شيء أعدّه “أسمى” ويستأهل وضع قناع. في المناسبة، لا شيء، على الإطلاق، يستأهل وضع قناع. شخصياً لم ينفع معي، ولا مرّة في حياتي، منطق Fake it till you make it، لا في الجنس، ولا في أي مجال آخر. شيءٌ ما فيّ، كأنه عضويّ وفطري وقدريّ، يأبى التمثيل والتزوير حتى عندما، بل أكاد أقول خصوصاً عندما، قد يصبّ هذان التمثيل والتزوير في مصلحتي. هكذا تعلّمتُ، بعد تسديد أثمان باهظة، درسَ أن أكون نفسي دائماً، “على علّاتي” وشوائبي ونتوءاتي، وما أكثرها، بدل أن أكون نسخةً معدّلةً عني، ملمّعةً ومصقولةً ولكن زائفة ومفبركة ومصطنعة. “ما بتحرز”.

شاركنَ المنشور