سليمان عبدالله/ الـ22
عرضت المخرجة اللبنانية رانية اسطفان في النسخة الرابعة عشرة من مهرجان “الفيلم” العربي في برلين فيلمها الجديد “السهل الممتنع.. عن الحوار مع سمر يزبك”، وهو فيلم حواري مع الكاتبة السورية، من منفاها في باريس، وعما إذا كان بوسع الأدب والسينما صنع الفارق في وجه الحرب.
اسطفان صاحبة مسيرة سينمائية طويلة كمساعدة منتج وصانعة أفلام وثائقية، تعالج عبرها مواضيع سياسية، وتتميز بأسلوب يمزج الواقعية والشاعرية، كان فيلمها الوثائقي الطويل الأول “اختفاءات سعاد حسني الثلاثة” قد نال عدة جوائز دولية.
بعد أن تبدأ اسطفان فيلمها الجديد بعرض مقتطف حابس للأنفاس من كتابة يزبك تقدم فيها أسلوبها في الكتابة وقدرتها على الرسم بالصور، نشاهد مقتطفات من حوارات جرت بينهما على مدار أعوام، تفكر فيها يزبك بصوت عال كما لم يرها قراء نتاجها الأدبي من قبل، حول فقدان نفسها كامرأة، تنبؤها بعدم قدرة السوريين/ات على العودة كأسوياء بعد كل ما شهدوه، عن قدرة الأدب والخيال على حماية الإنسان من بشاعة الواقع، ودور الأديب/ة في تحريك مياه المجتمع الراكدة بكتاباته.
تفكر سمر يزبك بصوت عال كما لم يرها قراء نتاجها الأدبي من قبل، حول فقدان نفسها كامرأة، تنبؤها بعدم قدرة السوريين/ات على العودة كأسوياء بعد كل ما شهدوه، وعن قدرة الأدب على حماية الإنسان من بشاعة الواقع
يتخلل هذه المقتطفات فواصل، تمزج فيها المخرجة عبر تحرير متعدد الطبقات، صور وموسيقى وفيديو ونصوص، تقرب المشاهد/ة من عوالم أعمال يزبك، وخلفيتها كمواطنة في دولة ديكتاتورية، كصورة لبشار الأسد وهو يمشي وسط بحر من الدماء، فيما تكاد صور الجثث والمدن المدمرة تغيب عن الفيلم.
يعرض الفيلم، الفائز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان فيلاميديك، للنحو الذي تشعر فيه يزبك ببوادر الاستقرار في منفاها باريس أخيراً، عندما تكون لديها مكتبة تناظر تلك التي تركتها في سوريا، ولتعاملها مع صحفيين/ات فرنسيين دون أن تسعفها الترجمة في إيصال ما ترغب بقوله.
نرى يزبك وهي غير واثقة من رغبتها في تصوير هذا الفيلم حقاً، والتعامل مع الكاميرا التي ترى أنها تزرع حياتها فوضى.
نراها حالمة تتذكر طفولتها يوم تنبأت لنفسها أن تصبح كاتبة وأيضاً وهي غاضبة من أصحاب رؤية محدودة يرون أنه لا دخل للكتاب بالثورة، “كنا في لحظة أصحاب ضمير وقلنا ما حصل. أيضاً هذا جزء من الجمال”.
مع عجزها لبعض الوقت عن الكتابة الروائية، نراها متأكدة من أنها إن لم تعد للمرأة داخلها التي كانت يوماً ستكون في منفى داخلي، داخل منفى، ستكون غريبة عن كل شيء، ما قد يدفعها للموت.
مع بلوغ استخدام العنف أقصى درجاته في بلدها، تحاول الكاتبة البحث عن جواب حول جدوى الحديث أو الصمت في وجه كل هذه الوحشية والقتل، “ما يحدث لا رد عليه سوى طلقة رصاص في الرأس”.
اسطفان ويزبك تتوقفان في أحد مشاهد الفيلم ملياً عند عرض صور العنف. ترفض يزبك تطبيع عرض جثث السوريين مجادلة بأنها لا تساهم في تحقيق العدالة، لأن “العدالة ألا نعتاد الموت”.
“العدالة ألا نعتاد الموت“. سمر يزبك.
الفيلم لا يقدم أجوبة نهائية على أسئلة كبيرة بحجم مأساة مجتمع سوري أفقدته بنيته المعهودة إلى الأبد ربما، بل يرينا محاولة كاتبة إيجاد دورها كأديبة وكسورية حيال هذا الانفجار السوري العظيم وتبعاته على مدار العقد الماضي. كاتبة تتعامل أمام الكاميرا مع نزاع داخلي حول مسؤوليتها، ترى نفسها في مرحلة ما شاهدة على الحقيقة وتجد في الكلمات والكتابة أسلحتها لمقاومة آلة الحرب، وتجد في أحيان أخرى أن كل ما تكتبه خارج سوريا باهت نسبياً، محاولة معرفة ما إذا كان ينبغي عليها أن تعود للحياة على الهامش التي تحب وتعمل، أم تواصل الانخراط في الشأن العام.
رصيف 22 التقت المخرجة رانيا اسطفان بعد عرض الفيلم، وكان هذا اللقاء.
كيف تطورت العلاقة بينك وبين سمر يزبك واستطعت كسب ثقتها لتصوري المشاهد في أجواء خاصة كهذه؟
التقيت سمر في المرة الأولى عبر قراءة أحد نصوصها وكنت منذهلة للغاية، متسائلة من بوسعه كتابة شيئ كهذا. اكتشفت أنها هي، وبدأت بقراءة مقالاتها وكتبها، ثم التقيتها صدفة عبر أصدقاء مشتركين في باريس في العام 2012 وهكذا كنا نلتقي كلما أذهب إلى باريس. على الفور أثارت شخصيتها اهتمامي، بانخراطها فيما يجري في سوريا، والطريقة المذهلة التي تكتب بها. أقول دوماً لو كنت أكتب بالعربية لتمنيت أن اكتب مثلها. كنت أعيش حينها في بيروت وكنا نتبادل الآراء حول ما يجري في سوريا ولبنان، وفي المنفى وما حولنا. وتم تفويضي بإجراء مقابلة قصيرة معها في 2013، لكن المقابلة كانت قصيرة وبميزانية صغيرة للغاية، وأُرسلت “قيمة” الأسئلة لي. عندما انتهيت من المقابلة قلت لها إنني كصانعة أفلام لبنانية لدي أسئلة أوجهها لها ككاتبة سورية في المنفى، فقالت سمر أنها ككاتبة سورية لديها أسئلة تريد توجيهها لي كمخرجة لبنانية.
“قلت لها إنني كصانعة أفلام لبنانية لدي أسئلة أوجهها لها ككاتبة سورية في المنفى، فقالت سمر أنها ككاتبة سورية لديها أسئلة تريد توجيهها لي كمخرجة لبنانية” رانية اسطفان
وهكذا بدأنا الحديث عبر الفيديو وقررنا تطوير نقاش فيلمي يذهب إلى ما وراء العنف ويخلق مساحة آمنة للحوار والتفكير فيما يحدث. ثم حطمت الأحداث نوعاً ما مشروعنا، لأنها كانت عنيفة للغاية وغيرت حياتنا لذلك لم نستطع البقاء في مزاج تأملي مواكب للأحداث. مع تزايد العنف وتفاقم التراجيديا السورية، لم تعد سمر قادرة على كتابة الرواية، وهو أمر جلل بالنسبة لكاتبة، وكان عملها كناشطة يستهلك معظم وقتها. فتوقف الحديث الفردي بيننا. وبدأت في تتبع أعمالها وجولاتها وحديثها عن عملها ككاتبة عن القضية السورية. وهكذا تحول مسار المشروع. ثم حل كوفيد 19 والإغلاق في العام 2019، فقررت أن أبدأ المونتاج. كانت المواد الفيلمية غير متجانسة من جهة، وكان لدي أيضاً مواد الأرشيف المتعلق بها، التي كنت قد جمعتها عبر سنوات، لذا توجب علي أن أجد شكلاً عابراً لكل هذا الخط الزمني، هذا التنوع، ووجدت أن أكثر الخطوط إثارة للاهتمام سيكون السؤال الذي تطرحه هي في بداية الفيلم، هل بوسع الأدب أن يكون في مستوى التراجيديا، أن يكون قادراً على التعبير عنه بالكلمات. فأصبح السؤال أيضاً عن قدرة السينما على فعل ذلك أم لا. وهذا ما فعلته خلال تحرير الفيلم.
المشهد الافتتاحي للفيلم قاس تصف فيه سمر مشهداً من سجن يُعذب فيه معتقلين، لم وقع اختيارك على هذه الافتتاحية؟
لم يكن القرار واعياً كثيراً. حدث هذا خلال تحرير الفيلم أو المونتاج، فأنا أقوم بتحرير أفلامي. أعتقد أن ذلك رائع، فالتحرير ليس وسيلة قوية فحسب لتكوين فيلم. إنه جميل جداً لأنه يتضمن العمل على اختيار الصور، والأصوات، والموسيقى، والنصوص. قمت بتشكيلهم بطريقة فريدة لصناعة الفيلم، لكن الكثير من الأمور التي يتضمنها التحرير تحدث أيضاً في اللاوعي. ما أردت أن يحدث هو أن يكون المشاهد/ة في علاقة مختلفة مع اللغة العربية. مشاهدتها كصورة جميلة على الشاشة وسماع الكاتبة وهي تقرأ الأدب والإصغاء إلى ما لديها لتقوله عن عملها ككاتبة في المنفى. وهكذا تتبدل علاقة المشاهد مع اللغة في الفيلم باستمرار. أن يسمع ويشاهد ويشعر ويفكر فيما تقوله كاتبة باللغة العربية عن الأدب، ومشاهدة هذه المرأة الذكية الفصيحة والموهوبة تتكلم عن عملها. فهذا النص هو أول نص اكتشفت سمر عبره. فأتى في بداية الفيلم. كان القرار غير واع، لكن أردت من خلاله أن أعبر بالمشاهد/ة إلى اللغة العربية لكي يفهم ماهية الموضوع، وكيف تكتب، إيقاع جملها، والتعرف على كتابتها عبر ثلاث دقائق من النص، حتى قبل مشاهدتها وهي تتحدث.
الكلمات حاضرة في الفيلم، هل صعب تعاملك مع شخصية فصيحة قادرة على التعبير، مهمتك كمخرجة ومن ثم كمحررة للمواد الفيلمية التي خرجت بها من المقابلات، من ناحية اختيار ما تريدين تضمينه في الفيلم، وكذلك المساحة التي ستخصصينها للكلمات وتلك التي تخصصينها للمواد الفيلمية؟
هذا صحيح. الفيلم اسمه “السهل الممتنع” بالعربية و “في حقول الكلمات” بالفرنسية والانكليزية. ساحة المعركة هي الكلمات. الفيلم عن كيفية إيصال الكلمات بصرياً والأصوات ومعاني ما تقوله. ما هو جدير بالإعجاب فيما يخص سمر، هو أنها على عكسي، تتحدث بجمل كاملة حتى في الحياة الاعتيادية ! أحاول في فيلمي ألا أوصل
“اسم الفيلم “السهل الممتنع” بالعربية و “في حقول الكلمات” بالفرنسية والإنجليزية. ساحة المعركة هي الكلمات“. رانية اسطفان
ماهية علاقتها باللغة، بناء الجمل بهذه الفصاحة الأخاذة. أردت أن أعطي المشاهد/ة الوقت ليرى كيف تظهر أفكارها وكيف تكوّن نفسها كشخصية أمام الكاميرا بمختلف الطرق. وبالطبع عندما تصور من العام 2013 حتى العام 2019 يتكون لديك كم كبير من المواد الفيلمية. ترجمت ما يفوق 500 صفحة من المقابلات، بالإضافة للأرشيف.
هل خضتما نقاشاً حول التسامح مع الكتابة وإعمال الخيال في وصف العنف، وعدم التسامح بالمقابل مع مشاهدة الصورة العنيفة؟
خضت هذا الحديث مع سمر في الفيلم. وخضت مثل هذا النقاش لأعوام عندما كنت أعمل مع صناع الأفلام السوريين الشباب، حول ما إذا كان علينا إظهار أو عدم إظهار العنف. في حين كان البعض رافضاً بحدة عرض العنف أو الضحايا أو الجثث، لم أكن دوماً مع هذا الموقف. مع كل ما شاهدت خلال الأعوام العشر الماضية، ما زلت أقول ينبغي التفاوض على كل صورة، لا يمكنك رمي الصورة هكذا. وهنا ينبغي أن نقول أن الصور ذات تأثير أقوى. عندما تقرأ نصاً عنيفاً، يطور الذهن صورة. لكن ليس بوسعك التحكم بكل صورة تكونت في ذهن كل قارئ. وربما تجعل هذه المسافة النص أقل إشكالية. ولا نقول إنه لا ينبغي أن يكتب. لكن الصورة أقوى. أنها مباشرة وماثلة هناك أمامك قوية فهي محط نقاش. لذا أرى أنه ينبغي وضع صور العنف في سياق أو في إطار بحيث يمكن عرضها بطريقة ما. لا أريد استغلالها لغاية تجارية أو لإبرازها كصور مشهديّة. لكن رفضها قطعياً يبدو لي كعقيدة ولا تقنعني. سمر كانت حاسمة أكثر في خيارها. لكن النقاش ما زال مفتوحاً. أنه نقاش أخلاقي يقع في صلب عملنا كصانعي/ات أفلام وثائقية.
جلسة نقاشية بعد عرض فيلم “السهل الممتنع” مع مخرجته رانية اسطفان، خلال مهرجان “الفيلم” في برلين. تصوير سليمان عبدالله
“حصلت تغيرات كثيرة وأتى انفجار مرفأ بيروت وبدأت حرب في قلب أوروبا، في أوكرانيا. يبدو أن الممولين نسوا السوريين. هذا مؤلم” رانية اسطفان.
ما مدى صحة الحديث عن صعوبة الحصول على دعم لفيلم عن سوريا في السنوات الأخيرة؟
لم أحصل على أي تمويل خلال عملي على الفيلم على مدى سنوات الإنتاج. لكن حصل الفيلم على دعم من صندوق آفاق (الصندوق العربي للفن والثقافة)،لإنهاء الفيلم تقنياً في مرحلة ما بعد الإنتاج. بات من الصعب بعد العام 2019 الحصول على تمويل عمل يخص السوريين في لبنان.
حصلت تغيرات كثيرة وأتى انفجار مرفأ بيروت وبدأت حرب في قلب أوروبا، في أوكرانيا. يبدو أن الممولين نسوا السوريين. هذا مؤسف ومؤلم.