تأملاتٌ في النسوية (1)… هل حقاً قضت النسوية على الحب أم هي أمله الوحيد؟

جمانة حداد/ الـ22

تأملاتٌ شخصية في متاهة العلاقات المعاصرة[i]: هل حقاً قضت النسوية على الحب[ii] أم هي أمله الوحيد؟

“يستزيدك في مَن تحبّ ما لا تقبض عليه حواسك. تحبّ ما تفتقده وتثق بأنّك ستعثر عليه في المحبوب. وسرّاً تأمل أن لا تعثر عليه”.
أنسي الحاج

كنتُ أسمعهنّ في صغري، خلال قعداتٍ نسائية تأخذني والدتي إلى بعضٍ منها، كالصبحيّات وجلسات تصفيف الشعر، يتهامسن ويتفوّهن بجمل غريبة عجيبة من مثل: “ميم دال شاطرة، تتقن جعل خطيبها خاتماً في إصبعها”، أو “يا إلهي كم هي محتالة سين باء! تعرف تماماً كيف تركّض الرجال لاهثين وراءها!”، أو “يا حرام على جيم زين شو مجدوبة! انعجقت به فزبلها”…

كنّ في الغالب نساءً غير شابات، ذوات خبرة في الحياة، ينبعث منهنّ قدْر هائل من الثقة بالنفس بلا أي مبرّر موضوعي أو واضح لها، لكنّ الأكيد أنّ هذه الثقة المفرطة كانت تسبغ على كلّ ما يقلنه صفة الإقناع، بل أكاد أقول “النبوءة”. لم أكن في تلك الأيام أفهم ماذا يقصدن وعمّا يتحدثن، لكني كنتُ أشتبه في أنّ هناك لغزاً ما في هذه الدنيا، مهولاً ومهمّاً وصعباً للغاية، متعلّقاً بالرجال، لا يملك جوابه أو مفتاحه إلا النادر من السيدات.

ثم كبرتُ، واستوعبتُ، وعرفتُ ما هو هذا “اللغز” العجيب، وما كان حلَّه في نظرهنّ (ولستُ أعرف هنا ما الأسوأ: اللغز في ذاته، أم حلّه المقترح).

أما اللغز العظيم، فكيفية الإيقاع برجل في حبال العشق، والاحتفاظ به، وجعله متيّماً ومهووساً بالمرأة لأطول وقت ممكن، ومستعداً لتلبية أي طلب من طلباتها، مهما كان هذا الطلب مستعصياً أو مجنوناً أو مُكلفاً مادياً ومعنوياً.

أما الحلّ المضمون فهو، بالنسبة إلى أولئك “الاختصاصيات”، المثابرة على تعذيب الرجل المعنيّ، وعدم إظهار أي مشاعر رضا أو اهتمام حياله، والتأفف به ومنه أمامه، وأيضاً وخصوصاً -واعذروا استعادتي التعبير الدقيق المستخدم في تلك الأحاديث- “التلبيط به” وتربيحه ألف جميلة لأنها، أي المرأة، “تنازلت” ووافقت على منحه نعمة وجودها في حياته!

إذ ما إن وعيتُ وفهمتُها حتى غضبتُ وتمرّدتُ وفكّرتُ: هراء هراء هراء! أنا لن أفعل أياً من هذا في حياتي! إما يحبّني مَن أحبُّه، ويريدني مَن أريده، كما أنا، وأستطيع إظهار حقيقتي ومشاعري كلَّها أمامه، بلا زيف ولا “دوزاج”، وإما… “بلاه”

“عمره ما يرجع”

هل توقّف الأمر عند هذا الحدّ؟ أعني، هل كان تعرّضي لهذا النوع من الأحاديث مقتصراً على تلك الجلسات النسائية الشعبية أيام الطفولة والمراهقة؟ كنتُ لأتمنى ذلك، ولكن للأسف، لا. الحقّ يقال إني سمعتُ هذه النظرية-المأساة بحرفيتها مراراً في حياتي، من أفواه نساء كثيرات أخريات، شابات وغير شابات، مقرّبات ومجهولات، عاملات وربّات بيوت، كما أني صادفتها مكرّرةً، بطريقة أو بأخرى، مباشرةً أو بواسطة تلميحات، في عددٍ ليس بقليل من الروايات والأفلام والمسلسلات والأغنيات… إلى درجة أنه قد يخيّل إلى الواحدة منّا بسهولة، خصوصاً إلى من لا تمارس التساؤل وإعادة النظر، أنها حقيقة ساطعة مطلقة: “تريدينه؟ تجاهليه!”.

لكن تلك النظرية، لسببٍ ما، لم تقنعني. إذ ما إن وعيتُ وفهمتُها حتى غضبتُ وتمرّدتُ وفكّرتُ: هراء هراء هراء! أنا لن أفعل أياً من هذا في حياتي! إما يحبّني مَن أحبُّه، ويريدني مَن أريده، كما أنا، وأستطيع إظهار حقيقتي ومشاعري كلَّها أمامه، بلا زيف ولا “دوزاج”، وإما… “بلاه”.

ذلك كان رد فعلي الأوّلي، وهو رد فعل أدرك تماماً أنه كان يومذاك ناجماً عن كبرياء، وربما عن مثالية رومنطيقية، أكثر منه عن موقف عقلاني جاء بعد طول تحليل لدلالات تلك النظرية. اليوم وقد أصبحتُ في الخمسينات من عمري، وبعد أكثر من ثلاثة عقود من قصص الحب والعلاقات والارتباطات[iii]، ما زلتُ أرى الى هذا الكلام ككومةٍ من التفاهة. ما زلتُ أرفضه تماماً، وبشراسة. ما زلتُ أقول: “تباً له، و”عمرو ما يرجع”، ذاك الرجل الذي يتطلّب حبّه لي، وسجوده أمام قدميّ، أن ألعب معه الألاعيب، وأن أخطط وأتآمر وأنصب المكائد، وأن أضبط أحاسيسي وسلوكي، بدلاً من أن أكون على طبيعتي[iv]“. لكن رفضي هذا لم يعد محض رد فعل غاضب، أو دليل غرور -أو لأكن صادقةً، ليس فقط كذلك- بل نتيجة تفكير مليّ في هذه الممارسة ومدلولاتها، أفضى إلى الحجج الثلاث الآتية:

نظرية “إلحقيني أهرب منكِ، أهربي منّي ألحقكِ” هي مراهِقة للغاية، وسطحية للغاية. هذا لا يلغي واقع أنها شديدة الانتشار مثلما ذكرت، وقد التقيتُ شخصياً، على مرّ السنين، بنساء كثيرات هنّ هكذا، يمارسن الكرّ والفرّ

يرى نيتشه (الذكوري، في المناسبة، في نظر عدد من نقّاده)، أن الحب والطمع شعوران ينبعان من المكان نفسه، في أنهما يستمدان طاقتهما من “الجوع”. لكنّ هذا الجوع في رأيي، لكي يكون فاعلاً أو محرِّضاً أو مُقْنِعاً في حدّه الأدنى، لا يمكن أن يولد مصطنعاً، أي نتيجة تخطيط واشتغال، بل من الضروري أن يكون “طبيعياً”، أكاد أقول بدائياً وبرّيّاً، وإلا فهو ناقص وكاذب و”متخلّف”. للأسف، الغالبية يظلون، على مستوى العلاقات العاطفية، في حالة من “التخلّف العلاقاتي” كما أسمّيها، وذلك لأسباب متشابكة، أبرزها طريقة التربية السائدة، وسلوكيات الأمهات مع أولادهنّ، الإناث والذكور على حدّ سواء[v].

أرفض هذا الكلام، ثانياً، لأني أؤمن، في علاقات الحبّ، بمبدأ “الحب بلا مجهود”، و”الوفاء بلا مجهود”، و”الاستمرار معاً بلا مجهود”. أعلم أني متطرّفة، وأن هذا الشرط يضع حكماً تاريخ صلاحية على تسعة وتسعين في المئة من العلاقات، لكنّ المجهود في نظري يلغي ماهية الحبّ، التي ينبغي لها أن تكون مجبولةً حكماً بالتلقائية، أو الأصح، ولأكن أكثر تطرّفاً، بالقدرية، أي بـ”استحالة عدم الشعور بالحب، واستحالة عدم تمنّي البقاء الى الأبد مع مَن نحبّ”، مهما كانت الظروف. وإذ أقول “بلا مجهود”، لا أعني عدم الاعتناء بالعلاقة، إذ تحتاج كل علاقة الى رعاية وتغذية واهتمام، ولكن أعني أن يكون هذا الاعتناء ناجماً عن رغبة عفوية، صادقة، جارفة، لا عن قرار عقلاني هدفه تفادي خسارة الآخر، مع ما يرافق قراراً كهذا من “تضحيات” ملغومة وتصرّفات مصطنعة وأفعال مقيِّدة، من المحتمل جداً أن تتراكم فتؤدي في لحظةٍ ما إلى انفجار.

ثالثاً وأخيراً وليس آخراً، أرفض هذا الكلام لأنه يحرمني، ويحرمنا، من إحدى أروع تجارب الحياة: أن نُحَبّ كما نحن. أن نُحَبّ لأننا نحن.

في اختصار، هذا الكلام، وما يشابهه من “وصفات” للإيقاع برجل في الحب ولإنجاح العلاقة، ليس سوى بحر من السموم الذكورية التي تُبَثّ في عقول النساء منذ الصغر وتجعل أي تواصل شفاف، عميق، وأصليّ، مهمّةً شبه مستحيلة.

نصائح مفخّخة

قد تتساءلون، البعض منكم معترضين، والبعض الآخر حائرين، لماذا أستخدم كلمة “ذكورية”، بالرغم من أن هذه ممارسات تعتمدها في الغالب النساء، وتنصح بها النساء؟

هذه الممارسات ذكورية نعم، وبامتياز، لأنها ناتجة من “عقدة نقص” لدى المرأة، عقدة هي بدورها ثمرة النظام البطريركي ومعاييره التمييزية. فهي، هذه الممارسات، إذ توحي بالثقة بالنفس والقوّة، وتوهم صاحبتها بأنها دليل سيطرة على النفس، تقدّم في الواقع برهاناً ساطعاً على انعدام ثقة شبه مطلق لدى المرأة التي تمارسها، بنفسها، وباستحقاقها للحب. كيف لا وهي تؤكّد: “لا يمكن أن يحبّكِ إلا إذا تلاعبتِ ودَوْزنتِ وأخفيتِ ومثّلتِ”؟ أي أنها، هذه الممارسات، لاغية نفسها بنفسها. أقسم أنه لو أخذت كل امرأة هنيهةً لتفكّر في ما يقوله عنها -ويقوله لها أولاً وخصوصاً، وهنا الضرر الأكبر- اعتمادُ سلوكيات مماثلة، لدفعتها كرامتها وعزّة نفسها الى الإقلاع عنها، أو في الأقل محاولة الإقلاع عنها، على الفور. لكنّ هذا يعيدنا لا محالة إلى “أصل البلا”: فهل من السهل أن تعي كل امرأة أن جزءاً كبيراً من تصرفاتها هو نتيجة “برمجة ذكورية”؟ هل تتربّى المرأة يا ترى على الثقة بنفسها والإيمان بكرامتها واحترام كيانها وحبّ ذاتها؟ في الكثير من العائلات والمجتمعات والبلدان، لا بل القارّات، لا يزال الجواب، للأسف، حتى يومنا هذا، أن لا. هذا الصوت الرابض في رأسها كوحش، يردّد على مسامعها: “لا تستحقين، لا تستحقين”، هو غالباً محض ترداد لأصوات أهلها، وبيئتها، ومدرّسيها، وثقافتها، وتعاليم ديانتها، وهلمّ…

هذه الممارسات ذكورية نعم، وبامتياز، لأنها ناتجة من “عقدة نقص” لدى المرأة، عقدة هي بدورها ثمرة النظام البطريركي ومعاييره التمييزية.

هكذا نبحر، نحن النساء، في علاقاتنا، ومنذ نعومة أظفارنا، وسط محيط هائج من النصائح والمفاهيم الذكورية حول “كيف يجب أن نكون”، و”كيف ينبغي لنا أن نتصرّف”، و”ماذا يصحّ، أو لا، أن نقول وأن نفكّر إلخ”… نصائح ومفاهيم مفخّخة نتشرّبها منذ الطفولة حتى تصبح طبيعتنا الثانية، وغالباً ما نتعامل مع الآخر-الرجل بناءً عليها بلا إدراك واعٍ منّا. وليست الممارسة التي تحدثت عنها آنفاً (الجذب بالتمنّع)، سوى أحد أمثلة كثيرة على هذه النصائح التي غالباً ما تتناقض في ما بينها. تريدون أمثلةً إضافيةً؟ هاكم:

“كوني مثيرةً بما يكفي لتهيّجي شهوته، ولكن لا تمارسي الجنس معه كي لا يظنّ أنك سهلة أو ساقطة”.

“كوني ناجحةً بما يكفي لتثيري إعجابه، ولكن ليس أكثر نجاحاً منه كي لا تهدّديه”.

“كوني قويةً بما يكفي لكي يشعر بأنه يستطيع الاعتماد عليكِ، ولكن ليس قويةً إلى درجة أن يهاب سيطرتكِ عليه”.

هكذا دواليك. نصائح، في اختصار، تبعث برسالة خطيرة، مدمّرة، للمرأة هي: “لا يمكن أن يحبّكِ إلا إذا كنتِ… سواكِ”. ناهيكم بأنها أيضاً تبعث برسالة مهينة عن الرجل: “هو عاجز عن استيعابكِ كما أنتِ لأنه طفل ضعيف وخائف، لذا عليكِ أن تلطّفي وتليّني وتقللي وتدوّري زواياكِ الناتئة”. طيّب، لماذا قد تريد أي امرأة رجلاً كهذا، وعلاقةً كهذه، في حياتها؟!

طبعاً، أعرف وتعرفون تماماً الجواب عن هذا السؤال: بالنسبة إلى عدد كبير من النساء -مجدداً من دون تعميم- لا يزال خيار الشريك مبنياً، للأسف، لا على معايير الحب والانسجام والانجذاب المتبادل والرغبة في بناء حياة مشتركة، بل على منطق “مَن يستطيع أن يقدّم لي أكثر؟ مَن يستطيع أن يدللني مادياً أكثر؟ مَن يستطيع أن يستّتني أكثر؟”.

بالنسبة إلى عدد كبير من الرجال، وأيضاً من دون تعميم، لا يزال خيار الشريكة مبنياً للأسف على منطق “الجائزة”، أي “مَن هي التي أستطيع أن أتباهى بها أكثر؟”. بل أكاد أقول: “مَن هي التي أستطيع بفضلها الضرب على صدري، وإثارة غيرة رجال الكهف الآخرين أكثر؟”. أما الردّ فغالباً ما يكون مرتبطاً، في ثقافتنا المعاصرة، اللبنانية والعربية تحديداً ولكن ليس حصراً، لا بقيمة تلك المرأة نفسِها، أي بإنجازاتها ومزاياها ونقاط قوّتها، بل بشكلها الخارجي ومغرياته من ناحية، ومن ناحية ثانية بمدى المعاناة التي جعلت الرجل يقاسيها، والصعوبة التي جعلته يكابدها، لكي “يحصل” عليها[vi]. الحب، إذاً، بناءً على هذه الفرضية، حرب بسيكولوجية مفتعلة بامتياز قبل أن يكون أي شيء آخر.

نصائح، في اختصار، تبعث برسالة خطيرة، مدمّرة، للمرأة هي: “لا يمكن أن يحبّكِ إلا إذا كنتِ… سواكِ”. ناهيكم بأنها أيضاً تبعث برسالة مهينة عن الرجل: “هو عاجز عن استيعابكِ كما أنتِ لأنه طفل ضعيف وخائف، لذا عليكِ أن تلطّفي وتليّني وتقللي وتدوّري زواياكِ الناتئة”

بناء العشّ

ذكرتُ في ما سبق عبارتَيْ “خيار الشريك” و”خيار الشريكة”. لكنّ المشكلة تكمن في أن هذه الخيارات المزعومة ليست حقاً كذلك لا من قريب ولا من بعيد، بل منتج غسيل أدمغة متواصل يمنحها هيئة الخيارات، بينما هي في الحقيقة “مفروضات”. فكّروا معي: عندما نتلقّى في شكل متواصل رسائل، بيّنةً ولا واعية على حد سواء، تقول لنا بقدرٍ من الجدية والمصداقية فكرةً معيّنةً، لا مفرّ من أن يؤول بنا الأمر الى أن نعدّ هذه الفكرة واقعاً، أليس كذلك؟

فلأضرب مثلاً على ذلك: طويلاً تحدّث علم النسل عن غريزة “بناء العش” لدى الأنثى، وغريزة “الصيد” لدى الذكر، أي أن الأنثى، بغريزتها، تبحث عن البيت والأمان، والرجل، بغريزته، يبحث عن المغامرات والطرائد، وكلما كبرت الطريدة ازداد الصيّاد أهميةً في عيون نظرائه، و”نفش ريشه”. هذا ما سمعناه مراراً وتكراراً في دروس العلوم الحيّة وقرأناه في الصحف والمجلات العلمية. حسناً: أثبتت الدراسات الحديثة أن هذه الفرضية خطأ، وليس فيها أي شيء من الصحّة. لنفكّر معاً للحظة كم سمّمت هذه الفرضية، وذكوريتها الجلية، من الأجيال والعقول والروابط على مرّ الزمن، قبل أن يَثْبُت بطلانها؟ كم من الطموحات كبحت؟ كم من الجروح سبّبت؟ وكم من العلاقات شوّهت؟ قد يساعدنا تمرين مماثل في تقدير حجم الأذى الذي تُلحقه النظريات التنميطية حول الجنسين بالعلاقات بين الجنسين، وتالياً في تقدير حجم تأثير التربية، وطريقة النظر إلى الذات والآخر الناجمة عنها، فضلاً عن اللغة والأعراف الاجتماعية السائدة، في عيشنا لحياتنا وتفاعلاتنا مع من حولنا. كمثالٍ ثانٍ على هذا التأثير، قرأتُ مؤخراً قصةً عن شاب كان راسباً وفاشلاً في المدرسة، ويفكّر جدياً في ترك الدراسة. قدّم هذا الشاب امتحان البكالوريا كمجازفة، فحاز، يا للعجب، علامةً عاليةً جداً. دفعه ذلك إلى تغيير رأيه، والانتساب إلى إحدى الجامعات، حيث أكمل دراسته ومن ثم أصبح أحد رجال الأعمال الأكثر نجاحاً وثراءً في العالم. في أحد الأيام وبعد سنوات عديدة، تلقّى ذلك الرجل رسالةً من هيئة التعليم الثانوية، تبلغه عن أخطاء وقعت في نظام احتساب النقاط خلال السنة التي قدّم فيها امتحان البكالوريا، وأن علامته في الواقع كانت تحت المعدّل المطلوب بكثير. رويتُ هذه القصة فقط لكي ندرك المفعول الهائل لنظرتنا إلى أنفسنا، وثقتنا بأنفسنا، على مجرى حياتنا.

إن الآراء والسلوكيات والتوقعات المبرمجة التي ذكرتها آنفاً هي بالنسبة إليّ أكبر مؤامرة حيكت ضد النساء (والرجال) في تاريخ المؤامرات الطويل ضد الجنسين، من جانب الجنسين على السواء، ولكن أيضاً من جانب المجتمع والدين والثقافة والعادات والأعراف، وحتى العِلم أحياناً

ما هو الحب الحقيقي؟

إن الآراء والسلوكيات والتوقعات المبرمجة التي ذكرتها آنفاً هي بالنسبة إليّ أكبر مؤامرة حيكت ضد النساء (والرجال) في تاريخ المؤامرات الطويل ضد الجنسين، من جانب الجنسين على السواء، ولكن أيضاً من جانب المجتمع والدين والثقافة والعادات والأعراف، وحتى العِلم أحياناً. الأنكى أن هذه القولبة الذكورية المشوَّهة والمشوِّهة للحب والعلاقة، هي من أكثر المغالطات متانةً وصموداً ومقاومةً للتغيير، بالرغم من كل ما يشهده زمننا من انفتاح وتطوّر، وقد بات من الملحّ أن تتغيّر لأنها تساهم في زيف هذا العالم الطافح بالزيف أصلاً، بينما من الجدير بالحب في الأقل أن يكون واحةً من الشفافية والاسترخاء والـ”لا تأهّب”، ومساحةً للراحة من أثقال العالم الخارجي وضغوطه وتوتّراته. يقول الكاتب البريطاني ألان دوبوتون، في كتابه الشهير “نصوص عن الحب”، إن جهلنا لِمَن نقع في حبّه هو تحديداً ما يجعلنا نقع في حبّه، وإن تلك الخلجات الأولى مبنية حكماً على “اللا معرفة”. إذا كنتُ لأفترض أن دوبوتون على حقّ، سأجيب بأن الحبّ هو أكثر من لحظة الوقوع في الحبّ. إنه لحظات تلاقٍ وتعارف وتلاقح واكتشاف وتعرٍّ روحي متوهّجة، تلي تلك اللحظة الأولى، حتى لو كانت مرحلة التلاقي والتعارف والتلاقح والاكتشاف والتعرّي هذه، قصيرة الأمد. تالياً فإن الحب الحقيقي تجربة استثنائية يستحق كل إنسان أن يخوضها على الأقلّ مرّةً في حياته، إن متلقياً أو مانحاً، وثمة نشوة قصوى في الحالين.

هنا تتساءلون ربما: ما هو تعريف “الحب الحقيقي”؟ لا أعرف، ولا أزعم أني أعرف، كما أنني أدرك أن هذه العبارة مفخخة، ناهيكم عن كونها نسبية وتختلف بين شخص وآخر. ليس المعيار حتماً مدة استمرار الحب، إذ قد تتراوح هذه المدّة بين لحظة، ليلة واحدة، وسنوات وعقود، وسيكون حباً “حقيقياً” في الحالين. ولا المعيار مآل الحب، إذ قد يؤدي إلى علاقة وارتباط وقد لا، وسيكون “حقيقياً” في المآلين. لكنّ الأكيد أن هناك صفةً واحدةً جوهريةً ينبغي أن تكون حاضرةً في أي حبّ لكي أعدّه، شخصياً، “حقيقياً”، ألا وهي أن يكون شغفاً صادقاً صافياً متحرّراً من أي “حسابات” أو مصالح أو تكتيكات جذب واحتفاظ.

هذا كلّه يفضي إلى تساؤلاتي الكبرى والجوهرية في هذا الموضوع: كيف يمكن أن نغيّر هذه القولبة الذكورية، المسمومة، والمدمّرة، لمفهوم العلاقة؟ هل في وسعنا أن نصحح مسار الحب ونعيده إلى موقعه الطبيعي؟ هل تفيد النسوية عموماً، والتربية النسوية خصوصاً، العلاقة بين امرأة ورجل، أم هي، مثلما يزعم كثيرون، قد قضت عليها؟ أعني هنا النسوية الإنسانية، العادلة، العارفة، والهادفة إلى حلّ، لا تلك الشعاراتية العدوانية التي تشكّل غالباً، أكثر ما تشكّل، محض “ظاهرة صوتية”.

هنا تتساءلون ربما: ما هو تعريف “الحب الحقيقي”؟ لا أعرف، ولا أزعم أني أعرف، كما أنني أدرك أن هذه العبارة مفخخة، ناهيكم عن كونها نسبية وتختلف بين شخص وآخر

تفسير مضحك

فلأنطلق بدايةً من هذا الزعم الشديد الرواج، أي أن النسوية قوّضت، أو في الأقل ضاءلت، حظوظ الحب ونجاح العلاقة بين رجل وامرأة. فعلاً، بالنسبة إلى الأنتي-نسويين، عمّقت النسوية الهوة بين المرأة والرجل، إذ حوّلت الأولى كائناً متمرّداً، غاضباً، خصامياً، لا يتردد في المواجهة، فصار الثاني يخافها ولا يستطيع التواصل معها. كما أنها أبعدتها عن بيتها وأولادها وتسبّبت بتفكّك العائلة. كما أنها جعلتها فاسقةً جنسياً وذات معايير أخلاقية متدنية. كما أنها أدّت وتؤدي إلى أزمة ديموغرافية بسبب انخفاض الولادات. كما أنها قتلت في الرجل غريزة “الرجولة” التي تخلق أثر المغناطيس في دينامية العلاقة بين الجنسين (“الأضداد تتجاذب”). كما أنها لم ولا تعترف بالاختلافات البيولوجية والنفسية والعقلية بينهما، وهي اختلافات تمنح كلاً منهما، في شكل فطري، الدور والوظيفة اللذين يتلاءمان مع شخصيته/ ا وأهوائه/ ا ودماغه/ ا. وأخيراً وأولاً والأهم: أن النسوية دفعت المرأة إلى “كره” الرجال.

هاكم تعليقاتي الأولية على ما سبق: لماذا ينبغي أن يكون ردم الهوّة بين النساء والرجال على حساب حقوق المرأة وكرامتها؟ لماذا المطلوب منها هي أن تذعن، وتسكت، وتطيع، حتى لا يخافها الرجل ويتمكن من التواصل معها؟ لماذا تكون طموحاتها هي ثمن عدم تفكّك العائلة؟ لماذا ينبغي لها هي أن تكبح رغباتها، حمايةً لذكورته الفزعة؟ لماذا تُعدّ قدرتها على منح الحياة واجباً إجبارياً[vii] أو قصاصاً أو اختصاراً لإمكانياتها وأدوارها؟ ثم لماذا لا تحيا غريزة الرجولة إلا في مناخٍ من قمع المرأة والهيمنة عليها وعلى قراراتها؟ ثم لماذا الربط بين الفروق الفيزيولوجية والبيولوجية، والحقوق الإنسانية البديهية؟ ثم لماذا الإصرار على أن الاختلافات النفسية والعقلية، إن وُجدت (ولا يزال هناك نزاع حول ذلك في عِلْمَي النفس والأعصاب على السواء)، تضع حُكماً المرأة في موقع ثانوي أو أقلّ أو أضعف، لا العكس؟ وختاماً: بدل أن يقال: “المرأة النسوية تكره الرجال”، أليس الأجدى أن يُطرح سؤال: “أي نوع من الرجال تكره المرأة النسوية؟”. ألا تجدون معي أنه من الغريب أن يركّز معارضو النسوية على ما قد “يخسره” الرجال بسببها، لا على ما سوف “يربحونه”، وهو جمّ؟ وأيضاً وخصوصاً، أليس من المُريب أن يصرّ هؤلاء المعارضون على اعتماد تفسيرٍ مشوّه، تعميمي، وسطحي، أكاد أقول كاريكاتوري ومضحك، للنسوية[viii]، يعادل بينها وبين الرغبة في التشبّه بالرجال -شكلاً أو سلوكاً أو لباساً أو مجالات عمل[ix]-، أو بينها وبين مؤامرة كونية لإخضاع الرجال، وحتى لإلغاء الرجال تماماً؟ يحدث ذلك بالرغم من كل التفسيرات الأخرى المتنوّرة التي باتت منتشرةً وفي المتناول، والتي تركّز على أن النسوية تنادي بكل بساطة، في تعريفها الأشمل، بمبدأ المساواة في الحقوق والفرص، الذي هو أصلاً شرط أساسي من شروط أي عالم عادل وإنساني، أعني المساواة أمام القانون، المساواة في الأجور، المساواة في الحصول على التعليم، المساواة في القدرة على ممارسة الحريات الفردية وعلى اتخاذ القرارات، المساواة في امتلاك الطموحات وسبل السعي إليها، المساواة في توافر الخيارات واستطاعة انتقاء المشتهى منها، والمساواة في إمكانية المساهمة في إدارة البلاد… إلخ.

… لا، ليس ذلك غريباً ولا مريباً، لأن هذين التركيز الانتقائي والتفسير الممسوخ- اللذين يدلان إما على جهل، أو على إنكار، أو على نوايا خبيثة، أو على الثلاثة معاً- يدعمان موقف المعارضين وحججهم ضد النسوية. ومَن يريد أن يشنّ حرباً بأي ثمن، لا يستغني عن سلاحٍ مهما كان هذا كاذباً.

ولكن، ما لنا ولتعليقاتي الانفعالية. فلأدحض ما سبق بطريقة علمية، أي بالحجج المضادة. في سبيل ذلك، سوف أفنّد بعض قواعد النسوية الأساسية وأدرس تأثير هذه القواعد الفعلي على أركان الحب والعلاقة

أولاً ثانياً ثالثاً

… ولكن، ما لنا ولتعليقاتي الانفعالية. فلأدحض ما سبق بطريقة علمية، أي بالحجج المضادة. في سبيل ذلك، سوف أفنّد بعض قواعد النسوية الأساسية وأدرس تأثير هذه القواعد الفعلي على أركان الحب والعلاقة، علماً أني أوردها هنا بلا أي ترتيب قائم على الأهمية:

أولاً: تدافع النسوية عن حقّ المرأة في أن تكون لديها طموحات مهنية وإبداعية، وعن حقّها خصوصاً في السعي إلى تحقيق هذه الطموحات إذا شاءت ذلك، بدل أن يُختصر دورها في مهام المنزل.فعلياً، يجعل خوض غمار العمل والتركيز على السيرة المهنية والأحلام والطموحات من المرأة كائناً “ينجز” بدلاً من كائن “يبدو”، وذلك يعطي مثالاً لأولادها تفوق إيجابيته إيجابيات وجودها معهم طوال الوقت (النوع فوق الكمّ). فضلاً عن ذلك، يحيد هذا التحوّل في النظرة التركيزَ عن شكلها، ويضعه على مضمونها. بذلك تتغيّر العقلية والسلوكيات المجتمعية تدريجاً، ويصير وقوع الرجل في حبّها، واختياره لها، معتمداً على عناصر جوهرية، قابلة للاستمرار في الزمن، لا على عناصر سطحية زائلة.

تالياً، النسوية تفيد العلاقة.

ثانياً: تدعم النسوية استقلالية المرأة المادية، وتعدّها أساساً في أي مشوار نحو التحرّر والانعتاق. ومن أهمّ الميزات التي تقدّمها الاستقلالية المادية للمرأة، فضلاً عن كونها سنداً اقتصادياً إضافياً للعائلة، هي أنها تتيح لها أن تقرّر شركاءها بناءً على رغباتها لا بناءً على حاجاتها وظروفها. بذلك يصبح الشعور، أي الحب، والانسجام، عاملَين أكثر وزناً عند الاختيار من الأمان المادي و”الستاتوس”، ويصبح من الأسهل للمرأة “الانقياد” لحتمية هذا الحب، بدلاً من مقاومتها له لأن موضوع حبها لا يتناسب مع أولوياتها الاقتصادية والظرفية.

تالياً، النسوية تفيد العلاقة.

ثالثاً: تؤمن النسوية بالحرية الجنسية، وترى أن المرأة هي المالكة الوحيدة لجسدها وصاحبة القرار فيه. في الواقع، تسمح هذه الحرية الجنسية للمرأة بأن تكتشف جسدها وجسد الآخر بلا عُقد أو تابوهات منذ بداية العلاقة. وهذا يحمي الكثير من الزيجات المستقبلية من احتمال الفشل بسبب الاكتشاف المتأخر لعدم وجود كيمياء بين الرجل والمرأة، إذ لا يختلف اثنان على أن الجنس أحد أسباب انهيار الكثير من العلاقات. أيضاً، تعتق حرية المرأة الجنسية الرجلَ مع الوقت من عقدة -كي لا أقول من “إرهاب”- البنت العذراء “يلي ما بايس تمّها إلا إمها”، وتتيح له أن يبني علاقةً حقيقيةً مع المرأة التي وقع في حبّها بعيداً عن أي تقييمات أخلاقية ملتوية مبنية على معايير مزدوجة من مثل “يحقّ لي ما لا يحقّ لها”.

تالياً، النسوية تفيد العلاقة.

رابعاً: تدافع النسوية عن حقّ المرأة في التعبير عن نفسها بشفافية وبلا مساومات، ما يتيح لها أن تبلور أفكارها وأن تشاركها بوضوح، بعيداً عن أي خوف من زلّة هنا، ومن عقاب أو ثمن هناك. هذا يسهّل معرفة الذات والآخر، وإبداء الآراء بلا مواربة، وقولَ الأمور كما هي بلا روتوشات تخفيفية. تالياً، هذا يريح العلاقة من أي احتمالات سوء فهم، أو تضاربات قاتلة في القناعات والمبادئ قد تظهر لاحقاً بسبب خشية المرأة من التعبير عنها في البدايات. كم من صدماتٍ وقعت إثر انهيار وهم “إلها تمّ ياكل ما إلها تمّ يحكي”؟ فلتحكِ! فلتحكِ ومنذ البدء! إما يعجب الرجل ما تقوله فيُمْعِن، وإما لا يعجبه فيرتدّ. عاجلاً، في هذه الحالة، أفضل بكثير من آجلاً.

تالياً، النسوية تفيد العلاقة.

خامساً: تؤمن النسوية بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، ليس فقط حقوقاً وفرصاً، بل أيضاً في الواجبات. تحوّلها هذه المساواة من متلقية إلى فاعلة، من صاحبة توقّعات إلى صاحبة مسؤولية. تخلّصها من أسطورة “الأميرة التي سينقذها الفارس” ويستّتها ويؤمّن لها كل ما تحتاج؛ تخلّصها أيضاً من صورة “الفتاة المدلّلة”، فتزيل عن كاهل الرجل أعباء هاتين الأسطورة والصورة (وهي أعباء معنوية ومادية على السواء). هكذا، مثلاً، يكون على المرأة أن تساهم في مصروف البيت تماماً مثلما على الرجل أن يساهم في الأعمال المنزلية، وهذه فقط واحدة من مئات الصيغ التي يمكن أن يُطبَّق فيها مفهوم الشراكة، ولكل ثنائي صيغته الخاصة، والحق في صيغته.

تالياً، النسوية تفيد العلاقة.

لكن أعتقد أن الفكرة “وصلت”: لا، النسوية لم ولا تقتل الحب، النسوية لم ولا تضعف العلاقة، النسوية لم ولا تهدم الأسرة والمجتمع. على العكس من ذلك تماماً.

هل وصلت الفكرة؟

وبعد: أستطيع أن أكمل إلى لا نهاية؛ أن أتحدث مثلاً عن التأثير الإيجابي لتقاسم مهمة الاهتمام بالأطفال بين الوالدين، على علاقة الوالد بأولاده، وهذه من المطالبات النسوية، أو عن التأثير الإيجابي لوجود نساء أكثر في مراكز القرار، على الوضع السياسي والاقتصادي لبلدٍ ما وتالياً بحبوحة رجاله، وهذه أيضاً من المطالبات النسوية، أو أو أو. لكن أعتقد أن الفكرة “وصلت”: لا، النسوية لم ولا تقتل الحب، النسوية لم ولا تضعف العلاقة، النسوية لم ولا تهدم الأسرة والمجتمع. على العكس من ذلك تماماً: إذا نشّأنا أولادنا، الإناث كما الذكور، على المبادئ النسوية منذ نعومة أظفارهم، وإذا رددنا على مسامعهم أن البنت تستحق ما يستحقه الصبي، وأن المرأة ليست محض طباخة ومعمل أطفال، مثلما أن الرجل ليس معمل مال، وإذا علّمناهم أن طموحات المرأة ليست أدنى في الأهمية من طموحات الرجل، وأن قدراتها لا تقلّ عن قدراته، وأن حريتها مقدّسة مثل حريته، وأنها بارعة في السياسة والاقتصاد والرياضيات تماماً مثله، وأنها ليست طريدةً وهو صيّادها، وأن كيانها كامل في ذاته، معه ومن دونه، وأنها ليست جائزةً ولا سلعةً ولا ديكوراً، والأهمّ: أن الخضوعَ ليس حباً، والسكوت ليس رضا، والقمع ليس قوةً، والرجولة ليست عنفاً… لو ربّيناهم على هذه المفاهيم والاقتناعات، لحققنا إنجازاً هائلاً على مستوى تحسين نوعية العلاقات العاطفية بين النساء والرجال. أنا هنا لا أتفلسف فحسب، بل هناك أدلة “علمية” على مزاعمي هذه: إذ يُظهِر عدد من الدراسات في مختلف أنحاء العالم أن العلاقة القائمة بين امرأة نسوية ورجل مؤيد للنسوية تملك فرصاً أكثر في النجاح والاستمرارية من علاقة بين امرأة غير نسوية ورجل معادٍ للنسوية، أو بين امرأة غير نسوية ورجل مؤيد للنسوية، أو، بطبيعة الحال، بين امرأة نسوية ورجل معادٍ للنسوية. وهي أيضاً، بالإضافة إلى ما سبق، علاقة أكثر صحيةً، وأكثر تأثيراً إيجابياً على الطرفين، ومُرْضية أكثر جنسياً. بحسب الدراسات المذكورة، لا ترتبط نسبة النجاح هذه فقط بدرجة التباين المنخفضة في الرؤية إلى الحياة ككلّ، وهذا الأمر من البديهيات، بل أيضاً وخصوصاً، في إطار العلاقات ذات “الهوى النسوي”، بعوامل اختيار الآخر ومدى كون هذه العوامل “واعيةً” وقائمةً على أسس صادقة وعميقة وأيضاً منصفة للطرفين.

يقول الكاتب ستيفن شْبوسكي: “نحن نقبل الحبّ الذي نظنّ نستحقّه”. هل تريدون، هل نريد إنقاذ الحبّ؟ فلنبدأ بالقضاء على أحد ألدّ أعدائه: الظلم. فلنبدأ بإلغاء كل ما يقول لنا، منذ الطفولة، إننا لا نستحقه. فلنبدأ بوضع طرفيه، في هذه الحال المرأة والرجل، على قدم المساواة، لأن هذا هو المناخ الوحيد المناسب، الواعي، القابل للاستمرار، لكي يزدهر الحب وينمو.

أما أنتِ أيتها المرأة، فإليكِ منّي، وسط الكمّ الطوفاني من النصائح-الإرشادات-التعليمات الملغومة التي تُوجَّه إليكِ مذ ترين النور، نصيحةً واحدةً أرجو ألا تساومي عليها ما حييتِ:

في الحب كما في الحرب،

في العمل كما في اللهو،

في العلن كما في السرّ،

مع الأصدقاء كما مع الأعداء،

مع الحبيب كما مع الغريب،

وأيضاً وخصوصاً، رابحةً أم خاسرةً:

فقط

كوني

أنتِ.

[i]الهوامش:

تتمحور هذه الورقة وفرضياتها حصراً حول موضوع الحب والعلاقة بين رجل وامرأة، ولا تتطرق إلى هذه الديناميات بين أفراد مجتمع الميم. ليس إنكاراً أو إلغاءً، بطبيعة الحال، لمشروعية العلاقات المثلية، ولا انطلاقاً من يقين ما لديّ بأن الديناميات المذكورة هي حكماً مختلفة لدى المثليين، ولكن لسبب واحد أساسي هو أنها، أي هذه الورقة، تنطلق من تجارب وتأملات شخصية، تماماً مثلما يفيد عنوانها، وفيها من طبيعة “الشهادة” بقدر ما فيها من طبيعة “البحث”، وتتوخّى تحديداً معالجة التأثير السلبي للتنشئة الذكورية على سلوكيات المرأة مع الرجل وسلوكيات الرجل مع المرأة وعلى العلاقات بينهما، وما إذا كان يمكن النسوية أن تصحح، أو لا، بعض هذا الضرر، فاقتضى التنويه.

[ii] أيضاً: تتناول هذه الورقة، تحديداً، موضوع الحب بصفته علاقةً أو مشروع علاقة، أي بصفته المتحققة تطبيقياً ومكانياً وزمانياً، لا بصفته الشعورية أو الميتافيزيقية البحتة، مدركةً أن الرابط بين الاثنين، أي الحب والعلاقة، ليس حتمياً بالضرورة، وأن هناك قصص حب كثيرةً لا تؤدي إلى علاقات، وأن هناك علاقات (مشروعة تماماً ولها منطقها وجمالها) بلا حب. لكنها، أي هذه الورقة، من حيث أنها تصبو، كما ذكرت، إلى التفكّر في سطوة الأنماط الذكورية على التفاعلات بين رجل وامرأة في إطار العلاقة تحديداً، ارتأت التركيز على هذا الجانب، أو هذا المآل المحتمل للحب.

[iii]  الارتباط أيضاً بعدٌ أو مآل آخر محتمل لعلاقة الحب، لا تؤدي هذه إليه بالضرورة، إذ هناك علاقات مشروعة وصلبة وطويلة الأمد لا تتحوّل إلى ارتباط (وأعني هنا بالارتباط أي شكل من أشكال قوننة العلاقة أمام الدولة، أكان ذلك بالزواج أو بسواه)، وهناك ارتباطات (ناجحة إذا كانت واعيةً)، لا تكون ناجمةً حكماً عن حبّ.

[iv] أعي أن كلاماً مماثلاً يوحي بالكثير من استعراض القوة والتنطّح حيال الحب والزعم بأنه يمكن المرء السيطرة على أحاسيسه والتحكّم بها مثلما يشاء، وأعرف أن زعماً مماثلاً يكاد يتلاقى، في ركاكة أسسه، مع النظرية التي أريد دحضها في هذه الورقة، ولكن ليس هذا مقصدي. أعلم تمام العلم أننا لا نقرّر مَن نحبّ ولا كيف ولا لماذا ولا حتّام، وأنا على إدراك تام بهشاشتنا الإنسانية الشعورية المحتومة. ولكن أقصد هنا “الموقف”، أي المبدأ العام الذي ينبغي لنا في رأيي أن نعتمده كفعل مقاومة بدلاً من الاستسلام، بمعزل عن درجة نجاحنا في تطبيقه، وهذا يختلف بين شخص وآخر.

[v] جديرٌ حقاً أن تُدْرَس دلالات نجاح ممارسة مماثلة حول شخصية الرجل المتلقي لها. ففي جوار كل طفلة مكسورة، هناك طفلٌ مكسور. أقول ذلك فقط كملاحظة أو تأمّل، بعيداً عن أي محاولات لتبرير الظلم والتمييز والتعنيف التي ستعانيها على الأرجح تلك الطفلة المكسورة لاحقاً في حياتها، على يدي هذا الطفل المكسور. ولكن لا أتمالك إلا أن أتساءل مثلاً: هل يعني نجاح هذا التكتيك أن غالبية الرجال مازوشيون؟ إذا كانوا كذلك، ما السبب؟ هل هناك علاقة، مثلاً، بين فطام الطفل الذكر باكراً عن صدر أمّه وهذا النوع من المازوشية؟ أو بين قسوة الأم وهذا النوع من المازوشية؟ أو بين غياب الأم وهذا النوع من المازوشية؟ هل تعلّق الرجل الراشد بمَن تعذّبه ما هو إلا بحثٌ عن الأم التي عذّبته، وركضٌ وراء النقصان الذي جعلته يعانيه بطريقة أو بأخرى؟ أركّز هنا على العلاقة مع الأم، لإجماع مدارس علم النفس على أنها “مفصلية” في دمغ علاقات الطفل الذكر مع حبيباته لاحقاً.

[vi] هل انتبهتم إلى فعل “حصل على”؟ استخدامي له ليس اعتباطياً ولا بريئاً. الرجل، بناءً على منطق مماثل، “يحصل على” تلك المرأة: أي أنها شيء، سلعة، بضاعة كلّفته الكثير، تالياً هي بلا شك “مهمّة”، وتستحق أن يتباهى بها.

[vii] سؤال هنا على الهامش، لكنه جديرٌ بالطرح: لنفترض أن النسوية سبب مباشر في انخفاض نسب الولادات، فأين المشكلة؟ هل البشرية في حاجة حقاً إلى المزيد من التكاثر، أم أنها قد تستفيد من انخفاض ديموغرافي نظراً إلى الأزمات العالمية التي تلوح في الأفق كالشحّ في الغذاء والطاقة والموارد عموماً؟

[viii] تسوّق له للأسف بعض النسويات أنفسهنّ، ولكن هذه مشكلة أخرى.

[ix] نغمة “البنّاء” و”شوفور الكميون” و”المياكنيسيان”… إلخ.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

شاركنَ المنشور