شعري المبتور بسلام الموتى

كنت على مَرّ السنين أسيرة شعري الأسود المائل إلى حمرةٍ طفيفةٍ وخجولةٍ لا تبان إلّا حينما تحتضنه أذرع خيوط الشمس النّهمة. خَنوعٌ هو بانسداله على كتفيّ المنحوتين والتفافه حول عظمتيّ نحري الناتئتين. لطالما عرّفني شعري: حدّني وحدّدني. لطالما عُرِفت بين المدرسين والمدرسات بالطالبة ذات الشعر الأطول في الصف. لطالما تبارت الفتيات معي وقارنّ خصلات شعرهنّ بتلك خاصّتي. لطالما غارت ابنة عمي وأمها من كثافته وبريقه اللماع. ولطالما رأى أبي انعكاسًا لوالدتي المتوفّاة فيه.

والدتي في صناديق

أنا نسخةٌ حيّةٌ ومدمجة الأعمار عن والدتي التي تقطن في صورٍ مغبّرةٍ وغير منسّقةٍ تعيش في صناديق مهترئة. أنا أنقل “أمي” من رفٍّ مهملٍ إلى آخر. ليس لها أيّ وجهٍ معلّقٍ على جدراننا المتفسّخة، بل هرعَت ملامحها واختبأت في ألبوماتٍ لا ينظر إليها أحد. تمكث هي الآن في الدُرج السفلي من خزانة ملابسي التي تحتوي قطعًا لم وعلى الأرجح لن أرتديها يومًا. مشعّثةٌ هي أحيانًا، ومتبسّمةٌ ابتسامةً مخنوقةً أحيانًا. والدتي لم تسكن بيتي بل اكتفى وجودها الغائب بحبس نفسه في قارورة عطرٍ لا يلمسها أحد، وكأنّها إكسير سمٍّ قاتل. لم أسمع اسمي ينادى بصوتها، ولكنّني أجدني مرغمةً على حبّها؛ فهذا أمرٌ محتومٌ يمليه عليّ المجتمع. شعري هذا لم ينهمر بين فسحات أصابعها التي لم تمرّرها يومًا بين ثناياه. فلماذا تحاكي مرآتي مرآتها المكسورة؟ لماذا يلاحقني طيفها المنمّل دون هوان؟

“اسم الله متل شعر إمّها!” هي الناقوس الذي رافقني طيلة حياتي. لقد تردّدت هذه الكلمات على ألسنة نساء ضيعتنا المحبّات للـ”أنوثة” التي يفوح عبقها من شعر الفتيات البالغ الطول. فهو سرّ جمال البنت وأداةٌ مضمونةٌ لإغراء العرسان بحسب اعتقادهنّ الموروث. اللافت في الأمر أنّ البعض منهن برّرن مفاتن شعري بنصفي الأرمني المدفون، الأمر الذي جعلني أخوض دوّامةً من الوجوديّة البلهاء: من أنا؟ أين تكمن أرمنيّتي هذه المتسلّلة من بين شفاههن؟ فأنا لا أتكلّمها ولا أرتديها، إنما أتدلّى من مزهرياتٍ دقيقة العنق تباعًا لها “سمرا، شخصيتها قوية، شعرها أسود متل الليل، الأولى بمدرستها…” قد تبدو هذه الصفات حميدةً لكن السوط العربي لا يحب الإفراط لدى الفتيات. ومرآتي لا تحب أن تشبه مرايا أخرى. وشعري لا يحب النوم مع الموتى. وأنا لا أحب أن أُنادى بغير اسمي.

“زينة البنت شعرها!”

قصصت شعري. قبل شهرٍ ويوم من بدء سنتي الجامعية الأولى. ذهبت إلى حلاقٍ نسائيٍ حسن السّمعة وأعربت عن نيّتي بقصّ شعري قصيرًا حدّ أسفل عنقي. “إيه ليش ما بدّه يلبقلِك؟!” طمأنني وهمّ بربط ذيل الحصان الذي لطالما سَحر الأعين وأسرها. ما يزال باستطاعتي سماع حفيف الشّعيرات المتينة وتقطّعها بين حدّي المقص. “تفضّلي،” ناولني إيّاه فهرعت إلى وضعه في كيسٍ دون إمعان النظر فيه طويلًا. ومن ثمّ حدّقت في نفسي المنبثقة من المرآة المبتهلة أمامي. إنّها أنا. الأنا الخاوية. الأنا المُفرغة. الأنا التي لا تشبه أحدًا. الأنا التي لا تتقوقع خلف قضبان شعرها. صرت أنا، وحدي، لا مثيل لي، ولست مثيلًا لأحد. ضحكت وأطلتُ الضحك على فعلتي غير المسبوقة وهيّأت نفسي لمناحة العائلة التي تنتظرني في البيت.

“لشو قصّيتي شعرِك؟!” صرخت فيّ جدتي آنذاك. “صطفلي عملي اللّي بدِّك ياه” قال أبي باقتضابٍ يوازي حاجبيه الكثيفين المقطّبين بإحكام. بينما اتّشحت عمّاتي بصمتٍ كسيحٍ لم يفكّ وثاقه حرفٌ منطوقٌ بشأن ما حصل. “يي ليه هيك عاملة بحالك؟ زينة البنت شعرها!” هي الترنيمة الأشهَر التي أغرقتني بها نسوة الحي حينها.

ما فقده الجميع ليس شعري، بل والدتي، أي المرأة التي كانت تستفيق من سباتها الأزلي عبر شعر فتاةٍ “صالحةٍ”

ما فقده الجميع ليس شعري، بل والدتي، أي المرأة التي كانت تستفيق من سباتها الأزلي عبر شعر فتاةٍ “صالحةٍ” وكيانها اللذين يحرسان الأعراف والتقاليد ويصونانها بالتمرّس الأعمى. ما خسره أبي تحديدًا هو ذكرى أيّام المدرسة وصباحاتها التي شهدت ربطه لشعري المتروك. ما خسره هو لعب دور الأم عندما كان يصطحبني معه إلى البحر، ويمشّط تشابك خصلاته الرطبة عندما يحين وقت الرحيل ليفكّ عنادها أمام الملأ.

يذكّرني أبي بهَنا الأثيوبية التي قضت فترةً ليست بوجيزةٍ في منزل عمّتي عندما كنت طفلة. كانت هَنا تُجدّل لي ضفائري الطويلة قبل ذهابي إلى صفوف الباليه حيث تتبارى الفتيات بتسريحات شعرهن وتنانيرهن الزهرية. أنا لم أرَ قبر أمي قطّ. لم أزره ولم أنثر على رخامه الورود اللّبقة والرّسائل المشحونة. إلا أنّني كنت أُرمى فيه قبل دخولي صالة الرّقص في تلك البؤرة التي ابتلعتني فيها تحديقات الأمهات بعيونهن المتفرّسة بغرابةٍ فاضحةٍ “مش هيدي اللّي إمّها ميّتة؟ حرام.”

كانت الحِجّة المُثلى لقصّ شعري هي التبرع به. فقد كذّبت الكذبة وصدّقتها، مقتنعةً بهذا الفعل الخيّر الذي سيغفر لي فعلتي الشمطاء. جفّفت خصلة شعري المقصوصة وجدّلتها لتصبح حسنة المظهر ومن ثمّ أخذت بعض الصور وأنا أمسك بها بخفّة المتيّمين – للذّكرى فقط. داعبتها قليلًا بين أصابعي التي تحسّست ثقلها وبعدها رميتها في الجارور الأعلى من الخزانة الصغيرة التي تمكث على الجهة اليسرى من سريري الضيعوي. نقلت المجدولة معي إلى بيروت مرارًا، حيث سكنَت الجارور الأسفل من خزانة سريري البيروتي. ثمّ أعدتها إلى الضّيعة لأنّني لم أجد من يحتاجها، فأنا لم أبحث بنيّة جادّة. بقيت تلك المهجورة متروكةً لفتراتٍ متواصلةٍ من الزمن إلى حين قرّرت التبرع بها بحق. لففتها بكيس نايلون شفّاف كي لا يصيبها أيّ مكروهٍ كما يُلَفُّ الرضيع بغطائه الحامي، وتوجّهت إلى الكنيسة المغروسة في نهاية شارع الحمراء التي بُعثتُ إليها من قِبَل العديدين، وسلّمت الأمانة بعد عامٍ ونصفٍ من الانتظار الأبله.

أعترف بأنّ عينيّ قد دمعتا إثر فراقها وبأنّني احتضنتها حضنةً صغيرةً وعصرتها إلى قلبي قبل أن أفلتها لتسقط بين يديّ الحارس الذي انتزعها بقسوة دُبٍّ جائعٍ “شو هالقد بدّا!” انسلّ شعري من بين يديّ، تركته بين يديّ هذا الرجل وهو لم يكن قد تركني يومًا. وكان البتر الثاني الآن أقسى. فلم بترته؟ لطالما خبأتني دواليه الخمريّة من مزاجات هذا العالم السيئة حين يباغته وقت الصحو.

عن المرة الأولى التي قصصتُ فيها شعري لدى حلاقٍ رجاليّ

اضّجعت في مقعدي حاملةً أعوامي العشرين دون حقيبةٍ تتّسع لها. لم أرَ غبشًا في المرآة بل اكتفيت بالتحديق إليها طويلًا وأنا أدرس خطوط عنقي الدقيقة وحدّة فكّي الأسفل الوقح في عرضه. تسارعت نبضات قلبي حتى كدت أتراجع عن فعلتي عدّة مرات، فتخور قواي المعاندة في اللحظة الأخيرة وأستسلم بتسليمٍ متيقّنٍ أمام رغبتي الجامحة بإزالة هذا الجزء الزائد منّي. شعري هذا مدلّلٌ كطفلٍ فظٍ غير لبقٍ في تصرفاته. لقد سئمت تربية هذا الطفل الذي لم أهلّل لمجيئه إلى الحياة بل وُضِعَ بين يديّ عنوةً عني. كانت شعيراتي الصغيرة النافرة من فروة رأسي تقفز بخوف المقدمين على الانتحار، وجسارتهمنّ. كانت تركض في فسحات فرق شعري الراسخ في المنتصف لتبني لنفسها بيوتًا صغيرةً يجاور أحدها الآخر. إلا أنّ مقصّ سليم جاء بالكرب ويتَّم صغارها غير المولودين بعد. لقد حرّرني مقصّ سليم. كان سليم سليمًا في مهاراته، ليّن الكلام والمظهر، وصريح العبارة. فقد أنذرني بادىء الأمر أنّ هذا القُصر قد يعذّبني لاحقًا أثناء تصفيفي له “فكّري فيا منيح ورجعي تعي.” بالطّبع لم أُطِع طلبه، بل استرسلت في الحوار حتى ألبسني ثوب الحلاقة.

“شو بدّك تعملي اليوم؟” سألني أحد الحلاقين الفضوليّين المنهمكين برؤوس رجالٍ على الأرجح أنّهم يعملون في مجال إدارة الأعمال وتغوّط الأموال. “هلأ بتشوف.” أجبته باقتضابٍ وقد ارتسمت ابتسامةٌ ماكرةٌ على شفتيّ الخجولتين المحاطتين بخدّين كادا أن ينفجرا من حرارة احمرارهما. كانت الدماء تتدفّق إلى رأسي لترتطم بشطآن وجهي الذي بانت عليه ملامح التوتر، وبقيت ترغي بزبدها حتى رست على وجنتيّ بسكينة. تبعني الرأس المصقول بين يديه بجوابٍ ذي رنينٍ مألوفٍ “قلبها قوي.” وصمتَ ثمّ قال خلسةً “بكرا كلّ البنات بيجو لعندك بعد هالثورة.” أنا لم أفهم الرابط العجيب بين العنصرين حقيقةً ولم أشأ أن أسأله. “معقول قصّ شعري ثورة؟!” ناداني صوتٌ خافتٌ يتلفّت في رأسي، لكنه لم يطلب مني إجابةً مُلحّة. لقد تخلّل مسار رحلتي المنمّطة العديد من الاستراحات القصيرة التي ليست باستراحاتٍ في الحقيقة. فقد استعمرتني نظرات الحاضرين المعجبة منها والمصدومة؛ منهم من كان فادحًا بالتهامي ومنهم من اكتفى بمنحي طُرفة عينٍ ليست أهلًا للذِّكر. إلا أنّ تنظيره هذا الذي سقط سهوًا صنّف عملية التخلّي التي كنت أقدم عليها بالثوريّة. أتكون الثّورة بالبتر؟ لكنّ شعري لم يكن من الطُغاة!

“نعيمًا!” نفض سليم شعيراتي المتناثرة عنّي، شعيراتٌ لم تعد لي بعد تلك اللحظة. فقد خرجَت عن طوري مكرهةً وحلّقت من تحت كنفي بعيدًا إلى حيث لن أستطيع أسرها وترويضها، وإن شئت ذلك.

لست بحاجةٍ لنسج خططٍ محكمة الصنع في خيالي لتبرير قصّي لشعري

 “تبدين مذهلة! – You look gorgeous!” هي العبارة الّتي أطلقتها صديقتي التي ذهبت معي خصيصًا من أجل تلك المناسبة، لاعبةً دور السنَد الداعم لبراعمي التي تتفتّح شيئًا فشيئًا على الرغم من أنّ الربيع لم يحلّ بعد. التقطت لي صورًا كثيرةً وصرّحت بأنّها لم ترني على تلك الهيئة قط – في منتهى السعادة، حرةً، واثقةً من نفسي. رُحت أقفز من رصيفٍ لآخر ومن شارعٍ لآخر محتفلةً بتجاوزي لخوفي الأعظم وعواقبه الوخيمة التي حُفِرت بإحكامٍ على جلدي، ودُقَّت فوقها مساميرٌ صدئةٌ كي لا تلوذ بالفرار.

أدركتُ حينئذٍ أنّ حبّي لنفسي أكبر من خوفي من مربّيها. وأنّ شعري، طويلًا كان أم قصيرًا، هو صفعةٌ على وجه المجتمع بكلّ من وما فيه من ذكوريةٍ سامّةٍ وأبويّةٍ قامعةٍ، ونساءٍ موؤودات الحناجر منمَّطاتٍ ومنمِّطاتٍ بدورهنّ. عرفت وقتئذٍ أنّني لست بحاجةٍ لنسج خططٍ محكمة الصنع في خيالي لتبرير قصّي لشعري – خططي تلك تخطّت عتبة التفكير بتعمّد إصابتي بالقمل. أيقنت عندئذٍ أنّني لا “أُذَكَّر” ولا “أُئَنثَن” بحسب رغبة جارتنا سعاد ومعاييرها البالية، وأنّني لا أقبل أن أُنعَت بـ”حسن الصّبي” من قبل عمّتي الوسطى – ولو بغير قصدٍ مرقّعٍ باعتذارٍ أخرق. لمست آنئذٍ أنّ لا سلطة لغياب والدتي أو لحضور أبي عليّ وعلى شعري الذي بترته بحُبٍّ جمٍّ وسلام الموتى حين يُدفَنون.

شاركنَ المنشور