آريا حاجي| رصيف 22
رفعت يسرى، المرأة الثلاثينيّة، رأسها عن كتاب طفلها الذي كانت تُدرّسه فيه في منزلها في مدينة ديريك/ المالكيّة، وأومأت بالنفي، حين تم سؤالها عن مدى معرفتها باتفاقيّةٍ تُدعى “سيداو”. كانت إجابة هيفين (40 عاماً)، وتقطن في مدينة القامشلي، مشابهةً نوعاً ما، إذ قالت إنها سمعت سابقاً أنها اتفاقية تخص النساء، لكنها تجهل محتواها. تكررت الإجابة بالنفي من قبل أكثر من عشر نساءٍ تم توجيه السؤال نفسه إليهنّ في مناطق في شمال شرق سوريا.
كانت الإجابة المختلفة عنهنّ، لدى شيرين، الفتاة العشرينيّة المتحدرة من أحد أرياف منطقة الحسكة، والتي عايشت تجربة انفصال قاسيةً، تلت زواجاً كان أقسى، استمرّ لسنوات صعبة، إذ تقول لرصيف22: “عشت معنّفةً طوال فترة زواجي التي رُزقت خلالها بولدَين، وحين قررتُ طلب الانفصال عن زوجي بعد تعنيفٍ وخيانة امتدّا لسنوات، كان ثمن انفصالي، حرماني من ولدَيّ، وذلك ما اشترطه زوجي السابق وعائلته، قبل أن يتم الانفصال”.
بعد مرور الأسبوع الأوّل من زواجهما، كانت شيرين على موعدٍ مع خيانة زوجها لها، وعلى موعد آخر مع التعنيف والإهانات المتكرّرة، ولم تكن فكرة الانفصال واردةً لديها حينها، بسبب خوفها من “الوصم الاجتماعي” الذي قد يلحق بها عند الانفصال، إلى جانب الطلب المتكرر ممن كانوا/ نّ يحيطون/ ن بها بأن تبقى صامتةً وأنه ينبغي عليها أن تتحمّل.
نتيجةً للقهر الذي عايشته شيرين طوال فترة زواجها، وبعد إصابتها بفيروس كورونا، حيث لم تحظَ بأي اهتمامٍ من زوجها، أصيبت بالتهابٍ مزمن في مفاصل جسدها كافة، ولم تجد حلّاً سوى العودة إلى عائلتها كي تتلقى العلاج بعد المرض الذي استمر لثلاثة أشهر. عند عودتها، قام طفلها الأكبر الذي لم يبلغ الخامسة من عمره حينذاك، بالإفصاح لجدته وجدّه بأن والدته تتعرّض للتعنيف بشكل مستمر، حينها دعم والدها قرارها بطلب الانفصال، لكن لم يستمر الارتياح لديها سوى بضعة أيام، إذ طلبت عائلة الزوج الاحتفاظ بأطفالها، مقابل أن يتم الانفصال، وهذا ما لم تستطع شيرين مجابهته.
63.3% من نساء شمال شرق سوريا، لم يسبق لهنّ أن اطّلعن على الاتفاقيات الدولية، التي تدعم قضايا النساء
عادت شيرين إلى منزل العائلة بعد أن تم الانفصال، وحرقة القلب لم تفارقها على طفلَيها، وفي فرصة غير مخطّطٍ لها، تمكّنت من حضور جلسةٍ حوارية عقدتها منظّمة مجتمع مدني محليّة في مدينة القامشلي، ناقشت فيها بنود اتفاقية سيداو، وتأكّدت من أن القانون يقف إلى جانبها في حقّها في حضانة طفلَيها بعد الانفصال، كونهما لم يتجاوزا السن القانونية بعد.
بقيت لحظة انتزاع طفليها من حضنها، مشهداً لا يفارق مخيّلة شيرين، ولا تزال تحبس دموعها كلّما أتى أحد ما على ذكرهما في أي حديث معها، ولم يبقَ لديها أملٌ سوى جارتها القديمة التي تقوم بتصوير طفليها بشكل خفي، وإرسال الفيديو المصوّر لها حتى تشاهدهما، بعد أن قام زوجها السابق بمنعهما من التواصل معها.
“ما بدنا مشاكل”؛ جملة قصيرة خرجت من شفاه والدة شيرين، منعتها من اللجوء إلى القانون، لكي تستطيع إعادة طفلَيها إلى حضنها. جملةٌ قطعت الأمل بشكل نهائي لديها، وأجبرتها على المضي في حياتها، من دون التفكير في الأمر مرّةً ثانيةً.
ازدواجية السلطات وضعف المنظمات
على الرغم من اتّساع مساحة العمل المدني في سوريا عموماً، وشمال شرق سوريا خصوصاً، إلا أن قضايا النساء لم تلقَ حيّزاً يتلاءم مع حجم الاحتياج إليها في المنطقة، سواء من جهة التوعية المجتمعية أو القانونية أو غيرهما، حيث أنه، وفقاً لمسوح ميدانيّة أجرتها منصّات نسائية في مدن مختلفة في شمال شرق سوريا، استهدفت أكثر من 100 امرأة غير عاملة في الشأن العام، تبيّن أنّ أكثر من 79% من هؤلاء النسوة، غير مطّلعات على اتفاقية سيداو، وفي المسح ذاته، 63.3% منهن، لم يسبق لهنّ أن اطّلعن على الاتفاقيات الدولية، التي تدعم قضايا النساء.
وتُعدّ اتفاقية سيداو بمثابة إعلان عالمي لحقوق النساء، نظراً إلى ما تتمتع به من شموليّة في موادها الثلاثين، من معالجة قضايا التمييز ضدّ النساء، وضمان المساواة أمام القانون، وتنصّ على اتخاذ التدابير بما فيها سنّ التشريعات الهادفة إلى تحقيق العدالة الفعليّة بين الرجال والنساء، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى صعيد الحياة الخاصة والعامة.
وتعود تاريخيّة هذه الاتفاقيّة إلى العام 1979، حيث وافقت الهيئة العامة للأمم المتحدة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وقد دخلت حيز التنفيذ في 3\9\1981، ووقعت وصادقت وانضمت إلى الاتفاقية أكثر من 189 دولةً حول العالم من بينها 54 دولةً مسلمةً.
يقول الكاتب الصحافي والمتابع لقضايا النساء آلان حسن، لرصيف22، إن “وجود سُلطتَين في شمال شرق سوريا لكلٍ منها دستور، حيث لدى ‘الإدارة الذاتية لشمال وشمال شرق سوريا’ العقد الاجتماعي، ولدى الحكومة السورية الدستور السوري، يخلق ازدواجيةً في التوعية القانونيّة”.
ويوضح أن “نسبةً كبيرةً من منظّمات المجتمع المدني في شمال شرق سوريا، لم تمتلك الخبرة والتجارب الكافية للقيام بالدور المنوط بها، وما قامت به كان تقليداً لتجارب معيّنة، بغض النظر عن مدى ملاءمتها لسياق المجتمع المحلي، لذا فإن نسخ تلك التجارب، والعمل عليها بشكل غير أكاديمي، نتج عنهما تدخّل ضارّ نسف فرصةً ذهبيةً لتوعية المجتمع، ألحق الأذى بالقضية التي يمكن عدّها بِكراً، وكان من الممكن التعامل معها بطرق أكثر نجاعةً”.
من جهتها، ترى الناشطة في مجال حقوق النساء صباح حلّاق، أنّه “على الرغم من الانفتاح الملحوظ والإرادة السياسيّة لدى الإدارة الذاتية، ووجود عقد اجتماعي، وقوانين منصفة للنساء تصل إلى تحقيق المساواة في الكثير منها، إلا أنها غير مطبّقة على أرض الواقع، حيث أن التوعية بالحقوق والمساواة، وانعكاساتها على السياسة العامة، لم تصل إلى الناس. والرقابة القائمة في الجغرافيات السوريّة كافة، على عمل منظّمات المجتمع المدني، شكّلت عائقاً أساسيّاً أمام عملها، والتي على الرغم من وجود المساحات الممكنة لها للعمل مع الناس، إلا أنها لا زالت مقيّدةً بآليات الرقابة والبيروقراطيّة التي تحدّ من حركتها”.
التوعية ضرورة غير كافية
عايشت شيرين ظلماً مضاعفاً، حين حُرِمَت من طفليها، ثمناً لتحررها من زواجٍ غلبَ عليه التعنيف والخيانة الزوجية، فقد كانت النسبة الكبيرة من المحاطين/ ات بها من العائلة والوسط الاجتماعي، تدفعها إلى الصمت تجاه حقها في احتضان أطفالها، وكانت تُردَّد على مسامعها جملٌ من قبيل: “هدول أولادهم، شو بدك فيهم!! أبوهم بيربّيهم/ شو بدك بوجع الراس والمسؤولية”.
وانفصالها في مجتمع يعدّ الانفصال وصماً اجتماعياً، تدفع وحدها تكلفته، لذا كانت معاملة العائلة ودائرة المعارف المحاطة بشيرين، غير مشابهة لما كان الأمر عليه قبل انفصالها، وألزمها الأمر التفكير مليّاً، قبل أن تخطو أي خطوة، حتى لو كان الأمر مقتصراً على شراء ثوب جديد أو الخروج في نزهة للترفيه عن نفسها، وذلك كي لا تضطر إلى سماع كلمات تسبب لها جروحاً، مثل “مطلّقة وعم تتمشور، بعد ما اتطلقت رح تاخد راحتها”.
تقول حلّاق لرصيف22: “على الرغم من وجود اتفاقيّات دولية تدعم قضايا النساء، ومنها اتفاقيّة سيداو، وتوقيع سوريا عليها، إلا أنه لم يتم إحراز أي تقدّم نحو تثبيت حقوق النساء دستوريّاً، وفقاً لتوصيات لجنة سيداو، وذلك بسبب غياب الإرادة السياسيّة لدى الحكومة السوريّة، التي ترغب حتى الآن في محاباة رجال الدين، بهدف كسب تأييدهم وثقتهم، لذا فإن قانون الأحوال الشخصية في سوريا، مرجعيّته دينيّة، وذلك ما يمكن عدّه أساساً في عدم إحراز أي تقدّم في القوانين، لتقوم في أساسها على المساواة بين الجنسين”.
وتؤكّد أنه “يقع على عاتق الوسائل الإعلاميّة إلى جانب منظّمات المجتمع المدني، التركيز على قضايا حقوق الإنسان عامّةً، وحقوق النساء خاصّةً، كآليّات تساهم في وصول أفراد المجتمع المحلّي إلى معرفة حقوقهم/ ن، والنضال للوصول إليها، كما أنه من المهم استهداف العاملين/ ات في المجال الحقوقي، وكوادر منظّمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والمراكز الثقافية، حتى تتحوّل هذه المساحات إلى نقطة انطلاق، نحو عدّ قضايا النساء قضايا مجتمعيةً، وليست حكراً على النساء فقط، أو الرجال المتضامنين مع حقوق النساء”.
في السياق نفسه، يعتقد حسن أن “المشكلة لا تكمن في القوانين فحسب، لذا فإن التوعية القانونيّة بحقوق النساء ليست كافيةً، في ظل وجود أعراف مجتمعية وتفسيرات دينية ليست صالحةً للتطبيق في الوقت الراهن، وجهل بحقوق الفرد وواجباته تجاه المجتمع، وحقوق المجتمع والسلطة وواجباتهما تجاه الفرد والمجتمع، وفي ظل غياب الأجوبة عن هذه الأسئلة كلها، هناك حاجة ماسّة إلى التوعية بمختلف هذه الجوانب، ليس على الصعيد القانوني فقط، بل يجب التركيز على التوعية بالثقافة المدنيّة، وبقضايا النوع الاجتماعي، والتوعية المجتمعية بأكاديميّة، وبمراعاة للسياق المحلي، حتى تتمكن من التغلّب على هذه المشكلات”.
وفي ما يتعلّق باتفاقيّة سيداو، يرى آلان أنه “تم تناولها في شمال شرق سوريا بشكل صوَريّ، ولم تتم مناقشة تحفّظات الحكومة السورية عليها، ولا تحفّظات المجتمع المحلي عليها، بشكلٍ معمّق، وتحقيق ذلك، يقع على عاتق منظّمات المجتمع المدني، بشكلٍ رئيسي. هذه المنظّمات التي تملك فرصةً كبيرةً للقيام بدورها في التوعية المجتمعية، كونها لم تتوفّر سابقاً، وهي متاحة الآن، كما أنّه تجب الاستفادة من تجارب منظّمات المجتمع المدني في دولٍ عايشت ظروفاً مشابهةً لتلك التي عايشتها سوريا، كونها الأقرب إلى تنظيم المجتمعات، والأقدر على نشر التوعية”.