آلاء عبد الوهاب| ج
بعد مشاجرةٍ حادّةٍ استمرّت لأيامٍ بين والديّ، كتبتُ رسالةً شديدة اللهجة إلى تيتا أشرح فيها ما شهدتُ في المنزل ورميتُها من فتحة الباب. تعيش جدّتي لأمّي في مصر، ويستحيل أن تصلها الرسالة بهذه الطريقة، الأكثر منطقًا كان إرسالها إليها عبر جيراننا أو الملائكة لتتدخّل بمعجزةٍ ما.
الفكرة سوريالية، لكنني كنتُ في سنّ الثامنة وأردتُ حلّ التوتّر حولي بأيّ طريقة، وإن كان الثمن كشف زيف الحياة الوردية التي يُعبّر عنها أمام العائلة، وفي المكالمات الهاتفيّة وعبر شرائط التسجيل. أدركتُ وأنا أكتب هذا النص أن هذه الرسالة كانت إحدى طُرق تعبيري عن العنف الذي شهدتُه، وإن لم يقع مباشرةً عليّ، وأنّ النساء يبحثن طيلة حياتهنّ عن أدواتٍ تتعدّد أنواعها وأهدافها للتعبير عن عنف المجتمع الأبوي وذكوره. وعن هذه الوسائل ومنفعتها في النجاة، حدّثتني نساءُ هذا النص.
كلماتٌ لمواجهة التحرّش
سواء كانت الكتابة واقعيةً تقريريةً مثلما فعلتُ في رسالتي إلى جدّتي على سبيل الشكوى، أو كانت أدبيةً خيالية، فإنها تتماهى مع ذهن الكاتبة وجسدها ومحيطها المسكون بالعنف. لذلك كانت الكتابة أداةً تساند النساء، وتجعل من النصوص مُتنفسًا آمنًا، يحتمل التأويل في الحكايات والعنف برحابةٍ منذ زمنٍ طويل.
تحكي لمياء أنّ حوادث التحرّش الصادمة التي تعرّضَت لها في الشارع كانت المحرّك الرئيس لتبدأ بالكتابة الذاتية والخيالية. تقول: “كنتُ أريد أن أفرغ شحنة الغضب والألم. كتبتُ مئة صفحةٍ في وقتٍ قصير، وعبّرتُ عن مشاعري على لسان شخصياتٍ ابتكرتُها، فسكنَت أوجاعي قليلًا”.
الكتابة فعلٌ تحرّري يغيّر مسار الاضطهاد وقواعده أحيانًا، حين تعبّر المرأة عمّا تشعر به وتتواصل مع قوّتها الداخلية وتكتب، يتضاءل الذنب الخانق الذي تشعر به على إثر ما تعيشه وتتعرّض له
تعيش لمياء في القاهرة، وهي كاتبةٌ في سنّ الثلاثين. لم تتعرّض للعنف على يد عائلتها بل لعنف الشارع الذي لم يخرج من جسدها وعقلها بمجرّد الكتابة، فالتحقَت بدورةٍ تدريبية في رياضة الملاكمة (boxing). بالنسبة إلى لمياء، تتشابه الكتابة والملاكمة في التعبير عن العنف. وبفضلهما، ترى أنّ معدّل التحرّش بها خفّ قليلًا، وأنّها أصبحَت سريعة الاستجابة في التعامل معه. تشرح: “آخر مرّةٍ تحرّش بي رجل، ركضتُ وراءه وسط الزحام والسيّارات السريعة. أردتُ ضربه والاقتصاص منه، وإخفاء ابتسامة المنتصِر من على وجهه”.
ترى الفيلسوفة والمنظّرة النسوية هيلين سيكسو (Hélène Cixous) أنّ الكتابة1 فعلٌ تحرّري يغيّر مسار الاضطهاد وقواعده أحيانًا، حين تعبّر المرأة عمّا تشعر به وتتواصل مع قوّتها الداخلية وتكتب، يتضاءل الذنب الخانق الذي تشعر به على إثر ما تعيشه وتتعرّض له، وتتلاشى مشاعر العار وتأنيب الضمير التي يجبرنا المجتمع على الشعور بها في حال تعرّضنا للعنف.
لكنني أفكر في كيفية إنتاج هذا الشعور في نفوسنا؟ فالعنف يأتينا بغتة، ونجاتنا منه ليسَت حاسمة، بل مثل اللعب بالنرد. علينا مجاورة الكتابة بطرقٍ أخرى، فهي لا تكفي وحدها لتمحو عارًا متضخّمًا في داخلنا ناتجًا عن عنفٍ مجتمعي مُمارَسٍ بحقنّا نحاول بترَه والالتفاف عليه وإخفاءه دائمًا.
زياراتٌ أُختيةٌ في مواجهة الأبوية
هيمَن عنف العائلة الجسدي والنفسي على حياة هبة من الأردن لسنواتٍ طويلة، لكنها نجَت منه على الرغم من افتقارها لموارد الدعم النفسي المتخصّص. تقول هبة: “حين كنتُ أعيش في منزل أهلي، كانت أحاديثي الهاتفية مع صديقتي المقرّبة، والشكوى لها، والبكاء معها يمنحني العزاء. لم أكن وحدي، فهناك مَن تعرف بما أعيشه وتواسيني. كان ذلك كافيًا لي”. بعد زواج هبة، طلب منها زوجها أن تخفّف أحاديثها مع صديقتها حين لاحظ أنها تطول بعد أيّ خلافٍ بينهما، ثم أمرَها صراحةً بالقطيعة معها.
منذ الصغر، تغرس فينا المنظومةُ الأبوية فكرة أننا نكتسب قيمتنا كنساءٍ من علاقتنا مع الذكور من حولنا. وبالتبعية، تغدو النساء الأخريات منافساتٍ لنا في الحصول على الحظوة والقبول لدى “السيّد الرجل”، ما يمنعنا من الانكشاف النفسي التام أمام امرأةٍ أخرى، إذ قد نُقابل بالغيرة أو الفضح. هكذا، يصبح تكاتفنا معًا مستحيلًا، وتضامننا غير آمنٍ ولا يُعوّل عليه. لذلك، تأتي الأختية بمفهومها النسوي المعاكِس لتعاليم المجتمع الأبوي، بكلّ ما تحمله من رعايةٍ متبادلةٍ وتضامنٍ بين النساء، لتطرح شكلًا بديلًا لعلاقة النساء بعضهنّ ببعض، ولتخدمَ بوصفها أداةً مبتكَرةً يستخدمنَها للتعبير عن العنف والنجاة منه عبر التكاتف معًا.
يمثّل تصرّف زوج هبة إحدى الأدوات الرئيسة التي يستخدمها المجتمع الأبوي وذكوره للاستمرار في قمع حيوات النساء وكبح قدرتهنّ على الشكوى وطلب المساعدة عبر ترسيخ نظرية حماية أسرار المنزل: فالمرأة “المحترمة” و”الواعية” لا تحكي عن خلافاتها مع زوجها وكيفية تعرّضها للعنف والضرب، وعليها ألّا تكون “نكدية” لأنّ الشكوى المستمرّة لن تفيد سوى بزيادة الوضع سوءًا. وفي حال صودِف وجود صديقةٍ أو قريبةٍ قد تمدّها بمُساعدةٍ مُحتملة، تُعزَل المرأة عنها سريعًا خوفًا من تشجيعها على “خراب بيتها”. أيضًا، تُنصح الزوجة بعدم ترك منزل الزوجية والهروب حفاظًا على “أصالتها”، ولأنّ أحدًا لن يتقبّلها. لذلك نجد أنّ امرأةً تُقتل كلّ 11 دقيقة على يد شريكها أو أحد أفراد أسرتها.
مقاومةٌ علنيةٌ لأجل التعافي
نجَت آمنة في إحدى دول الخليج العربي من عنف أخيها وتستّر والدتها عليه في خلال فترة الطفولة والمراهقة. أصرّت على استخدام حقّها القانوني في حرّية المسكن على الرغم من الضغوط التي مورِسَت عليها للتراجع حتّى من قبل رجال الشرطة. لجأَت إلى السّرد للتعبير عن أثر العنف الذي تعرّضَت له، وتكمل: “في كلّ مرةٍ أسرد فيها الحكايات تتغيّر مشاعري تجاه المواقف الواردة ضمنها. لقد ساعدني وجود شريكٍ واعٍ إلى جانبي، فهو يدعمني ويصغي إليّ كلّما احتجتُ للحديث عن هذا الحزن. كنت أفكِّك الحكايات معه، وتعلّمتُ أن أرويها من دون الوقوع في فخّ الاكتئاب الذي كان يصيبني كلّما فتحتُ قلبي، كما تعلّمتُ أن أمسكها من كلّ الزوايا”.
مرّت سنواتٌ طويلةٌ منذ ابتعاد آمنة عن البيئة المؤذية. تبلغ حاليًا الخامسة والثلاثين من العمر، لكنها ما زالت تتذكّر بعض جراح تلك الفترة، بعضها مُستترٌ وبعضها الآخر ظاهرٌ في إصابةٍ مستديمةٍ في يدها اليمنى. تتعافى آمنة عبر مساعدة النساء من حولها، وقد ظهرَت على شاشات التلفاز وفي الصّحف في خضم نشاطها النسوي، كما تستخدم حسابها الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي لدعم النساء ونشر الوعي والتضامن النسوي. تقول: “سرد حكايتي ونشاطي النسوي لسنواتٍ طويلةٍ يمدّني بالقوة”.
لم يتوقّف حكي آمنة العلني على الرغم من الضغط المجتمعي الذي تتعرّض له وإقصائها اجتماعيًا بعد ابتعادها عن عائلتها المُعنِّفة. وهذا عنفٌ آخر يشارك فيه كلّ أفراد المجتمع، تقول آمنة: “من المؤذي أن يتعاملوا معي كخطيئة، حتى أصدقائي أصبحوا يتواصلون معي في الخفاء خشية أن يعرف أحدٌ عن علاقتهم بي”.
شكّلَت منصّات وسائل التواصل الاجتماعي بدائل فعالةً لهنّ للتعبير والكشف عن العنف
تصمت النساء عن العنف ويتعايَشن معه ويخشَين التعبير عنه خوفًا من تبِعات الكشف المُحتملة. لذلك ابتعدَت آمنة عن أصدقاءٍ يرون المرأة التي تترك منزل عائلتها إنسانةً فاسدة. تقول: “حتى بعد زواجي لا يصدّقون أنه زوجي، أو أن هناك مَن قَبِل بي. يعتبر المجتمع حرّيتي عارًا يلاحقني. أحاول ألّا أغذّي هذا الألم، لا أطلب من المجرم الاعتراف بفعلته، ولا أتناقش مع شخصٍ يرى أنّ التمسّك بالعائلة أهمّ من النجاة”.
ثمّة نساءٌ كثيراتٌ حول العالم يشبهن آمنة. لقد شكّلَت منصّات وسائل التواصل الاجتماعي بدائل فعالةً لهنّ للتعبير والكشف عن العنف، كان أشهرها حملة أنا أيضًا (Me Too). كذلك تنتشر مدوّناتٌ تنشر شهادات الضحايا/الناجيات مع إبقاء هوياتهنّ مجهولة، ما يُعدُّ تطوّرًا في الوسائل المستخدمة للتعبير، بعد أن كان الناس يعرضون مشكلاتهن/م الحميمة والعائلية في أبواب الاستشارات في الدوريّات المطبوعة وبرامج التلفزيون بحثًا عن حلول.
الفضاء الرقمي كعدالة نسوية
ترفض المجتمعات الأبوية أيّ أداةٍ علنيةٍ مثل شهادات فضح المتحرّشين والمُغتصبين على وسائل التواصل الاجتماعي والمدوّنات الإلكترونية، لأنها تكشف ركائزَها وتتحدّاها، وترى فيها وسيلةً للفضح والإقصاء والتدمير اقتصاصًا لجرمٍ “غير أكيد”. لكن ذلك في الواقع فرصةٌ للتحقّق من صحّة الاتهامات، وسوق الجناة إلى العدالة، والتشجيع على التبليغ عن المعنّفين والسير في خطواتٍ قانونية، عدا عن أثر ذلك على صعيد التعافي وكسر حلقة العنف، وهنا تبرز أهمّية النسوية الرقمية.
تجمع النسوية الرقمية بين الأختية والكتابة معًا، فهي تمكّننا من سرد قصّتنا بالطريقة الأنسب لنا، وتؤثّر في فهمنا للطبيعة المُجزّأة للعدالة. في الواقع، تشعر النساء، وكلّ من مرّ بتجارب عنف، بوَمضةٍ من السَّكينة والعدالة عندما تخرج السرديّة إلى العلَن، وإن كانت عدالةً غير رسمية، لكنها بالنسبة للضحايا والناجين/ات تشكّل دعمًا هائلًا. فهي وإن لم تصِل أبدًا إلى تغييرٍ تشريعي أو ثقافي، تساهم تدريجيًا في تكوين مجتمعاتٍ متعاطفةٍ وداعمةٍ تجمع بين أفرادٍ متشابهين/ات ضمن مجالٍ آمنٍ وحاضِن. عمليًا، إذا تشاركتُ أوجاعي مع امرأةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، أعلم أنها ستساعدني وتتعاطف معي وتسعى لإنقاذي.
تجمع النسوية الرقمية بين الأختية والكتابة معًا، فهي تمكّننا من سرد قصّتنا بالطريقة الأنسب لنا، وتؤثّر في فهمنا للطبيعة المُجزّأة للعدالة
إلى ذلك، تضيف وسائل التواصل الاجتماعي. مساحةً للناجين/ات والضحايا للتكلّم، وتزيد من فرص الوصول إلى وسائل آمنةٍ وخطوطٍ ساخنةٍ لإبلاغ السلطات وجمعيات الدعم. كما أنّ إعادة سرد التجربة وكشف المُعنِّف يرفع صوت الضحايا والناجيات/ين، ويقوّي فرص الاستجابة الحسّاسة للغةٍ جديدةٍ تعبّر عن العنف بأسلوبٍ خارج مفاهيم النظام الأبوي المعيارية، بحيث تصبح خيارات الناجين/ات ومطالباتهمن بإحقاق العدالة والتعامل مع حاجاتهمن أمرًا تلقائيًا ومفهومًا في المستقبل القريب. بالتالي، يتحتّم علينا التركيزُ على الأمن الرقمي ومحو الأمّية الرقمية لتفادي أن تُستخدَم وسائل التواصل الاجتماعي ضد الضحايا والناجيات/ين كوسيلة قمع وإسكات، وليكون المستقبل الرقمي آمنًا للأجيال المقبلة.
في الوقت عينه، من المهم إدراك أعباء ومخاطر العمل النسوي في الفضاء الإلكتروني، وأبرزها الألم العاطفي والنفسي الذي قد يصيب النساء المساهِمات في النقاشات النسوية وفي دعم الضحايا والناجيات/ين، نتيجة مشاركة تجاربهنّ المؤلمة مع العنف الذكوري، وقلقهنّ من أن يختبرنه مستقبلًا. كما أنّ التشكيك في شرعية الشهادات، نظرًا لمجهولية الناجيات في معظم الأحيان، وتأخّر الإفصاح عن التجربة بحسب توقيت المجتمع الأبوي، قد يُعرّضهن للتنمّر، والإقصاء المجتمعي، والتصيّد، والابتزاز الإلكتروني، والتهديد المادي والمعنوي، وطبعًا احتمال الملاحقة القانونية من قِبَل المُتّهَمين والمُعتَدين.
إذن، لتطوير الأدوات النسوية الرقمية، علينا النظر بعمقٍ إلى المساحات الافتراضية وإدراك تماثلها مع المساحات الواقعية وهياكل التمييز والقمع فيها. فعلى الرغم من توفّرها لمعظم الناس، لا تؤتي الأدوات الرقمية جدواها وتصبح أكثر نجاحًا وتأثيرًا في الواقع إذا ما اقتصرَ هيكلُها الرئيس على أفرادٍ يتمتّعون بامتيازاتٍ ماديةٍ وثقافيةٍ واجتماعية. فعندها، يهيمِن التمييز مجددًا وتُبنى هياكل قمعيةٌ جديدةٌ في الأوساط الافتراضية أيضًا. مثلًا، قد يتقبّل المجتمعُ النسوي الافتراضي ويتأثّر بآراء وأفكار امرأةٍ نسويةٍ متعلّمةٍ تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، أكثر من آراء وأفكار أخرى تنتمي إلى طبقةٍ عاملةٍ أو مقموعةٍ ثقافيًا أو عرقيًا. كذلك تُغيّب الفئاتُ المُهمّشة، والأقلّيات، ومناطق النزاع، والدول النامية عن البحوث والبيانات والتحليلات الرقميّة للتغيير النسويّ الحاصل على أرض الواقع والذي يصعب تحديد مدى تأثيره. بالتالي، على أهمّيته، يبقى النضال الإلكتروني النسويّ عملًا غير معترفٍ به إلى حدٍّ كبير، على الرغم من استنزافه الجهد والوقت، ومن دون عائدٍ مادي ملموسٍ في أحيانٍ كثيرة.
تفضّل المجتمعاتُ الأبوية أن تعبّر النساءُ عن العنف الذكوري ببكاءٍ خافتٍ يبلّل الوسائد من دون أن “يفضحن” أحدًا أو يتحدّين النظام القائم. لكن رغم كل الظلم ومحاولات الإسكات، ما زال النظام الأبوي يعجز عن سلب النساء رغبتهنّ في حياةٍ آمنةٍ وحرّة، ويفشل في منعهنّ من ابتكار سبلٍ للتضامن والنجاة. أتأمّل في الأدوات التي ستخلقُها نساء الجيل القادم، لكنني آمل في ألّا يكنّ في حاجةٍ ماسّةٍ إليها مثلنا.
* ملاحظة: جميع الأسماء الواردة في هذا النص مستعارة.