الجسدُ كساحة معركة: السايبورغ ورؤية نِسوية في البيولوجيا

بطلة هذه المقالة عبارة عن ناشط تحوّلَ إلى حيوان، وشخص مهووس بالعلم، وقرصان حيوي متجسّد، وخليط جندري ذاتي التنظيم، وشوكة في عين الخطابات العنصرية؛ هذه البطلة التابعة للعلوم النِسوية تُخلّ بتوازن هويتك البشرية. إنها الشكل الخليط للسايبورغ، وأنت أيضًا يمكن أن تكونها. ويصوّر رسم لين راندولف تلك الأيقونة النِسوية، حيث استُخدِم كغلاف لكتاب كلاسيكي في الدراسات النسوية: القرود والسايبورغ والنساء: تجديد الطبيعة (1991) .

مصطلح «السايبورغ» هو اختصار لكلمتَي الكائن (organism) السيبرنطيقي. ولطالما عبّرت الثقافة الشعبية عن هذا الانصهار بين الجسد والتكنولوجيا، والحيوان والإنسان، واللحم والمعدن، بأسلوب في غاية الجندرة، أي كروبوت مبالغ في أنثويته وإغراءاته، أو كمُبيد ذكوري. هذه هي النسخ الأكثر رواجًا في أفلام الخيال العلمي: الترمنايتور، والمرأة البيونيك، والشرطي الآلي، والمصفوفة، وشبح في الهيكل. فمن ناحية نرى فيها السايبورغات كآلات بشرية تحطيمية؛ سوبرمانات وسوبروومنات، ومن ناحية أخرى كآلات قتالية مبالغ في تصويرها الجنسي. ولكن لماذا تُعتبر السايبورغات، في الخيال العلمي أو كظاهرة علمية، ذات أهمية بالنسبة للنِسوية؟ لأن أجساد السايبورغات بيولوجية وتكنولوجية في آن، وهي عضوية وميكانيكية في آن. بمعنى آخر؛ أجسادهم مؤلفة دائمًا من مزيج من الطبيعة والثقافة، من أعضاء بشرية وأخرى مزروعة بشكل مرئي فيها. وبهذه الطريقة يجسّدون النقاش حول الثقافة والطبيعة الذي هو أساس كلِّ تدخلٍ نِسوي؛ على سبيل المثال مقولة سيمون دوبوفوار «لا يولد المرء امرأة، إنه يصبح كذلك».

فكرة السايبورغ هي النتاج الغريب للتلاقح المزدوج من قِبل أبوين اثنين، إذ نشأت عن علوم الطبيعة التي جاء بها الاستعمار الجديد، وعن عسكرية القوى العظمى إبان الحرب الباردة بين الشرق والغرب. ناثان كلاين ومانفريد كلاينس، عالِمان في خدمة الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA)، هما اللذان ابتكرا مصطلح «السايبورغ». كان لدى الرجلان رؤى بعيدة المدى حول الاستكشاف البشري تتجاوز السيطرة على الأرض. أيُّ جسدٍ سيكون قادرًا على تحقيق تلك الرؤى ويتحمّل الظروف القاسية للفضاء الكوني؟ في عام 1960 صدرت لكلاين وكلاينس مقالة جذرية في المجلة العلمية أسترونوتيكس بعنوان السايبورغات والفضاء، وَصَفا فيها إمكانات تطوير الجسد البشري كي يتلاءم مع البحوث في الفضاء. وقد لمّحا إلى قدرة الجسد على تحمّل البيئة الفضائية العدائية، عبر وصل مضخات الأدرينالين ذاتية التشغيل مع القلب مباشرة، بواسطة لباس فضائي تكون بطانته عبارة عن هيكل جلدي، أو حتى تقنيات بعيدة المدى كرفع مستوى الأوكسجين أو محتوى الرئة لدى الإنسان. كان باعتقاد كلاين وكلاينس أن توظيف السايبورغات في أهداف استكشافية وعسكرية، سوف يحسّن موقع الولايات المتحدة في معركتها الباردة مع الاتحاد السوفييتي حول الفضاء. حيث كان سباق الفضاء جزءًا من الحرب الباردة، تلك الحقبة من التاريخ التي كان فيها العالم مقسمًا سياسيًا وعسكريًا إلى شرق وغرب على طرفي الستار الحديدي، أو بالأحرى حلف شمال الأطلسي مقابل حلف وارسو. كان السايبورغ، كجسدٍ تقني محسّن، هو ردّهما على هذا العالم المقسّم، لأنه سوف يزيد من ثقل الولايات المتحدة. وسرعان ما تطورت في الواقع بعض التقنيات البيولوجية في العلوم المجهرية والطبية على حدٍ سواء. كما حاول العلماء في المعاهد العسكرية والبحوث الأخرى دفع الحدود بين الطبيعة والثقافة.

وفي حقبة تاريخية صار فيها كل سنتيمتر من الأرض مسيطَرًا عليه ومُستعمرًا ومراقبًا من قِبل الأقمار الصناعية، فتح السايبورغ المجال لاحتلال مساحة أكبر خارج الغلاف الجوي وداخل الجسد. بعض الأفكار تمّ تطبيقها مباشرة (زرع الأعضاء) أو تطوّرت في أعقاب الحرب الباردة (مشروع الجينوم البشري واسع النطاق). كما انبثقت عن الصناعة العسكرية بعض التقنيات الطبية، كالتصوير الشعاعي والتصوير المقطعي المحَوسب، التي طوّرت المعرفة بالجسد. وصار من الممكن تحديد كل سنتيمتر من الجسد والسيطرة عليه، لأن المبرمجين والخبراء زوّدوا العِلم باحتياجاته الجديدة. كان مفروضًا على سايبورغات الحرب الباردة أن تعمل وفق المنطق العسكري C31: القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات. وهكذا تمّ استبدال القوة الغاشمة بالتقنيات الذكية بغرض الإدارة والضبط الفعّالين (هاراوي 1991a : 164). وتحوّلت السيبرنطيقا، أي العلم المختصّ بالتحكم والتغذية الراجعة والسيطرة الآلية والاتصال داخل الكائنات الحية والنظم الأخرى ذاتية التحكم، إلى الجسد البشري والمجتمع ككل.

مصطلح السيبرنطيقا قديم نسبيًا، ومستَنبط من الكلمة الإغريقية «كوبرنار»، أي الإدارة أو القيادة. ولا ننسى أيضًا الكلمة الإنكليزية «government» التي جاءت من المصدر ذاته. ولم تنسحب السيبرنطيقا على العلاقة مع الجسد إلا في عام 1960، حيث صارت تعني مراقبة المعلومات الجينية أو المحوسبة والتحكم بها. ومن وحي السيبرنطيقا، تصوّرَ كلاين وكلاينس السايبورغ كجسدٍ يحتوي على منظومة تغذية راجعة اصطناعية يمكن التحكم بها، أي كآلة بشرية أو آلة حيوانية. لم يكن السايبورغ بريئًا إذن، بل مصنوعًا كأداة حرب وإمبريالية. بعد أن كان الأمر مجرد خيال علمي حول المقاتلين والرحّالة الشجعان، تحوّل إلى نموذج ثقافي أولي. ولم تنتشر السايبورغات كخيال علمي فحسب، بل تطوّرت كذلك إلى واقع علمي. حين نبحث في أصل السايبورغ، سنرى أن الحدود بين الحقائق العلمية والخيال الاجتماعي حول التكنولوجيا ليست واضحة. وهكذا استطاع كلاين وكلاينس أن يزرعا في الفئران المخبرية مضخات تناضحية تتحكم بالكيمياء الحيوية في جسم الحيوان، وتفرز جرعة محددة من مادة معينة من أجل البحث الطبي. وسرعان ما التحق الإنسان بالركب، فحصل على عمليات غسيل كِلى متقدمة وناظمة قلبية وأعضاء اصطناعية وأدوية لرفع سوية المزاج وجراحة ترقيعية. وتمّ ربط الطيّار العسكري عبر مجسّات بواجهة الطيارة القتالية. وتمكنت النساء من التحكم بمنسوب الهرمونات: المرأة التي تبلع حبة منع الحمل، تستخدم من حيث المبدأ تقنية السيبرنطيقا. غدت هذه التكنولوجيات لا تُقاوَم، لأنها ساعدت على صيانة جسم الإنسان المقرقع وأطالت حياته. وقد انتشرَ وتنوّعَ هذا التعاون بين الإنسان والآلة إلى درجة يصعب معها شملها في تعريف. وصار تصوّرنا عن الآلة البشرية، وانصهار الطبيعة بالثقافة، يشمل كلًا من ذلك المريض المشلول المعتمد بشكل كامل على التقنيات العالية، مرورًا بتطعيم كل طفل وليد، وصولًا إلى صناعة أدوية على مقاس الفرد والحشرات المسلّحة. وتحولت السايبورغات، في شكلها الطبي المُطيل للعمر وفي شكلها العسكري الخطير على الحياة، إلى رمز العصر الحديث المتأخر.

في هذا السياق، ينطوي السايبورغ على وعدٍ وتهديدٍ للمستقبل في آن، ويشكل تحديًا جديًا لموقفنا من أنفسنا وجسدنا والبشرية. وكشخصية تاريخية، يمثّل السايبورغ قوة علوم الطبيعة الهدّامة والخلاقة في آن. لم تُبتكر القنبلة النووية والحرب الكيماوية فحسب، بل التقنيات التي تفصل التكاثر عن الجنس الغيري عبر تطوير إخصاب الأنابيب وزرع الأجنة، بحيث يتم تقديم المساعدة للأزواج غير القادرين على الإنجاب. وهكذا تقاطعت دروب السايبورغ مع النِسوية. ذلك أن السايبورغ تسبّبَ في إعادة تعريف جذرية للأجساد والهوّيات وخطابات البيولوجيا بشكل عام. لم تعد البيولوجيا عمل الرب والطبيعة غير المتغيرة (فقط)، وإنما عبارة عن مادة بيولوجية مرنة وقابلة للعجن. وطبعًا استفادت النِسويات كثيرًا من تلك التغييرات. وكمجاز حيّ عن الأقطاب المندمجة، على المستويين الفردي والمجتمعي، جسّد السايبورغ روح عصر العوالم المتحاربة. وانقلب إلى وحش متخيَّل واعد، والحقّ أنه فتح السبيل إلى خيال نِسوي رائد. وألهم التطورات النسوية والتطبيقات العلمية العابرة للتخصّصات، وأصبح أداة في يد النسوية لنقد الحتمية البيولوجية، فهو يؤشكل فكرة أن مكانة المرء في المجتمع محددة طبيعيًا، ومعطاة مع الولادة، ومرتبطة بالجنس واللون والعجز الجسدي والتركيبة الجينية.

مشكلة البيولوجيا

مثل جميع الفروع الأكاديمية، خضعت البيولوجيا اعتبارًا من السبعينيات إلى تقييم ناقد من قِبل النِسوية. ولم تهتم النِسويات البيولوجيات باللامساواة بين الجنسين في العالم الأكاديمي فحسب، بل على وجه الخصوص بالمركزية الذكورية التي كانت تميّز ذلك التخصص. ففي المرافعات المجتمع – بيولوجية التي انتشرت في نهاية السبعينيات، تمّ اختزال مسألة ابتكار حلولٍ للسلوك العدواني والمناطقية والعنصرية وتفوّق الرجال، إلى قضية برمجة جينية. فرأى بعض علماء السوسيوبيولوجيا الذكور، كريتشارد دوكينز وإدوارد أوسبورن، أن سلوك زير النساء لدى الرجال وعفة النساء عبارة عن حقائق بيولوجية. حتى أنهما قالا بأن الأنانية والرأسمالية والأبوية يتم تحديدها جينيًا، ولذلك تُشكل عقبات لا يمكن أن تتجاوزها النساء في سعيهنّ نحو التحرر. حسب رأيهما، النِسوية ضد الطبيعة.

من سيمون دوبوفوار إلى جوديث بتلر: كثير من المنظّرات النسويات يرفضنَ هكذا تبريرات بيولوجية لوضع المرأة في المجتمع. والرؤيةُ القائلةُ بأن فرصة التغير الاجتماعي معدومة، وأن على النساء تقبّل محدوديتهنّ، تُعبّر في نظرهنّ عن آراء رجال لا يستثمرون سلطتهم العلمية بهدف دعم حقائق بيولوجية، بل من أجل ترسيخ قيم أبوية في المجتمع. لذلك تنبذ النِسويات الحتمية البيولوجية، التي تضع جميع الفروق الجنسية في قوالب نمطية جندرية وعنصرية، ويساندنَ فكرة أن الجندر بُنية اجتماعية. وفي عام 1949، عبّرت دوبوفوار عن ذلك المنظور البنائي – الاجتماعي في مقولتها الشهيرة: «لا يولد المرء امرأة، إنه يصبح كذلك». وحسب هاراوي تتجذّر جميع المعاني النِسوية الحديثة في تلك المقولة (1991a:131). وترى بعض النِسويات أن الجندر هو شيء «نفعله»، أي أنه عبارة عن تعليمات تتكرر باستمرار، وقد نتبعها أو لا نتبعها بطريقتنا الخاصة (ويست & زيمرمان 1987؛ بتلر 1990). الجندر ليس حقيقة ثابتة أو بسيطة أو طبيعية. ومن خلال الفصل بين الجندر كبنية اجتماعية والجنس كفئة بيولوجية، يمكننا محاربة الاعتقاد بأن اللامساواة الاجتماعية مُبرَّرة لكونها متجذّرة في البيولوجيا (بتلر 1990).

1.تفترض العالِمة النِسوية روث هوبارد (1990) مثلًا أن الأجساد الأنثوية متشكّلة ثقافيًا ضمن الخطابات البيولوجية أكثر من الأجساد الذكورية، وبأن الهدف السياسي لذلك هو بسط السيطرة. وتقول إن الطبيعة لا يمكن سبرها ببساطة من خلال العدسة الثقافية للأبوية، بل إن الثقافة تبني جزئيًا الأجسادَ الفيزيائية

وقد تمّ تكريس الفرق بين الجنس والجندر من أجل فهم الآليات التي تشكّل الأرضية للاختلاف الجنسي، ومن أجل محاربة الفكرة الفرويدية القائلة مثلًا بأن مصير المرأة محصور في تشريحها (فرويد 1931). أصبح الجندر مقياس البحث النِسوي، فحرّك فيضانًا من الدراسات حول البنى المشبعة بالسُلطة والجندر في اختصاصات كالتاريخ وعلم الاجتماع والطب والعلوم الدقيقة. وقد أنتج النقد النِسوي معرفةً حول كيفية تشكيل الافتراضات الجندرية للأفكار الشعبية والعلمية حول الجسد البيولوجي (بلاير 1984؛ فوكس-كيلر 1985؛ هوبارد 1990؛ مارتن 1991؛ بيركه 2000). حيث عبّرت عالمة البيولوجيا ومنظّرة العلم النِسوية ليندا بيركه عن المشكلة مع البيولوجيا كما يلي: «لطالما تمّ تعريفنا نحن النساء من خلال البيولوجيا. إنها قصة معروفة؛ التشريح قدرٌ وهرموناتنا تجعلنا مجنونات أو سيئات، الجينات هي التي تحدّد من نحن» (2000:1). غير أن المشكلة في الفصل المُثمر بين الجنس والجندر هي أن الانشطار الثنائي التقليدي بين الطبيعة والثقافة يبقى على حاله1. وفي الوقت نفسه، تقول العالمات النِسويات إن التركيز على تغيّر الجندر المتشكل ثقافيًا سوف يُفضي إلى التقليل من شأن قدرات ومحدوديات الجسد البيولوجي. وقد حاولنَ بشتى الطرق العثور على حلٍ للتمييز غير الواضح بين الطبيعة والثقافة وبين الجنس والجندر. قالت عالِمة الطبيعة النِسوية روث هوبارد (1990) إن أجساد النساء متشكّلة ثقافيًا ضمن الخطابات البيولوجية أكثر من أجساد الرجال، وبأن هدف هذا الخطاب هو السيطرة على النساء. وأضافت أن الطبيعة لا يمكن سبرها وفهمها من خلال العدسة الثقافية للأبوية فحسب، بل إن الثقافة تبني جزئيًا الأجسادَ البيولوجية بحدّ ذاتها. بالعموم، لقد قامت حقول البحث النسوي الواسعة بمقاربة الجسد والبيولوجيا من خلال زوايا نظر متباينة جدًا ومتناقضة في بعض الأحيان.

وقد ركّز النقد النسوي الجذري للبيولوجيا على الفهم المجندر للطبيعة. ففي التفكير والعلم الغربييَن، لطالما قُسِّم العالم إلى طبيعة من جهة وثقافة من جهة ثانية. والثقافة تعني هنا تلك التغييرات التي سببها الإنسان مع مرور الزمن، والطبيعة هي العالم البِكر والثابت واللامتغيّر منذ الأزل. ولكن كما أن للعلوم، ومن بينها البيولوجيا، تاريخًا، فإن للطبيعة تاريخًا كذلك: تاريخ النشوء والارتقاء. في تاريخ العلم الغربي كان الإنسان يبحث غالبًا عن «طبيعة الطبيعة». وقد تمّ ربط هذا السؤال العلمي الأساسي رمزيًا بأسئلة حول طبيعة «المرأة» و«البري»، لأنه كان يُنظر إليهما كالضدّ الدوني للـ«الرجل المتحضّر» (بيرلد & ليكه 2000). وقد تمّ تعريف «العِرق» والجنس بمصطلحات متضادة وتراتبية، بحيث صار الرجل النموذجي هو المعيار المُفترَض ونقطة الانطلاق. كما صارت الفروق البدنية مؤشرًا على التراتبية الطبيعية التي يتوجب انعكاسها في النظام الاجتماعي: على رأس تلك التراتبية يتربّع الرجل الأبيض الرشيق الذي يكسب مالًا وافرًا. وهكذا تمّ تكريس البيولوجيا من أجل تصنيف كلّ تلك الفروق البدنية والظاهرية كفروق جوهرية. وبدعم من سلطة العلوم الدقيقة، أصبحت البيولوجيا السبيلَ إلى اكتساب المعرفة عن المجتمع بامتياز. وقد أدّى هذا التوجه التاريخي على سبيل المثال إلى بعثات القرن التاسع عشر وقياس الجمجمة، ومعسكرات الإبادة في القرن العشرين، ومشروع الجينوم البشري واسع النطاق في القرن الحادي والعشرين. وصار كما لو أن اكتشاف التفاعل الداخلي للبيولوجيا معادلًا لفهم التفاعل الداخلي للمجتمع. وبالفعل، اكتشفت عالمات التاريخ النِسويات والناشطات ضد العنصرية أن العلماء لم يعثروا على فروق السلطة الاجتماعية في البيولوجيا بطريقة حيادية، بل نشطوا لإدخالها فيها.

وقد انتقدت النِسويات هذا المعتقد الشامل وتقديس الطبيعي كنموذج للاجتماعي، عبر الإشارة إلى كون المؤسسات المُنتِجة لهذه المعرفة حول الطبيعة ليست حيادية أو من دون مصلحة. بل على العكس، حتى علوم الطبيعة يتم تحديدها ثقافيًا، وتشكل جزءًا من المجتمع المقسّم على الحدود الجندرية، ولذلك هي عرضة للتغيّر التاريخي. لذلك أظهر مؤرخو العلم كيف أن الفهم العلمي للطبيعة والحقائق السابقة نشأت تحت تأثير المعايير الجندرية في المجتمع.

وفي 1980 صدر كتاب كارولين ميرشانت موت الطبيعة: النساء والإيكولوجيا والثورة العلمية. وقد حاولت الكاتبة من خلال الربط بين تاريخ البيئة والنظرية النِسوية وتاريخ العلم، أن تصف علوم الطبيعة كثقافة متميزة ذات تاريخ ثقافي خاص بها. ففي ذلك التاريخ، لا يمكن فصل الكارثة البيئية الراهنة والسيطرة على الطبيعة وعدم تقدير إنتاج النساء للمعرفة العلمية عن بعضها بعضًا. هذه الأمور متأثرة بعلوم الطبيعة بالشكل التي كانت عليه في القرن السابع عشر. وقد تمّت الإشارة في دراسات أخرى، إلى أن النساء أُقصينَ في الماضي رسميًا من الشهرة والمناصب الاجتماعية المهمّة، أما اليوم بتنا نعزو انخفاض نسبة النساء في العلوم الدقيقة بالدرجة الأولى إلى مَعيرةٍ تقليدية ضمنيًا. وكما قال المؤرخ ديفيد نوبل، فإن العلم الحديث في القرن السابع عشر كان يقصي النساء كذوات وكموضوع للبحث على حدٍ سواء (1992).

يمكننا العثور في تاريخ علوم الطبيعة على أمثلة كثيرة عن الأساليب التي اعتمدها العلماء في عكس اللامساواة الاجتماعية بخصوص «العِرق» والطبقة والجندر والمغايرة على الطبيعة. والنتيجة هي أنْ صارت الطبيعة كما لو أنها قادرة على توضيح العلاقات المجتمعية والتراتبيات (ميرشانت 1980؛ جاردونوفا 1989؛ فاوستو-ستيرلنغ 1992؛ شيبنغر 1993). هذه الفروق المجتمعية مسجّلة في شتى الفروع البيولوجية، كالدم والجينات والهرمونات والأجنة والأعضاء التناسلية والدماغ والعظام (مول 1989؛ لاكور 1990؛ آودسهورن 1994؛ هاراوي 1997؛ كلينجه 1997). وطبعًا لم تنأى جميع القراءات النِسوية للعلم والبيولوجيا بنفسها عن العلوم البيولوجية، على أمل أن تقدّم شيئًا للنساء. وهكذا ارتأت شولاميث فايرستون، إحدى مؤسسات New York Redstockigs وكاتبة برنامج جدلية الجنس (1970)، أن امتلاك النساء للطب والتكاثر سوف يعبّد الطريق إلى التحرر. فبوسع علوم الطبيعة والتكنولوجيا أن يُحررا المرأة من العمل (المنزلي) القاتل للروح وإنجاب الأطفال، من الإنتاج وإعادة الإنتاج كحجرَي زاوية للمجتمع الرأسمالي التي تريد فايرستون أن تغيره جذريًا. ففضلًا عن الإجهاض، سوف تقوم تكنولوجيا التكاثر، كأطفال الأنابيب ونمو الجنين خارج الرحم (ما زال التكوين الخارجي تقنية متخيلة)، بتحرير النساء من الحمل والإنجاب والعناية، أي من أهم العوائق التي تقف في وجه تحرير المرأة بحسب رؤية فايرستون الطوباوية. فمن منظورها يكون التحرّر في السيطرة والسلطة على جسد المرأة، وبالأخص الخصوبة والجنسانية. غير أن المشكلة تكمن بحسب فايرستون في جسد المرأة ذاتها، وفي الأمومة البيولوجية، التي يمكن أن يوضع حدٌ لها من خلال الحلول التكنولوجية الحيادية. وقتئذ سوف تصبح المساواة بين الجنسين حقيقة.

2.التكنوفيليا (الوَلع بالتكنولوجيا) هو عكس التكنوفوبيا (رهاب التكنولوجيا). التكنوفيليا هي عبارة عن تفضيل قويّ للتقدم العلمي والتكنولوجي فيما يتعلق بالتطور المجتمعي. وتشير التكنوفوبيا إلى الخوف من الاعتماد المجتمعي على التكنولوجيا التي قد تفضي إلى نزع الإنسانية. وكلا الموقفين ينطلقان من القدرة التحويلية للعلم والتكنولوجيا.

وقد نشرت فايرستون طوباويتها في زمنِ تصاعدِ المقاومة النِسوية للتطبيقات الجينية المعادية للنساء ولتكنولوجيا التكاثر (فحص جنس الجنين بغرض إجهاض الأجنة الأنثوية). وأعتى مقاومة لولعها بالتكنولوجيا جاء من طرف المجموعة النسوية الجذرية FINRRAGE، وهذا اختصار للشبكة النِسوية الدولية لمقاومة الهندسة التناسلية والوراثية (على سبيل المثال: أرديتي وغيرها 1984؛ كوريا وغيرها 1985)2. نظرت هذه المجموعة إلى تطوّر تكنولوجيا التكاثر على أنه ذروة الاستغلال الأبوي لجسد المرأة، وربطته أوتوماتيكيًا بالتعديل الوراثي وتحسين النسل والطفل المُصمّم. في رأيهن، تهدد هذه التقنيات المصدرَ الفريد لقوة النساء: القدرة على منح الحياة. وبحسب إحدى المتحدثات باسم المجموعة جينا كوريا، فإن تكنولوجيا التكاثر ستحوّل النساء إلى آلات إنجابية في «بيوت دعارة مختصّة بالتكاثر» شبيهة بأسلوب تعامل الفلاحين مع ماشيتهم في الصناعة البيولوجية. فمن منظور مجموعة FINRRAGE، الذي كان في بعض الجوانب معاكسًا تمامًا لرؤية فايرستون المتفائلة بالتكنولوجيا، ينبغي على النساء استعادة امتلاك الأمومة البيولوجية والتفكير الأمومي، بغية معارضة ميل الرجال إلى التدمير والرضا عن الذات. كما اعتبرت FINRRAGE التقنيات التكاثرية والجينية كمحاولة من أجل احتلال آخر المساحات غير المُستكشَفة، والسيطرة على «الحياة بحدّ ذاتها»، ومنح الإنسان النفوذ الكامل على الطبيعة. والنسخةُ الدقيقةُ عن ذلك النقد نجدها لدى النِسوية البيئية وحركات العدالة الإيكولوجية التي تُحمّل الثقافة الأبوية الغربية العنيفة مسؤوليةَ الحرب البيولوجية والبيوقرصنة الإمبريالية ونتائج التقدم التكنولوجي على البيئة (شيفا& موسر 1995).

قبل أن يصبح السايبورغ المريع مفهومًا في الدراسات الجندرية، يبدو أن النِسويات كُنّ ميّالات إلى اعتبار العلم كمؤثر (كالنسويات البيئيات ومجموعة FINRRAGE) أو حيادي (فايرستون)، وانطلاقًا من ذلك الموقف قمنَ باستنتاجات مبالِغة بالتشاؤم أو التفاؤل. في الحالة الأولى، يتمّ النظر إلى العلم على أنه أبوي واستعماري ورأسمالي ومسؤول (جزئيًا) عن استغلال الطبيعة والسكان الأصليين. من خلال هذا المنظور، تصبح النساء ضحية التكنولوجيا التي تخدم الرجل بغرض السيطرة على جسد المرأة. أما المنظور الثاني الذي يرى العلم حياديًا وأداتيًا، فيُفضي إلى استنتاجات سياسية من نوع آخر: يمكن أن يكون العلم أداة حيادية تحرّر النساء من أجسادهنّ الولّادة. ونجد بعض آثار ذلك التفاؤل الذي طغى في السبعينيات لدى النِسويات السيبرانيات في التسعينيات. فهنّ يجدن التواصل الاجتماعي الإلكتروني والإنترنت ملجًأ لا أهمية للجسد فيه، فيسمح للنِسوية أن تنتشر كالفيروس في محيطها (بلانت 1997؛ برايدوتي 1996؛ هوفد 2015).

ولطالما احتلّ الجسد أثناء الموجة النِسوية الثانية مكانة مركزية في تحليل علاقات السُلطة في النظام الأبوي (فايرستون 1970؛ ميتشل 1971؛ ماكينون 1982). وقد جعلته النِسويةُ موضوعَ تحليلٍ ثري، فانتشرت الدراسات حول الجسد البيولوجي في مجال الاختلاف الجنسي، وفي ميادين النظرية الكويرية، ودراسات الجسد، ونظرية كريب، ودراسات الإعاقة النقدية (بوردو 1993؛ برايدوتي 1994؛ ديفيس 1997؛ فريزر & جريكو 2005؛ شيلدريك 2009). غير أن ليندا بيركه (2000) وغيرها من العالِمات النِسويات المُنشغلات بالمادية (آلايمو & هيكمان 2009؛ أسبيرغ & بيركه 2010)، يجادلنَ في الوقت نفسه أن البحث النِسوي أهمل الجسد البيولوجي من الناحية المادية واللحمية الحقيقية من خلال النظر إليه ككيان ثقافي فقط. وقد قدّرت بيركه وغيرها من النِسويات الماديات قيمة النظريات النِسوية حول النقش الثقافي على سطح الجسد، ومع ذلك تشير بيركه إلى أن تلك النظريات أفضت على عكس المتوقع إلى اختفاء الجسد في تلك العملية. ذلك أن الاهتمام بالتفسيرات الاجتماعية والنفس-تحليلية للعمليات الجسدية، لم يترك مجالًا في ذلك النوع من البحوث للفهم الفيزيولوجي للعمل الداخلي للجسد. مما أدى إلى بقاء الجسد الداخلي تحت رحمة أدوات خبراء الطب الحيوي وسلطاته التقليدية. وقد انشغلت بيركه كعالِمة بيولوجية بقضايا صحيّة نِسوية وبحقوق الحيوان، وطالبت بمدّ الجسور بين علوم الطبيعة والعلوم الثقافية، ذلك أن علم الأحياء يملك في جعبته أكثر من مجرد التفسيرات الحتمية لعمل الطبيعة. في رأيها، بعض أدوات العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية غير قادرة على حلّ مشاكل بيولوجية عنيدة. لذلك نراها تدفعُ النِسويات نحو أشكلة فكرة أن الجسد الطبيعي ثابت وغير متغير، وتُرافعُ من أجل تطوير علم طبيعة نِسوي وإجراء بحوث نِسوية حول علم الطبيعة والتكنولوجيا.

مراجعات نِسوية للبيولوجيا

لقد قدّمت دراسات العلوم والتكنولوجيا النِسوية كثيرًا من النظريات والمفاهيم المهمّة للنظرية النِسوية العصرية، إلا أنه قلمّا تمّ الاعتراف بها كميدانٍ فرعي ذي تأريخٍ خاص وعناصر ما بعد تخصصية (أسبيرغ & ليكه 2010). وكما نشأت دراسات المرأة عن الحركة النِسوية، فقد نشأ البحث في علوم الطبيعة والتكنولوجيا عن الحركة الصحيّة والنقد النِسوي المبكر للعلوم الدقيقة، واهتمام النساء بالمسائل الطبية والإيكولوجيا والعلوم الطبيعية. لدراسات العلوم والتكنولوجيا النِسوية جذورها إذن، وهي ليست مجرّد محطة في تاريخ نشوء دراسات العلوم والتكنولوجيا السائدة (ليكه 2002:140). وتنحدر بعض جذورها من حركة الطب الذاتي النِسوي، ومن أجسادنا، أنفسنا الشهير. حيث صدر هذا الكتاب في بادئ الأمر عن دار نشر أميركية تُعنى بصحة النساء (1971)، وانتشر لاحقًا في جميع أنحاء العالم، فأُضيفت إليه زوايا نظر جديدة اشتغلت عليها مجموعات نسائية أخرى (ديفيس 2002).

3.كتبت العالمة النِسوية المختصة بأنثربولوجيا العلوم، إيميلي مارتن، عملين تأسيسيَين في هذا المجال: كتاب المرأة في الجسد: تحليل ثقافي للتكاثر (1987)، ومقالة عنوانها البويضة والنطفة: كيف أسس العلم لتقسيم نمطي ورومانسي للأدوار بين المرأة والرجل؟ (1991).

كما حلّلت النِسويات الخطاب الطبي بعمق، ونظرنَ إلى الأفكار القديمة حول الهيستيريا والنيمفومانيا، وكذلك إلى الأفكار الحديثة حول المتلازمة السابقة للحيض واكتئاب ما بعد الولادة وفقدان الشهية العُصابي. وكانت إحدى النتائج أن الخطاب الطبي بأسره، حتى في تفاصيل مقالة علمية حول علم الأحياء الخلوي، خلق تصوّرَ أن الجسد الأنثوي أكثر عرضة للأمراض والعلل من الجسد الذكري3. لذلك استنكرت النِسويات فكرة أن يكون جسد الرجل هو نقطة انطلاق حيادية ومعيارية، من خلال إثبات أن أمراض النساء وأعراضها وطريقة التواصل حولها تختلف عن الرجال (لارخو-يانسين 2012).

وتستعرض عالمة الاجتماع النِسوية والمختصة بالجسد كيثي ديفيس (1997:6) أنه فضلًا عن الخطابات الطبية ونقاشات التكاثر، ثمّة مواضيعُ مهمّة في دراسات الجسد النِسوية، كالجنسانية والعنف الجنسي والأحاسيس الجنسية. كذلك تمّ البحث في أمثولات الجمال والموضة وعمليات التجميل كعناصر في تجربة النساء الجسدية (بوردو 1993؛ ديفيس 1995؛ شيلدريك 2009). كما تناول البحث النِسوي جسد الرجل والتجارب الرجولية، على سبيل المثال؛ كيف يُغيّر الرجال أجسادهم بشكل متكرر من خلال الفياغرا وبلع الهرمونات واستخدام العضو الذكري الاصطناعي (أسبيرغ & جونسون 2009).

4.يمكن للأجساد النسائية أن تمثل مجازًا بالنسبة للدولة القومية، مثلما تمثّل «ماريان» فرنسا ما بعد الثورية. ما يعزز الفصل الرمزي بين «نحن» و«هم»، والذي يُفضي بدوره إلى تكتيكات حربية، كالاغتصاب الجماعي لنساء القومية المعادية. هذا ما يمكن استنتاجه من خلال البحوث النِسوية حول القومية والصراعات (على سبيل المثال: كوكبورن 1998).

كذلك تُطرح مسائلُ كالعلاقة بين العنصرية والعلوم الطبيعية والجسد في أعمال العديد من الباحثين في العلم (جيلمان 1985؛ كولينس 2000 [1990]؛ هوكس 1990؛ هاموندس 2000؛ موليناري 2004). إن علم الأعراق في العصر الأوروبي الحديث، أي حقبة العصور الوسطى المتأخرة والتنوير والثورة الصناعية إلى يومنا هذا، الذي صار علماء البيولوجيا المعاصرون يعتبرونه عنصريًا، كان قد ابتُكِر لتبرير النظام الاستعماري الأوروبي والاستغلال والعبودية. وقد استعرضت أنّا ماكلينتوك (1995) وأنّا فاوستو-ستيرلينغ (1995) كيف أن العلماء الأوروبيين الرجال في العصر الحديث صنّفوا أجسادَ النساء الأفريقيات ضمن فئة خاصة. وافترضوا أن النساء الأفريقيات أكثر بريّةً وإفراطًا من الناحية الجسدية، وأقل قيودًا وأكثر حيوانية من النساء البيضاوات (وقد وصل الأمر أن استُخدِمت تلك النساء كفئران مخبرية، شيءٌ أشبه بالحيوانات المخبرية في أيامنا هذه – انظروا أيضًا في باوكما 2015). كما تمّت مَثْلنة النساء البيضاوات المُنتميات للطبقات العليا ( الزوجات المحتملات) إلى درجة كبيرة، من خلال خلق تناقض حاد جرّاء الأفكار الأبوية حول الجمال والأفكار الصاعدة في علم وراثيات السكان (تحسين النسل). واعتُبِرت النساء ملكيةً للرجال وآلة تفقيس القومية الأوروبية، لذلك توجب حماية سلامة أجسادهنّ ونقائهنّ الهشّ من التأثيرات الخارجية مهما كلّف الأمر. وقد أثّرت الصورة التي كانت وقتئذ في أذهان الناس عن النساء الأفريقيات، والتي نشأت عن العلوم الطبيعية، على الثقافة الشعبية. خذوا على سبيل المثال جوزفين بيكر (حوالي 1920)، وغريس جونز (حوالي 1980)، وكذلك بيونسيه كماركة وهوية (حوالي 2010)، اللواتي صُوِّرن جميعهنّ كرموز حيوانية ومفرطة جنسيًا وغرائبية للاختلاف عن البياض4.

5.وقد كشف البحث النِسوي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات عن تنوع كبير: من القراءات المتجذرة والدقيقة لمفاهيم وتطبيقات العلم الداعمة، وصولًا إلى إعادة تفسير إبستمولوجية لطريقة إنتاج العلم وتقييمه (انظروا على سبيل المثال فوكس-كيلر 1985)6.دراسات العلوم والتكنولوجيا عبارة عن اسم جماعي لشتى المقاربات للعلم والتكنولوجيا كظاهرة مجتمعية. إنها ميدان عابر للتخصصات، حيث يتم وضع العلم والتكنولوجيا في سياقهما التاريخي والفلسفي والمجتمعي تحت المجهر. في البداية تمّ النظر في كيفية تغلغل العوامل الاجتماعية في العلم، انطلاقًا من فكرة أن العلم الصحيح يكون خاليًا من أحكام القيمة والمصالح. وقد تطورت دراسات العلوم والتكنولوجيا إلى سوسيولوجيا العلم، وراحت تركز على منتجات العلم، كادعاءات الحقيقة التي تصدر جرّاء عوامل مجتمعية والعملية العلمية نفسها. وصار الهدف الأهم هو الفكرة الوضعية القائلة بأن العلم كيان يطور نفسه بنفسه، ويتم تحويله ضمن تسلسل منطقي إلى تطبيقات تقنية تحدد التطور المجتمعي، أو ما يسمى بالحتمية التقنية (ليكه 2002:139).

بعد فترة من الحذر حيال البحث في موضوع الجسد ضمن النظرية النسوية، دخلَ الجسد البيولوجي ككيان فيزيائي وثقافي في عمل النِسويات المتخصّصات في البيولوجيا أو العلوم الطبيعية (على سبيل المثال: روث هوبارد، روث بلاير، ليندا بيركه، إيفيلين هاموندس، بات سبالون، أنّا فاستو-ستيرلينغ، إيفيلن فوكس كيلر، دونّا هاراوي)5. فقد ساهمت هؤلاء الكاتبات في دراسات العلوم والتكنولوجيا، وشكلنَ فرعًا نِسويًا يرصد كيف أن الادعاءات العلم-سياسية السائدة حول الجسد لا يمكن اعتبارها حقائق طبيعية وبدهية6. ورغم أن مساهمتهنّ لم تحصل على تقدير زملائهن من الرجال، إلا أنهنّ تدخلنَ في خطاب العلوم الطبيعية وممارستها (هاراوي 1997)، وما زالت دراسات العلوم والبحوث النِسوية في المادية يُعاد اكتشافها من جديد.

7.قارنوا مع حركة «العدالة الإنجابية»، والتي تطالب بالانتباه للكارثة العالمية بما يخصّ العناية بالنساء السوداوات. تحاول الحركة أن تحدّ من العجز الذي تعاني منه النساء السوداوات أثناء الحمل والولادة، وأن تمنح أصوات النساء السوداوات مكانة مركزية في النقاشات (أوبرا & بونابرت 2915).

وقد أشكلت العالمات النِسويات فكرة الجسد البيولوجي من خلال أربع وجهات نظر (مول 1989). أولًا: انكبّت النِسويات على حتمية البحوث الطبيعية العلمية، أي افتراض أن التشريح يحدد مصيرك. كانت الحقائق البيولوجية حول الجسد، وبخاصة الأنثوي والأسود والحيواني،  تُستخدم كتفسيرٍ لفروق السلطة المجتمعية وتبريرٍ لها. ولكن النِسويات قوّضنَ تلك الحتمية البيولوجية من خلال الفصل بين الجنس والجندر، فأشرنَ إلى البنية الاجتماعية (البعد المُجندَر والمُعرقَن مثلًا) للبيولوجيا نفسها، وإلى الأخطاء التاريخية بخصوص الحقائق البيولوجية (وقد نجحنَ على وجه الخصوص في انتقاد فكرة أن «العرق» يمثّل فئة بيولوجية بحد ذاتها). ثانيًا: انتقدت النِسويات العلمانوية؛ أي النفوذ شبه الديني الذي يمكله العلم وعمى الألوان وجنسنة إنتاج المعرفة. حيث قمنَ على سبيل المثال ببحثٍ تاريخيّ حول كيفية إهمال معرفة الدايات ومهاراتهنّ جرّاء صعود ظاهرة الأطباء والمُختصّين الذكور في الطب النسائي7.  وثالثًا: انتقدت النِسويات تشييء الجسد: أي الاعتقاد بأن الأجساد المبحوثة يمكن فهمها من الخارج دون وساطة النظرة أو التجربة. وقد أكّدنَ على أننا جميعنا، وكذلك الذات المبحوثة، نعيش في جسد ونتعلم من خلاله، وأن التفكير متجذّر في الجسد، بغض النظر عن مكانة الشخص العلمية. وتتفاقم الإشكالية حين يتم التعامل مع الأجساد المُشيّئة والطبيعة المُشيّئة كمصادر معرفة سلبية. وتترافق هذه القضية الأساسية في النقد النسوي البيئي مع النقطة الرابعة التي تستخدمها النِسويات في نقد الجسد البيولوجي: فكرة انعدام الجسد في العلوم الطبيعية. إذ تنطوي هذه الفكرة على أن الروح والتفكير العقلاني أهم من الجسد (فكروا هنا بمقولة ديكارت «أنا أفكر، إذن أنا موجود» والثنائية الديكارتية). ويفكّر أنصارُ هذه الفكرة كما لو أن الروح لا جسد لها (ليست مسجونة ومقتَدَرة من خلال جسد كامل وعلائقيّ)، كما لو أن عمليات التفكير تتم في ميدانٍ لا علاقة له بالجسد الحيوي؛ كما لو أن الذات قادرة على التفكير بمعزل عن الجسد. وقد اعتمد الهجوم النِسوي المضاد، على سبيل المثال من قبل النِسويات الظواهريات، على دراسة العلم كظاهرة ثقافية، والعلماء كمُتَحَدّين للثقافة. العلماء، نسويون وغير نسويين، هم جسديّون ومجندَرون ويتصرفون تبعًا لباقةٍ من النماذج والقيم والمعايير. فالجسد لا يتوقف على عتبة الجلد. وكثيرٌ من التطبيقات المادية هي في حقيقة الأمر امتدادٌ للجسد، كالمجهر الذي يقوّي القدرة على النظر، وكالأجساد الأخرى غير البشرية أو الحيوانية التي يتمّ زرعها كنماذج لأشكال الجسد البشرية. لطالما كان شكل المعرفة في البحث العلمي مشبعًا بتلك العلائق المادية والجسدية.

وقد اتبعت عدّة عالمات نِسويات هذه الأفكار، من بينهنّ ساندرا هاردينغ. فكتابها الرائد مسألة العلم في النِسوية (1986) يوثّق النقاش النسوي مع العلوم الطبيعية الذي وصفناه أعلاه، والذي جعل النِسويات ينأين بأنفسهن عن التفسيرات العلمية الرائجة للجندر. والسؤال الذي تطرحه هاردينغ، والذي لم تتوقف عن طرحه، على سبيل المثال في الموضوعية والاختلاف: منطق مختلف للبحث العلمي (2015)، هو: هل باستطاعة البحث النِسوي أن يُنتج معرفة أفضل وأكثر صحة وحيادية؟ تركّز هاردينغ على سؤال أيّ نمطٍ من المعرفة قد يولّد زاوية نظر نسوية. فبالإضافة إلى مسائل المساواة، اضطرت النِسويات إلى اتخاذ موقف نقدي حيال مَقدرة العلوم الطبيعية على تشكيل الواقع. وانطلاقًا من فكرة أن كل باحث متواطئ مع البنى السلطوية للإنتاج المعرفي، كما سيتبدّى لاحقًا في مجرى هذه المقالة، فإن مشروع نقد العلم يركز على تغيير العلم من داخله.

 

سايبورغ هاراوي

يشكّل السايبورغ مفهومًا مركزيًا في دراسات العلوم والتكنولوجيا (أسبيرغ 2010). وكما أسلفنا، فقد قدّم السايبورغ منظورًا جديدًا تمامًا للذاتية الجسدية البشرية، من خلال التصميم المتناقض والمنقسم للمفهوم. في كتاب دونّا هاراوي بيان السايبورغ (1985) يُعتبر السايبورغ أكثرَ من رمزٍ للجسد التكنولوجي المندمج. وقد تمّ تكريس بيان هاراوي في حقبة رونالد ريغان وحرب النجوم كنداءٍ غاضبٍ وإشكاليّ للغاية بغرض التحرك من قبل النِسويات الاشتراكيات. غير أن بيانها يُعتبر حاليًا من أشهر المقالات العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. كما أصبح السايبورغ رمزًا واعدًا ومؤثرًا في الفكر النِسوي. بالنسبة لهاراوي، يتجاوز السايبورغ مجرّد الانصهار بين البيولوجيا والتكنولوجيا، فيشكّل جسرًا بين الجسد البشري والكائنات الحية الأخرى وبين الافتراضي والواقعي (هاراوي 1991، 1992). السايبورغ عبارة عن الانهيار الداخلي لنقطة التقاء الواقع بالخيال، المتجسِّدة والمتضمَنة في شبكات ما يسمى بـ«العلوم التقنية» وأحلامها. تأثير الانهيار الداخلي، على عكس الانفجار، يكمن في تكثيف الأشياء. فالسايبورغات، كرمز مشحون للعلوم التقنية العصرية، تشير إلى العلاقات والاعتماد المتبادل بين الطبيعة والثقافة، الجسد والآلة، الإنسان والحيوان. من منظور هاراوي، يُعتبر السايبورغ شيئًا مختلفًا تمامًا عن أحلام اليقظة المادية التي كانت تراود العالِمَين كلاينس وكلاين. ذلك أنها قدّمت السايبورغ كأسطورة سياسية، كمفارقة  رمزية للعمليات التي بدأت، دون أن تكون نهايتها سيئة بالضرورة. السايبورغ لديه قدرة كامنة، لأنه مجازٌ يتضمّن ذخيرة من الملاحظات الراهنة على مكانة العلوم والجَسَدانية وسياسة العالم. ترى هاراوي أن السايبورغ يبرهن على أن التفكير الثنائي حول الطبيعة والثقافة لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، ليس بسبب الوعود المستقبلية الرائعة التي تقدّمها العلوم التقنية، ولكن لأن الحياة اليومية بحد ذاتها متشرّبة بطبيعة السايبورغ الأصلية. نحن جميعنا منتجاتُ التكنولوجيا، حتى لو لمجرد أننا نلبَس نظارة أو لدينا ضرسٌ محشو. والنتيجة المنطقية هي أن السايبورغ شَرعَ يُؤشكل ثنائيات نسوية أخرى، كالجنس والجندر. فسايبورغ هاراوي ينطوي على تحدٍ نسوي هائل، نظرًا إلى أن المفهوم يتحدّى الافتراضات الاجتماعية بخصوص الجندر كثقافة شبه خالية من المادة، وكنوع من التشكّل المجتمعي. من هذه الناحية، يناشد السايبورغ النِسويات أن ينشغلنَ بالبيولوجيا، أي بالعلوم البيولوجية والعمليات الجسدية على حدٍ سواء. وهكذا أصبح السايبورغ تعويذة لنقد العلم وللعلوم النسوية متعددة التخصصات.

هاراوي مؤرخة للعلم، ولديها دكتوراه في البيولوجيا، وهي أستاذة فخرية في تاريخ الوعي في جامعة كاليفورنيا منذ عام 2011. وتُعتبر هاراوي سُلطةً في مجال العلاقة بين التكنولوجيا والمعلومات من ناحية، وبين الجسد والعلوم الطبيعية من ناحية ثانية. وتتوجب قراءة أعمالها من قبل جميع من يريدون التعمّق في النِسوية. فمن خلال أعمالها، نتّصل أوتوماتيكيًا بالتقاليد العريقة للنقاش النِسوي حول الجسد والعلوم الحيوية. غير أن السايبورغ يساهم أيضًا في قضايا فلسفية وعابرة للتخصصات في البحث النِسوي. وكمُنظِّرة مركزية في الميدان النِسوي العابر لدراسات العلوم والثقافة، تركت هاراوي أثرًا كبيرًا في شتّى المجالات، كعلم الرئيسات وعلم الأحياء التطوري والمعلوماتية والنظرية النِسوية والعلوم الثقافية ودراسات العلوم والتكنولوجيا.

تُعتبر هاراوي شخصية مفتاحية في التنظير لعصرنا، غير أنها كانت دائمًا تُفاجِئنا بأمثلة إمبيريقية أو شاذة تستقيها من تجربتها الحياتية أو مخيلتنا الجمعية ونطاق واسع من التخصّصات الأكاديمية. فبالإضافة إلى بيان السايبورغ الشهير، لديها إصدارات من قبيل رؤى الرئيسات: الجندر والعرق والطبيعة في عالم العلوم العصرية (1989)، القرود والسايبورغ والنساء: إعادة إنشاء الطبيعة ( 1991ب)، إصدارات منحتها صيتًا كواحدة من أكثر الكاتبات النِسويات المعاصرات إبداعًا وجرأة. لذلك يستعصي أيّ من أعمالها على التأطير البنائي – الاجتماعي أو الطبيعي – البيولوجي، فهي تستثمر معرفتها في علم الأحياء، وتنأى بنفسها تمامًا عن الحتمية البيولوجية. وحتى لو استخدمت بكَثرة النظريات الثقافية، إلا أنها ترفض النظرة الثقافية الخالصة إلى الجسد كصفحة بيضاء للنقش الاجتماعي. كما أنها لا تشير إلى الثقافة النقية أو الطبيعة النقية، بل إلى مُركَّب خاص جدًا تسميه «طبيعة ثقافة» (هاراوي 2003). كما يُعتبر عملها محاولة جدية متعددة التخصصات لتجاوز الفصل بين الطبيعة والثقافة، الذي يحسبه الكثيرون فصلًا بدهيًا، والتفكير بمصطلحات الهجين والحالات الحدودية.

 

يمكننا قراءة أعمال هاراوي كما الشِعر. هي لا ترى فقط أن العلم خيال، بل تطبّق ذلك المبدأ أيضًا (هاراوي 1989:4). وجودها الشخصي محسوس في جميع قصصها ونصوصها النقدية، فنراها تستقي أثناء الكتابة من تربيتها وتعليمها متعدد التخصصات الذي اتبعته في الولايات المتحدة، بحيث تُموقِعُ نفسها ضمن مجتمع مُركّب وعلاقات تخصصية معقدة8.

هاراوي مغرمة بقراءة الخيال العلمي، ومفتونة بالاحتمالات النِسوية لهذا النوع الأدبي المأهول بشتى أشكال السايبورغات. بالنسبة لها لا تكمن تلك الاحتمالات في الميل إلى انتقاد المجتمع من خلال قصة تدور أحداثها في المستقبل أو في مكانٍ ما من الفضاء، بل نراها تهتم بالإمكانيات الطوباوية الكامنة في تخيِّل عالمٍ مختلف، فالخيال هو من إنتاج الواقع الذي يتطور. نشأت هاراوي في عالم تشكّل من خلال قصص صغيرة وكبيرة، كالنظرية التطورية والمسيحية، قصص أثرت بتكوينها الشخصي. فحين سُئلت عن أصل تفكيرها، أجابت: «انبثق الأمر عن أماكن أخرى، عن أني كنتُ طالبة علم الأحياء، وضد ما ارتأيته اختزالًا جينيًا، وعن اهتمامي بكون الكائن الحيّ عبارة عن قصيدة، وعن ولائي لمفهوم الشكل الحيوي، وحساسياتي الكاثوليكية» (هاراوي & شنايدر 2005:126-127).

وتتميز أعمال هاراوي بشغفها بعلم الأحياء، وإحباطها من ذلك الميدان العلمي، واهتمامها بـ«الواقعية المجازية»، وباستراتيجيات تحليل وقراءة غير مألوفة، كقراءة الكائن الحيوي كما لو كان قصيدة. بالإضافة إلى استمدادها الإلهام من شخصيات وطقوس الكنيسة الكاثوليكية، كالقربان المقدس (مراسم تحوّل النبيذ الاحتفالي والخبز إلى دم ولحم المسيح)، وإلحادها الملتزم بعد ذلك. وقد استخدمت هذا النوع الخاص من الواقعية المجازية في بحثها الأكاديمي من خلال التأكيد على الدنيوي والمادي، في محاولة منها لإلغاء الفصل بين المادي والجسدي من ناحية، وبين السيميائي والرمزي من ناحية ثانية (هاراوي 1997:11).

9.كارين باراد هي زميلة هاراوي في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز. نالت شهادة الدكتوراه في الفيزياء النظرية، وتعمل حاليًا في مجال متعدد التخصصات يضمّ كلًا من الفيزياء والفلسفة ودراسات العلوم والنظرية ما بعد البنيوية والنظرية النسوية. وتشغل فكرة «الفعل الداخلي» مكانة مركزية في أعمالها. وقد صكّت باراد هذا المصطلح للتحدث عن الطرق التي من خلالها تنشأ الظواهر (البشر والمواضيع على حدٍ سواء) عبر التفاعل والانبناء المشترك

إن الفصل بين الطبيعة والثقافة، بين الواقع والمعنى الذي نمنحه إياه، يحدّد كثيرًا من أفكارنا التقليدية. لذلك يُعتبر سايبورغ هاراوي مثالًا إشكاليًا عن واقعيتها المجازية (السابقة للمصطلح الشهير الذي أطلقته كارين باراد «الواقعية التفاعلية» و«الأدائية ما بعد الإنسانية»، والذي طوّرته عبر إلغاء الحدود أيضًا: بين الإبستمولوجيا والأنطولوجيا، المادي والمنطقي، الطبيعة والثقافة)9. إنه شخصية خيال علمي تشبه هاراوي المتشكّلة بين نار عالمين متحاربين (هاراوي 2004 سي)، فهي حسب تعبيرها ابنة الحرب الباردة، والقمر الصناعي سبوتنيك وبرامج ريغان للصواريخ والعسكرة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. إنها الابنة البيضاء المدللة للحرب الفيتنامية، والحركة الطلابية وحركة الحقوق المدنية والحركة النسوية وحركة المثليين التي عَلَت أصواتها جميعًا في نهاية ستينيات القرن العشرين، في أوروبا والولايات المتحدة. إنها وريثة الصراع المحتدِم بين الأكاديميين متعددي التخصصات والمدافعين عن «العلم الصحيح»، أو ما يسمى بالحروب العلمية. لا عجب إذن في أن تهتم بالمُحارب المنحرف الذي اسمه السايبورغ.

بِخلاف مقاربات الِنسوية السابقة للجسد، فإن السايبورغ ليس عُذريًا وبريئًا، بل متحديًا ومنحلًا. وفي إطار السايبورغ كأداة نِسوية، تقوم هاراوي بفعل مقاومة حين تصفه كامرأة. وفي الوقت نفسه تُنمّطه كـ«بَعد-جندري»، لتتخذ موقفًا حول التعقيد البيولوجي للجنس. غير أنها تخلّت لاحقًا عن مصطلح «بَعد-جندري» (هاراوي 2004ب:321-322). بالنسبة لهاراوي، فإن الزوائد التكنولوجية المرئية على الجسد البشري ليست هي الأهم، وإنما سؤال كيف اشتبكت العلوم والتكنولوجيا إلى تلك الدرجة مع أسلوبنا في منح حيَواتنا شكلًا ومعنى. فنحن لا نتحوّل إلى سايبورغات من خلال الأجهزة الإلكترونية فقط، كالهواتف والساعات الجوّالة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الرقابة الذاتية، بل كذلك من خلال علم البيئة الإعلامي، المعتمد على المعلومات إلى درجة يكون كل شيء في العالم مفكوك الشفرة، وحاجتنا إلى استخراج كميات كبيرة من الأملاح المعدنية من باطن الأرض، وتعاملنا الاجتماعي مع الماركات، واعتمادنا على الصناعة التحويلية. طريقة ولادتـ«نا» في الغرب، وطريقة مرضنا وشفائنا، وطريقة سكننا وإنتاجنا للمواد الغذائية والملابس، هذا كله يجعلنا سايبورغات. وحالما صدر البيان، قدّم السايبورغ مخرجًا مطلوبًا من تصوراتنا الرومانسية عن الجسد الطبيعي، وما يسمى بعلاقة المرأة البدهية بالطبيعة، كما كانت النسويات البيئيات ومجموعات نسوية أخرى يفكرنَ في الفترة التي خطّت فيها هاراوي بيانها التهكمي. وبينما كان الرئيس ريغان يروّج لنظام حرب النجوم، قررت هاراوي أن تعاند، مع جرعة ظاهرة من التهكم الغاضب، وأن تحتفي بالسايبورغ بدلًا من إلهة الطبيعة، وقدّمته كقدوة تناسب النسويات أكثر وتعكس تجاربهن الحياتية بشكل أفضل.

وقد ختمت هاراوي بيانها بكلمات اشتهرت مع مرور الوقت: «أفضّل أن أكون سايبورغًا على أن أكون إلهة» (هاراوي 1991أ: 181). هذه الجملة تشكل استفزازًا للنسوية البيئية الروحانية ونداءً للاهتمام بالعلم والتكنولوجيا في آن. جزء من السايبورغ متخيَّل، والجزء الثاني مُنبثِق عن العسكراتية. وبحسب هاراوي، من الأهمية بمكان أن نتعامل بواقعية مع الوعود المفاجئة التي يقدّمها السايبورغ (كتجاوز ثنائيات الجندر وانقسامات من قبيل الثقافة مقابل الطبيعة)، ومع التهديدات التي تُسببها العلوم التقنية، كالإبادة المحتملة للعرق البشري من على وجه الأرض. لذلك تنادي هاراوي: «السايبورغ من أجل النجاة الأرضية!». هي لا تستخدم السايبورغ بغرض وصف الأفراد فقط، ولكن من أجل إعادة رسم خارطة للحياة والثقافة والمجتمع. وفي حين كان الاهتمام النِسوي بجسد المرأة يجازف بترسيخ الرمزية التقليدية التي تضع المرأة / الجسد / الطبيعة مقابل الرجل / الروح / الثقافة، استطاع السايبورغ كقمة التناقضات الحيّة أن يغير تلك الحالة عبر التركيز على العلاقة بين النساء والتكنولوجيا. ولم تفعل هاراوي ذلك من خلال روبوتات نسائية مستقبلية قوية منبثقة عن الخيال العلمي، وإنما من خلال الحياة الواقعية وسايبورغات نسائية مستغلَّة في مصانع إلى درجة يتم التحكم بأجسادهنّ، وضبطها على الساعة بغرض الإنتاج. لا نقصد بالتكنولوجيا الجسدية عتادَ الحاسوب والآلات المعدنية فحسب، بل أساليب حياتية معقدة حرفيًا، من بينها الطرق المنطقية لحماية النفس والإنتاج، والأساليب مُحكمة التنظيم للحياة والموت في الآلة المجتمعية.

وكنِسوية اشتراكية قلبًا وقالبًا، تشرح هاراوي كيف أن النساء في جميع أرجاء العالم يشكلنَ جزءًا من الدائرة المتكاملة للمجتمع الرأسمالي، بغض النظر عمّا إذا كُنّ عاملات مصنع يتم استغلالهنّ في ظروف بائسة، أو نساء ثريات بما فيه الكفاية كي يُعدن تصنيع أجسادهنّ بمساعدة الجراحة التجميلية. كما توضّح كيف أن النساء، اللواتي نادرًا ما يتم ربطهنّ بالتقانة، يشكلنَ عمليًا جزءًا جوهريًا من الآلة المجتمعية. جميعنا متوّرطون في التطورات التكنولوجية، بحسب هاراوي. بل حتى أكثر من ذلك: بما أننا سايبورغات أصلًا، فنحن متواطئون أيضًا. حتى لو كافحنا ضد الرأسمالية والعنصرية والطبقية الجنسية، سوف نبقى جزءًا من البنية التي تعمل فيها هذه الــ«-يّات» (ismes-). وهكذا وجدت هاراوي في تواطؤ السايبورغات طريقةً لتغيير العلم والمجتمع من الداخل. ذلك أن إعادة تأويلها للسايبورغ لا تنطوي على مديح للبراءة العلمية أو التطور التكنولوجي، بل على أداة نقدٍ للمجتمع، بحيث يتوجب على كلٍ من علوم الروح وعلوم المادة أن تخسر الرهان. ومن خلال التفكير بالرؤى العلمية التي تشكل واقعنا، كتلك التي قدّمها عالِما الـNASA كلاين وكلاينس، تجرأت هاروي على القفز، مهما كان الأمر غريبًا، نحو واقع موجود لابتكار بدائل تضمَن نجاة سكان هذا الكوكب بطريقة مستدامة.

لدى العلوم التقنية الحالية (المزيج الرأسمالي بين العلم والتكنولوجيا والأدوية والمجتمع) جانبٌ مرعبٌ وواعدٌ في الآن نفسه. وتلعب تلك الازدواجية دورًا كبيرًا في سايبورغ هاراوي. لا فائدة من شيطنة العلم أو مثْلنته، بل ينبغي علينا أن نتخلّص من فكرة الخير والشر، وننشغل بطريقة جديدة وملموسة بالمادي والعضوي والبيولوجي. وجرّاء الاهتمام النِسوي المتجدد بالجسد المادي واللحمي، والذي لعبت هاراوي دورًا رياديًا فيه، بات ممكنًا أن نُشَرِّح المعاني الغائمة المرتبطة بمصطلح «البيولوجيا» (كميدان علمي وإشارة إلى العمليات في الأجساد وبينها). كما يُستخدم المصطلح في الإشارة إلى «طبيعة الأشياء»، ويتم توظيفه كوعاء يحتوي جميع الظواهر الخارجة عن سيطرة الإنسان. المهم فعلًا هو أن سايبورغ هاراوي لفت انتباه النِسوية إلى مسار آخر، وجعل العلماء يُدركون ضرورة الانخراط في هذا النقاش العلموسياسي على جميع المستويات. كما تصف هاراوي البيولوجيا بأنها «مصدر بهجة عميقة من الناحية الفكرية والعاطفية والفيزيائية. ولا يمكن الاستخفاف بأمر من هذا القبيل، أو التعامل معه بأسلوب احتفالي أو تعنيفي» (هاراوي: 2004ب:203). إن تدخّل هاراوي والنقاش الذي أثارته يتعلّقان بتحليل نسوي مفتوح الاحتمالات. هذا يعني أنه من الضروري تعلّم كيفية التعامل مع الازدواجية وانعدام الأمن، حتى في مجال الكتابة وإنتاج المعرفة. التفكير المستلهَم من السايبورغ لا يُغيّر نتائج الهويةَ الجسدية في محيط مفرط التكنولوجيا فحسب، بل يُغيّر إلى درجة كبيرة نظرتنا إلى العالم وأنفسنا، مما سيؤثر على كتابتنا وإنتاجنا المعرفي (أسبيرغ 2014أ).

انتشار النِسويات ما بعد السايبورغية

ثمّة جرعةٌ كبيرة من الغضب والإحباط كامنة خلف أسلوب هاراوي التهكمي في كتابة بيان السايبورغ. فالسايبورغ هو طريقةٌ لإفساح المجال للازدواجية بين الحرفي والمجازي، واللعب بحقائق معينة تتناول تأثيرات المجتمع التكنولوجي على أجسادنا وأنفسنا (هاراوي 2004ب). لذلك يصعب أحيانًا هضم البيان من قبل الزميلات النِسويات. نبرة هاراوي التهكمية وأسلوبها التفتيشي والإيحائي في الكتابة، يجعلان البيان قابلًا لتعدد التأويلات وسوء الفهم. لذلك وُضِعت إشارات استفهام حول فائدة مجاز السايبورغ: ماذا يقدّم لنا أكثر من فسحة لعدم التفكير من خلال الثنائيات؟ ذلك أن السايبورغات في الأدب الشعبي نادرًا ما تثير مسألة التنميطات التقليدية المتعلقة بالجندر و«العِرق». والأدهى أن جنسنة السايبورغات ظهرت في غاية التقليدية، كما بينّت أنكه سميليك (2012) مثلًا. وبحسب أنّا بالسمو (2000) التي أجرت بحثًا نِسويًا حول الموضوع، فإن السايبورغات ليست ما بَعد-جندرية على الإطلاق، وهي قادرة على إرجاعنا إلى آراء تقليدية وضيّقة حول الإنسان والآلة والأنوثة. كما تعرّضت فكرة هاراوي حول التضاد بين الإلهة والسايبورغ إلى كثير من النقد، ولكنها أفضت أيضًا إلى بعض التجاوب الذي أفضى إلى تلاقحات جديدة (ليكه 2000).

كما أن النقد النِسوي توجّه إلى أسلوب هاراوي الذي أشعَرَ بعض القرّاء بالإقصاء. هذا أمرٌ محزن، نظرًا للاهتمام الخاص الذي أولته هاراوي للطرق التي تُقصي النساء من الخطابات العلمية. كما أن بعض القرّاء لم تعجبهم فكرة أن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لتشكيل العلوم والتكنولوجيا بطريقة جديدة. ففي رأيهم، لم يقدم البيان للنِسويات خطة واضحة لتغيير الوضع في العملية السياسية (ماكنيل 200:230؛ واجكمان 2004:95). ومع ذلك يُعتبر بيان السايبورغ أحد النصوص النِسوية القليلة التي وصلت إلى جمهور كبير جدًا ومتنوع (كونزرو 1997).

ورغم نقد النِسويات لعمل هاراوي، إلا أنه ينبغي في الختام التأكيد على أهمية أساليب الكتابة الجديدة وطرق التفكير الإبداعية، نظرًا إلى كون الطرق القديمة لم تعد تفي بالحاجة. ومن أجل تحسين هذا العالم المُعقّد، لا نقدر أن نكتفي بالاتكاء إلى الخلف، بل يجب أن نتحمّل مسؤولية الطريقة التي تتشكل من خلالها الحقائق المركبة وموازين السلطة المعقدة.

هذا هو إرث سايبورغ هاراوي والتحدّي الذي يواجهه النهج متعدد التخصصات. ففي حقبة ما بعد السايبورغ لن يكون النوع البيولوجي سوى اختلال في فئات سابقة من الكائنات، بحسب هاراوي. التكنولوجي والنصّي مرتبطان بشدة بالعضوي، والعكس صحيح (هاراوي 2003:15). تمرّر هاراوي في بيان السايبورغ محسّنًا بديعيًا، شخصية حرفية تُنصِف تطبيقات الثقافة التكنولوجية الحالية، «من دون فقدان الصلة بجهاز الحرب الدائم لعالمٍ غير خياري وما بعد نووي، وبأكاذيبه المتعالية والمادية جدًا» (هاراوي 2003:11). ويُذكر أن السايبورغ ليس الشكل الوحيد القادر على فهم عالمنا المركب وتغييره. فقد حوّلت هاراوي بنفسها اهتمامها إلى أشكال أخرى، وصارت السايبورغات بالنسبة لها وللنِسويات الأخريات بمثابة الأخوة والأخوات الصغار ضمن عائلة كبيرة من الأشكال الغرائبية، من بينها الحيوانات المؤنِسة، والرئيسات، وذئب البراري، والفئران المخبرية المعدلة وراثيًا.

وفي جميع الأحوال، يمكننا الوثوق من أن السايبورغ راح يمارس حياته الخاصة مذ أن جاء كلاين وكلاينس بالفكرة. وقد تمكّنت هاراوي، كواحدة من أهم المنظّرات النِسويات المهتمات بالجسد وعلوم الطبيعة في هذا العصر، أن تستخدم السايبورغ لإحداث انزياح مصيري في علاقة النِسوية بالجسد، وفي البيولوجيا كتخصص علمي. وبينما كان خبراء علوم الطبيعة مُعتادين على حصر اهتمامهم بالطبيعة، وخبراء العلوم الثقافية بالثقافة فقط، جاءت نسويات مثل هاراوي ليقلبنَ الوضع رأسًا على عقب، مما أحزن كثيرًا من خبراء علوم المادة التقليديين وأحاديّ التخصص في علوم الروح. المجتمع الحديث عالقٌ في قضايا شائكة حول المرض والشفاء، والموت والعذاب، ومَن يحق له أن يبقى على قيد الحياة ومَن لا يحق له، ومَن يتخذ القرار في ذلك. تسمح المقاربة النِسوية لسايبورغ هاراوي الأنثوي والعادي بالكشف عن التفاصيل المعقدة، التي تؤثر بالسياسة النِسوية والعلم النِسوي، وبفحصها عن كثب. أما بخصوص العلاقة بين العلم والجسد البيولوجي والنِسوية، فلا ينبغي قراءة بيان السايبورغ كنداء لرفع السلاح فحسب، بل كذلك كإعلان عن تحالف. يمثّل السايبورغ مجازًا للتحالفات بين التخصصات، وللتعاون بين النظرية النسوية مثلًا والدراسات الثقافية ودراسات العلوم والتكنولوجيا. وقد وضعت نينا ليكه (2002) خارطة لتلك العلاقات متعددة التخصصات عبر البلدان المختلفة، وأطلقت على هذا التلاقح الشمال-أوروبي بين الدراسات الثقافية النسوية وعلوم التكنولوجيا اسم «دراسات السايبورغ». وهكذا انتشر مجاز السايبورغ عبر المكان والزمان رغم منشأه المشكوك فيه، وتولّد عنه كثيرٌ من الأسئلة البحثية العابرة للتخصصات وأشكال نِسوية لما بعد الإنسانية (أسبيرغ 2014 ب؛ أسبيرغ & برايدوتي 2015).

 

 

شاركنَ المنشور