أمير العمري| الجزيرة
تعاني المرأة في سوريا من القهر المنزلي الذي يمارسه الرجل عليها، كما تعاني من القهر العام الواقع على النساء في المجتمع كله، خصوصا في زمن الحرب الجارية هناك، وممنوع عليها الحديث عن محنتها بفعل تراكمات كثيرة، لكن فيلما جديدا حاول كسر هذا الصمت.
موضوع المرأة السورية ومحنتها في زمن الحرب يناقشه فيلم “تحت سماء دمشق” (Under the Sky of Damascus) الذي اشترك في إخراجه ثلاثة من المخرجين هم طلال ديركي وهبة خالد وعلي وجيه عام 2023.
إنها تجربة جديدة تجمع بين الوثائقي والروائي، وقد اقتضت من ديركي وزوجته هبة خالد العمل عن بعد من ألمانيا لعدم قدرتهما دخول سوريا، لما في ذلك من خطر عليهما، واستعانا بزميلهما المقيم في دمشق علي وجيه، لكي يقوم بالإشراف المباشر على التصوير في سوريا، بينما ذهبت هبة خالد في وقت ما إلى بيروت لتصوير بعض المشاهد التي جرت هناك.
مسرحية تعكس أوضاع المرأة السورية.. مشروع لم يولد
أنتج الفيلم طلال ديركي (صاحب “العودة إلى حمص” عام 2013، و”عن الآباء والأبناء” عام 2019 الذي رشح للأوسكار) من خلال التمويل الذي حصل عليه من ألمانيا والولايات المتحدة والدانمارك، ووراء إنتاج الفيلم قصة تتلخص في أن مجموعة من السوريات قررن إنتاج وتمثيل مسرحية تعكس واقع المرأة في سوريا في خضم الصراع الدائر هناك، بالتركيز على العلاقات داخل الأسرة، بين الرجال والنساء، الآباء والبنات، الأزواج والزوجات، والنظرة المتخلفة التي لا تزال سائدة في المجتمع إلى المرأة، وهي مسرحية كان يفترض أن تكون أول مسرحية في سوريا تكتبها وتمثلها وتخرجها نساء.
كان هذا المشروع يهدف إلى إتاحة الفرصة للتعبير الذاتي، في صورة مونولوجات وحوارات تكشف عن قصص ترويها النساء الخمس المشتركات في المسرحية، بالإضافة إلى الاستعانة بالقصص الشخصية التي قاموا بتسجيلها وتصويرها مع عدد من النساء من مختلف الطبقات في دمشق.
وقد أراد طلال وهبة تصوير هذا العرض المسرحي المرتقب في فيلم، لكن العرض لم ينفذ لأسباب كثيرة مختلفة يصورها الفيلم، فأصبحت الفكرة تدور بالتالي حول عرض لم ينفذ، وأسباب الفشل في تحقيقه، وعن معاناة المرأة السورية بشكل عام في الريف والمدينة من الطبقات المتوسطة إلى الطبقات الشعبية الفقيرة، وكيف تنظر المرأة نفسها إلى أزمتها، وكيف ترى غيرها من النساء، لكن الأمر لن يكون سهلا.
شخصيات الفيلم.. عوالم مختلفة في سجن واحد
في بداية الفيلم نشاهد الممثلة السورية صباح السالم وقد تقدم بها العمر، وبدت متغضنة منكمشة على نفسها، وهي تتحدث عن مأساتها الخاصة التي تركت علامات واضحة عليها، فهي تتحدث عن تجربتها في الاعتقال، وكانت قد اعتقلت -كما تقول- بعد أن رفضت الاستجابة لأحد كبار رجال السلطة حين راودها عن نفسها، فلُفّقت لها تهمة الاتجار بالمخدرات، وقضت 12 عاما في السجن، وتنكر لها زملاؤها في الوسط الفني، وغادرت ذاكرة المجتمع الفني في دمشق، وذهبت طي النسيان، وأطلق سراحها عام 2020، وما زالت تقاوم جروح الزمن.
يقوم الفيلم على تصوير المناقشات التي تدور بين مجموعة النساء حول العرض المسرحي، فائدته ومشاكله وعيوبه، حول مشاكل كل منهن، وانسحاب إحداهن من المسرحية لسبب يكشف عنه الفيلم، وهو سبب يعود إلى أصل المشكلة التي تواجهها المرأة في علاقتها مع الرجل.
ثم يتطور الفيلم وتدخل الكاميرا بيوت عدد من النساء في مناطق مختلفة من سوريا، ثم تدخل أيضا أماكن ليس مسموحا التصوير فيها بشكل عام في سوريا، مثل مصنع متواضع للأقمشة تعمل فيه النساء، ومكان لتجميع القمامة وإعادة تدويرها، ثم مستشفى للأمراض العقلية مخصص للنساء.
يتوقف الفيلم أمام حالات التوتر العصبي والانهيار النفسي الناتجة عن الضغوط التي تتعرض لها المرأة، خصوصا العنف المنزلي من جانب الزوج أو الأخ أو الأب، أو حتى من قبل الغرباء في الشارع والحي والقرية.
كلها مشاهد شديدة الجرأة، مدهشة بتفاصيلها وشخصياتها وقدرة النساء -حتى من تبدو عليهن أعراض الاضطرابات النفسية- على الجلوس أمام الكاميرا، والتحدث في ثقة ووضوح عن أسباب الأزمة التي عصفت بحياتهن، وانتهت بهن إلى هذا المكان الذي يعد سجنا من نوع آخر، فمنهن من تعرضت للاعتداء الجنسي أو الإيذاء البدني، ومحاولة القتل والحرق، وغير ذلك من أشكال الاعتداء البدني.
قمع المرأة.. وحدة تتفكك تعكس الحالة السورية
في أحد مشاهد الفيلم نرى امرأة تعبر الشارع، تضربها سيارة من الجانب، السيارة لا تتوقف، بل تتلقى المرأة من الرجل الذي يقودها ألفاظ السباب المقذع، لكنها تشعر بالغضب الشديد، فتجري وراء السيارة تريد رد اعتبارها، فهي كائن إنساني له خصوصيته، ولا ينبغي أن يعامل كأنه كومة من النفايات على قارعة الطريق، والمغزى واضح بالطبع.
القمع الذي تتعرض له المرأة مرادف للقمع العام الذي يتعرض له الجميع في سوريا، والحاجة إلى استعادة الثقة بالنفس عند المرأة والقدرة على مواجهة الرجل، ترتبط بالحاجة إلى استعادة دمشق واستعادة سوريا كلها، وتحريرها من هيمنة القمع الذكوري المسيس والممنهج القائم منذ عقود.
يكشف الفيلم عن غياب الشعور بالثقة على مستويات عدة، وهو ما يجعله عملا أصيلا رغم بدايته المتعثرة بعض الشيء، فقد نجح طلال ديركي وهبة خالد في تحويل دفة الموضوع، بعد تفتت وحدة النساء الخمس اللاتي كان يفترض أن يشاركن في عرض مسرحي يكشف عن ما يكمن تحت السطح من تداعيات للحالة السورية، وانعكاسات الحرب القائمة منذ سنوات على نفسية المرأة، وتعقيدات حياتها في علاقتها بالأسرة وخصوصا الرجل.
وقد برع المخرج الثالث علي وجيه في ترجمة هذه المشاعر الجياشة التي تكشف عنها مقابلات صورها على أرض الواقع مع كل هؤلاء النسوة، من الزوايا التي تحافظ على خصوصية كل منهن، ومن خلال كاميرا المصور رائد صنديد المتعاطفة وتكويناته التي تكثف المشاعر في رصانة.
انسحاب الممثلة الجريئة.. قلق التعبير في مجتمع متزمت
نسمع ونشاهد ما يدور من مناقشات بين مجموعة النساء فرح وسهير وإنانا وإليانا وجريس، كما تظهر أيضا هبة في الجزء المصور في بيروت، وكما تعكس هذه المناقشات التوتر والارتباك والشعور بالغضب، فهي تعكس أيضا الود والتضامن والتساند والفهم الإنساني، لكن الضغوط كبيرة، والواقع ينظر في غلظة إليهن.
هناك دائما نوع من القلق الواضح والخوف مما يمكن أن تجره عليهن المسرحية، إن نجحن فعلا في إنجازها وإنجاز العرض، ففكرة الفضح والكشف والاعتراف غير مقبولة اجتماعيا، في مجتمع يميل إلى التستر، ومسايرة السائد والموروث، وغض النظر عن الإساءة، وعدم تصعيد الأمور. فهل سيقبل الرجال من داخل العائلة مثلا ما تصرح به النساء؟
يثير كثيرا من المناقشات بين أفراد المجموعة موضوعُ انسحاب إحدى النساء من العرض المسرحي الذي استأجروا له منزلا مهجورا في وسط دمشق لإجراء التدريبات، فهذا الانسحاب يبدو أمامهن غريبا، لأنه جاء من طرف شخصية تتمتع أصلا بالشجاعة ووضوح الرؤية، ولا ينتظر منها أن تتراجع هكذا فجأة، وتبلغ زميلاتها من خلال مكالمة هاتفية مقتضبة بالتراجع، خصوصا أن صوتها بدا متوترا، يوحي بأنها تعرضت للضغوط، غالبا من جان
ب الشريك أو الرجل، وهو ما سيتضح فيما بعد بالفعل.
يتداعى المشروع بعد تكرار الانسحاب سواء بالابتزاز أو التهديد، ويثير المشهد الذي يدور داخل مستشفى الأمراض العقلية الكثير من الأسى، فهو مشهد شديد التأثير، روايات تصدر عن النساء اللاتي يفترض أنهن “مريضات”، لكن ما نسمعه يعكس وعيا بالمشكلة وسببها، بالعلاقة المدمرة مع الرجل، كيف نشأت، وكيف انعكست أيضا على الأبناء، فالتقاليد العتيقة المتزمتة التي يخضع لها الرجل ويفرضها على المرأة تنتقل من جيل إلى جيل آخر.
فشل العرض.. ارتباك عائلي وتحرش داخل الطاقم
من المشاهد التي تستغرق زمنا طويلا نسبيا وتبدو تلقائية تماما، مشهد فتاة من أسرة متوسطة ميسورة الحال، تقف أمام والديها، تخبرهما بقرارها مغادرة المنزل. القرار مفاجئ، والأسرة (أي الأب والأم والأخ) لا يبدو أنهم يعترضون أو يريدون إرغامها على البقاء، فكل ما تطلبه الأم مثلا هو أن تتيح الفتاة لنفسها مساحة للتفكير قبل اتخاذ القرار، وتريد أن تفهم السبب.
لكن الفتاة لا تستطيع العثور على سبب ما محدد، فكل ما تقوله هو أنها لا تشعر بالارتياح من وجودها في المنزل، رغم أن لا أحد يمارس عليها قهرا أو وصاية، فمن الواضح أن والديها من المثقفين العقلانيين، لكنها ستغادر المنزل على أي حال للإقامة مع زميلاتها في العرض المسرحي، ثم تبدأ بعد ذلك في طرح التساؤلات.
يطرح الفيلم كثيرا من التساؤلات من خلال التعليق الصوتي المصاحب على لسان المخرجة هبة خالد التي تروي لنا القصة، وسوف تفجر مفاجأة غير متوقعة عندما تكشف لنا تحرش واحد أو أكثر من طاقم التصوير ببعض الفتيات، وهو ما ترويه الفتيات، إذ تشير إحداهن إلى بعض التفاصيل، وتقول الأخرى إنها تفضل الموت على أن تفصح عن ما تعرضت له.
إن فشل العرض المسرحي، ثم اتجاه الفيلم للتعبير عن أزمة المرأة من خلال الاعترافات والحديث عن التجارب الذاتية، ثم ما يقع أثناء العمل في الفيلم من أحداث غير متوقعة، كلها تجعل مسار الفيلم يتحدد أثناء عملية المونتاج، شأن غالبية الأفلام الوثائقية التي تتخذ شكلها النهائي أثناء تركيب اللقطات، وربط المشاهد والشخصيات في سياق فني، مع تركيب الصوت والموسيقى.
لذلك فنحن أمام قصة متعددة الأطراف، تفيض بالحزن والألم، صحيح هي قصة مجموعة من نساء سوريا في الوقت الراهن، لكن الخاص فيها لا ينفصل عن العام، ويظل الفيلم يتمتع بوضوح الرؤية وقوة التأثير بفضل السيطرة المبهرة على التفاصيل، والقدرة على صياغتها معا في عمل جدير بالمشاهدة.