زوجات

هي امرأة قبل أن تصبح أمًّا.. عن هواجس الأمومة في غياب الأمان

أمل الحارثي| مواطن

نحتفل في 21 آذار من كل عام بيوم الأم، يوم واحد في السنة خُصص للأمهات؛ حيث تصدح القنوات والإذاعات بأغنية ست الحبايب، وتعج الأسواق بالمتسوقين رغبة في شراء الهدايا، ويكتب المغترب على صفحته: “أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي”، ويتبارى المغردون في وصف صفات الأم وحنان الأم وتضحيات الأم، ولا أحد يسعى لتحسين أحوال الأم لتمارس أمومتها بعيدًا عن القهر والخوف وانعدام الأمان.

الكل يتذكر احتفال اللاعبين المغاربة بأمهاتهم بعد فوزهم بالمركز الرابع في كأس العالم، الذي أقيم في الدوحة، كان المظهر مهيبًا حاز إعجاب العرب الذين تغنوا بتقديسهم للأم، بينما يقدس الغربي الزوجة ويحتفل معها، وقاموا بمقارنات لإثبات أفضليتهم، متناسين أن المرأة التي تكرم في الملاعب كانت زوجة أولا قبل أن تكون أمًا، وكأن الواجب أن تخضع المرأة الأم (فقط) إلى امتحانات الصبر الطويلة حتى تصل إلى درجة التقدير والاحترام فتتوج على عرش الأمومة وتحظى لأول مرة بالتمجيد.

تُوجه رسالة إلى الأنثى دائمًا بأنه يجب عليها أن تتقبل الحياة المفروضة عليها حتى تفوز بالمحبة، لكنها رسالة غير مقنعة، فليست كل النساء أمهات، والكثير من الفتيات لا يتزوجن، وبعضهن لا ينجبن ذكورًا ناجحين، وهناك من تنطبق عليها كل هذه المواصفات، لكنها لو عادت إلى الطفولة لآثرت حياة مختلفة تشعر فيها بالحرية والكرامة، على أن تعيش حياة يختارها لها الآخرون.

الكثيرات يفضلن عدم تحمل حياة مليئة بالقمع؛ كطفلة ثم زوجة وأم خائفة من تبديل الحال في لحظة، في مجتمع يملك فيه الرجل حق الطلاق بكلمة منه، ويملك حق التعدد والسلطة والقوامة والحق بالتأديب، كل هذا حتى تحظى بالجائزة الكبرى بعد أن تنهي ماراثون الحياة المليء بالحواجز وتنتهي معها حياتها.

يتناسى العرب أن الأمومة رحلة طويلة، وأن النجاح والفشل فيها لا يعني وصول الأبناء إلى عمر معين يحققون فيه إنجازات؛ بل الهدف الأسمى هو تنشئة  أبناء وبنات سالمين  نفسيًا، ومن أجل أن يحصل هذا يجب أن تُهيأ الظروف المناسبة للأم كزوجة، أن تعيش مكرمة لا مقموعة، والأهم أن تشعر بالأمان .

في المجتمعات الأبوية، يتسلط القوي على الضعيف، وتقع المرأة والطفل في أسفل هرم التسلط، الرجل المقموع الذي تتمرغ كرامته يوميًا في معركة حصوله على قوت يومه، يجد في علاقته مع المرأة فرصة لتعويض كرامته المهدورة، تساعده القوانين والأعراف المجتمعية على امتهان المرأة بلا رادع، والنتيجة امرأة مقموعة غاضبة لا تشعر بالأمان في علاقة، قد يتم هدمها بكلمة، وقد تجد نفسها بعد سنوات من التضحية على قارعة الطريق بلا مأوى.

إذا كان الرجل المقهور ينفّس عن غضبه بقهر المرأة أو ممارسة العنف ضدها؛ فبماذا تنفّس المرأة عن قهرها وغضبها؟ أسئلة يطرحها المفكر مصطفى حجازي في كتابه “مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، ويؤكد أن المرأة تنفس عن غضبها بالعنف أيضًا على من هم أضعف منها، وهناك قصص عن علاقات سامّة بين الأم وأبنائها تخرج للعلن يوميًّا، إلا أن العدوانيّة التي ترتدّ للداخل هي الأكثر شيوعًا في العالم العربيّ بما يسمّى بماسوشيّة المرأة؛ فقد تكره نفسها ثم ترتد هذه الكراهية على المحيط على شكل حقد وحسد

ولهذا نجد المجتمع يتّهم المرأة بالحقد والغيبة والنميمة، والمضحك المبكي أنّ هذا المجتمع ذاته هو الذي أوصلها إلى ما وصلت إليه، وأخرج أسوأ ما فيها، الخوف يخرج أسوأ ما في المرأة، الخوف يجعل المرأة في حالة دفاع دائمة لتحمي نفسها؛ فتلجأ إلى أساليب غير مشروعة كالكذب والنفاق، وأحيانًا تصبح مادية؛ فتكتنز الذهب ليوم لا تجد فيه معيلاً، ولا تنسى أن تربي أولادها على الخضوع التام لها حتى تحتمي بهم في كبرها.

وهناك الأم التي تصبر وتتفانى حتى يكبر أولادها، لكنها تدرك بعد نفاد العمر أنها بحاجة لتعويض هائل عن تضحياتها؛ فتطالب أبناءها المنهكين أصلاً في معارك الحياة الصعبة بأكثر مما يستطيعون تحمله، وقد تعطي لنفسها الحق بالتدخل في حياتهم مدعومة لأول مرة بالشرع الذي أنصفها أخيرًا بعد حياة من فقدان السلطة على نفسها، فتسيء ممارسة سلطة الأم وتتجبر.

في الواقع كثيرون ممن يحتفلون بعيد الأم يعرفون تمامًا أن علاقاتهم بأمهاتهم لم تكن في أحسن أحوالها، ولكنهم وصلوا إلى مرحلة من النضج للحكم على الأم من خلال تفهم ظروفها المحيطة، وهناك من لم يستطع التجاوز لأن العلاقة مع الأم تركت جروحًا لا تشفى، وأثرت على حياتهم ومستقبلهم؛ فقرر ألا يكرر تجربة تكوين عائلة إطلاقًا، فزاد عدد اللا إنجابيين الذين يعرفون ويدركون خطورة تأسيس عائلة في بيئة أبوية قامعة.

إذا أردنا إنصاف الأم اليوم؛ فيجب أن ننصف المرأة منذ الطفولة؛ فنعطيها كطفلة حرية الطيران والاستكشاف، وننصفها كفتاة ونعطيها حرية الاختيار، وننصفها كزوجة فنؤمن لها حياة يسودها الأمان، وننصفها كمطلقة وأرملة؛ فلا ترمى في الشارع ولا تكسرها الحاجة، إذا أردنا إكرام المرأة فعلينا أن نسعى لقوانين تساوي بين الرجل والمرأة في إعطاء الجنسية لأبنائها في حال زواجها من غير بلدها، حتى نضمن لها حرية الاختيار والطمأنينة من غدر الزمن

علينا أن نسعى لتغيير قوانين الأحوال المدنية لتصبح المرأة شريكة في الزواج بما تعنيه الكلمة من معنى، ثم وبعد هذا  نكرمها كأم على رحلة طويلة عاشتها من أجل نفسها أولاً، فأحبت نفسها وأغدقت بالحب على  أولادها؛ فكاره نفسه لا يستطيع أن يعطي إلا نادرًا، العطاء من وعاء فارغ لا يقوى عليه إلا القليل من الناس الذين قطعوا شوطًا في الحكمة والنضج، وهم دائمًا قلة .

شاركنَ المنشور