عيد النوروز

عن النوروز الذي أخافهم وضربوني حين أعلنتُ احتفالي بهِ

فيندا جلبي| رصيف 22

لا أذكر العام بالتحديد، في نهاية التسعينات كنت في الصف السابع في مدرسة زكي الأرسوزي للبنات في مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية في الشمال السوري. كان اللّباس المدرسي الموحد آنذاك يسمى بدلة الفتوة، لباس لا يمت للتدريس المدني بصلة، بل يشبه إلى حد التطابق البدلة العسكرية.

أذكر اليوم بالتحديد، كان ذلك في الثاني والعشرين من شهر آذار/ مارس، اليوم الذي يلي عيد النوروز. اصطفّفنا جميعاً لتحية العلم وترديد الشعار الصباحي: “قائدنا إلى الأبد…الأمين حافظ الأسد”… “أهدافنا…وحدة حريّة اشتراكية”. كان مدرب الفتوة يسرع بالشعار على غير عادته، فنحن نعرفه يتلذذ بترديد الشعار ويتلذذ بتعذيبنا أطول وقت ممكن، إذ كان يتفنن بالشعارات ومحاضرات القومية في أيام الأمطار الغزيرة أو أيام الشمس الحارقة، وإذا أُغمي على فتاة أثناء تحية العلم يضحك بشماتة ويقول “زتوها جوّا”.

ما إن انتهينا من تحية العلم حتى التفت إلينا وقال: “كل حقيرة ما إجت مبارح توقف هنيك. لكان مدرسة كاملة ما يجيني غير أربعين طالبة عالدوام مبارح!”.

في غضون ثوانٍ، انتقلت غالبية الطالبات إلى الطرف الآخر المعارض، وبدأ التحقيق كأننا في فرع أمن. “ليش ما إجيتي مبارح؟”، “كنت مرضانة رفيق”، “كان بطني يجعني رفيق”. تم استجواب عشرات من وقفن على الطرف المعارض، وبعد كل سؤال كان يضرب الطالبة بالعصا على يدها ويشتم ويتوعد الجميع بالعقوبة والعذاب. جاء دوري، “وإنت يا فيندا ليش ما أجيتي مبارح؟ كمان كنتي مرضانة؟”، سألني، وأجبته: “لا رفيق ما كنت مرضانة”. بقي واقفًا مصدومًا ولم ينتقل إلى الضحية التالية، نظر إليّ بتوعّد: “لكان ليش ما أجيتي؟”، وأجبته: “رفيق إنت بتعرف ليش ماجينا ليش بدك يانا نكذب عليك؟”.

شعرت أن حدقتيه اتسعتا من الغضب. “لا ما بعرف!”، قال. وأكملت أنا: “رفيق كنا عم نحتفل بعيد النوروز”. شعرت عندها بلسعة على ذراعي الأيسر وكأن سيخًا من النار قد لامسها. كان وقع وطأة كلمة النوروز عليه أشد من أن يطلب مني أن أفتح يدي ليضربها. تدخلت صديقتي من خوفها علي، وقالت: “رحلة رفيق.. كنا طالعين رحلة”. أشرت إليها بغضب ألّا تتدخل وكأنني بدأت أستسيغ استفزازه وكأن صراحتي كانت شعوراً بالحرية لم أشأ التنازل عنه. فأكملت: “رفيق كنا كلنا بعيد النوروز وإنت بتعرف هالشي”، وإذ بلسعة أخرى على ذراعي.

بدأ الهمس بين الطالبات وارتفعت الأصوات، خاف المدرب أن يزول الخوف ويتكرر الاسم نوروز، فأرسلني إلى المدير متوعّداً وأبعدني عن صديقاتي. وأكمل هو ساديته على الطالبات بكل ما أتيح له من وسائل تعذيب وإهانة.

بعد هذه الحادثة بقيت في البيت عدة أيام كعقوبة ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى.

أصبح يوم النوروز عطلة رسمية تسمّى “عيد الأم” فيما بعد، وأصبح نظام الأسد يتبع طريقة أكثر “دبلوماسية” في التعامل مع احتفالات النوروز والمحتفلين، وأصبحت هذه الحادثة في طيّ النسيان… حتى اندلعت الثورة.

عندما غضب الجميع من تسمية مظاهرة الميدان بصلاة استسقاء من قبل الإعلام السوري وتسمية الثوار بالمندسين من قبل النظام، انتابني شعور يشبه الخوف أكثر من الغضب، فقد أيقنت أن السنين لم تغيّر في النظام سوى القشور. فنوروزنا كان يسمّى “تخريب”، والمحققون سيعذبون المعتقلين في السجون عند ذكر كلمة مظاهرة أو حرية كما كان مدرب الفتوة يعذبنا.

لم يكن نوروزنا يختلف كثيرًا عن ورود غياث مطر، فكلانا كان يريد فسحة الحرية تلك، كلانا كان يريد أن يثبت لنفسه أولًا ثم للعالم أننا هنا وأننا لسنا أشرارا، كما يدّعون، فكم بيتاً تهدّم بالغناء والرقص وكم روحاً زُهقت بالورود!؟

قُتل غياث كما كان يُقتل نوروزنا.

أعتذر عن المبالغة في تكرار كلمة نوروز في المقال… لكنه الحرمان يا أصدقاء وصديقات.

 

شاركنَ المنشور