على هامش الثورة السورية والزلزال… آن للعالم ان يتوقف للحظة

إيناس حقي| رصيف 22

مع اقتراب الذكرى الثانية عشرة لاندلاع الثورة السورية، أفكر في أنني لم أكن مرة وسط الحدث، بسبب المصادفات ربما، أو لقلة الشجاعة. أحسد أصدقائي الذين كانوا أكثر شجاعة مني، كما أشعر بالذنب لأنهم قاسوا ما لم أجرؤ على معايشته.

منذ بداية الثورة، أشعر أنني على هامش الحدث، عندما اقتحمت دبابات الجيش معضمية الشام، كنت في جديدة عرطوز المجاورة، أسمع ليلاً إطلاق الرصاص على الآمنين. تركت بيتي في الجديدة وانتقلت إلى دمشق مع تعقد طرقات التنقل وانتعلى هامش شار الحواجز الأمنية، وعندما استقر بي المطاف في المزة، كانت المدافع المتركزة في مطار المزة تدك بلا هوادة داريا، المدينة الباسلة. وكنت على الهامش أيضاً، أسمع أصوات القصف وأبحث لاهثة في صفحات الإنترنت وحسابات الفيسبوك لاحصي الخسائر وأشاهد صور الضحايا وأطبعها في ذاكرتي كتعويض عن غيابي عن مركز الحدث.

خرجت من سوريا، وأصبحت أبعد عن المركز، صباح استهدف النظام السوري غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي، كدت لا أصدق عندما نزلت إلى الشارع أن الحياة في بيروت يمكن أن تستمر بعد كارثة مماثلة. كنت بعد كل مجزرة، أندهش حتى من استمرار الشمس في السطوع. كنت أتخيل أن العالم يجب أن يتوقف ولو للحظة، لشهقة أخيرة كما حدث مع الضحايا.

اكتشفت لاحقاً أن أثر المجزرة أقسى عندما نبتعد أكثر، في أوروبا. نادرة كانت المرات التي يسألني فيها أحد صدفة هل كنت بخير بعد قصف مريع في سوريا أو مجزرة رهيبة، وكنت أمتن كثيراً عندما يسألني غير سوري عن سوريا، ولا بد أنني كنت أسهب في الشرح والحديث ولكن معظمهم كانوا يسمعونني بلطف وتعاطف والدموع تغرورق في أعينهم.

في السنوات الأخيرة هدأت عاصفة الأحداث المدوية، إلى أن تم تسريب فيديو مجزرة التضامن. لم أفتح الفيديو، لم أعد أمتلك ما يكفي من القدرة على الاحتمال. قرأت وصفاً لما فيه، وشاهدت صور المجرم جيداً وحاولت أن أطبعها في ذاكرتي، كما كنت أطبع صور الضحايا، كي لا أنسى، وكي يكون لنجاتي معنى ما أو هذا ما كنت أقنع به نفسي.

في السادس من فبراير/شباط، وصلنا نحن البعيدين خبر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وتذكرت مباشرة شعوري بعد مجزرة الكيماوي. لم أفهم كيف تستمر الحياة وادعة لطيفة فيما الأبنية تطبق على ساكنيها هناك. شعرت أننا مظلومون، مستهدفون، وحيدون، ولم يخطر في بالي أن الأتراك على الأقل يشاركوننا في المصيبة، كنت فقط أشعر بأن مظلومية السوري أصبحت تفوق الاحتمال والمنطق.

عدت لحالة البحث اللاهث على الإنترنت عن خبر، عن قصص، عن حكايا، عن ناجين، عن صور أطبعها في ذاكرتي. نظرت إلى الأرض الثابتة تحت قدمي ولم أفهم وجه العدالة فيما يجري. تخيلت نفسي مكان أحبة الضحايا وهم ينبشون أبنية أحبتهم بأظافرهم ويتشبثون بالأمل، فلم أستطع.

تجمد عالمي أياماً عدة، لم أعد قادرة حتى على التفكير بشكل عملي كما فعل بعض الأصدقاء الذين بدأوا بالتجمع وجمع المساعدات وتنظيم الأمسيات الخيرية. ووسط هذا الجمود الرهيب وصلتني دعوة من بلدية قريتي الجديدة، كتب فيها: “يرحب بكم عمدة القرية سكاناً جدداً في قريتنا ويتمنى استقبالكم يوم السبت القادم في البلدية لمناقشة اقتراحاتكم وتعريفكم إلى مستقركم الجديد”. جاءنا عزيز خطابكم في أسوأ الأوقات! كيف سأذهب إلى اجتماع البلدية وأنا بهذه الحالة؟ لا رغبة لدي بمناقشة شيء. هل أطرح على العمدة والسكان الجدد مساعدة المتضررين من الزلزال؟

صباح السبت، انطلقت إلى مبنى البلدية القريب، استقبلنا فريق من العاملين ودعونا إلى غرفة اجتماعات فيها مجموعة من السكان الجدد. وكان الجميع بانتظار العمدة. فكرت: بعض الأمور لا تتغير، يجب أن يكون المسؤول آخر الواصلين إلى الاجتماع.

دخل العمدة يحمل صينية عليها فناجين القهوة واعتذر عن تأخره في إعداد القهوة، وزع علينا الفناجين وبدأ يحدثنا عن رؤيته للقرية، وعن أحلامه لمستقبلها، وعن رغبته في إحيائها ثقافياً وإعمارها بالشباب والمقترحات. شعرت بالغصة. حاولت أن اختصر مشاركتي قدر الإمكان. عدت إلى المنزل، فتحت فيسبوك لأعود فأغرق بتفاصيل الزلزال. قرأت خبراً: “مختار اسطامو يسرق المساعدات التي وصلت إلى قريته”. فكرت في أن عمدة قريتنا معادل المختار. لا تقارني، قلت لنفسي.

تذكرت سنوات وصولي الأولى إلى فرنسا، تذكرت هجمات 2015 الإرهابية وإعلان هولاند للحداد في فرنسا، بكيت يومها لأن الحداد لم يعلن على ضحايا درعا منذ الأسبوع الأول من الثورة. تذكرت أيضاً عندما غادر هولاند قصر الإيليزيه مصافحاً ماكرون، كم بدت لي عملية تبادل السلطة سهلة، فيما دمر النظام سوريا وهدها فوق رؤوس سكانها كي لا يصافح “الرئيس” منتخباً آخر. تذكرت أن الكهرباء انقطعت مرة واحدة هنا بعد أن قامت البلدية بإبلاغنا أن الانقطاع سيدوم ساعة فيما تقبع سوريا في الظلام

شاركنَ المنشور