إيمان عمارة/ مؤسسة فريدريش إيبرت
منقول عن موقع تجمع سوريات من أجل الديمقراطية
عادة عندما أصاب بالإرهاق من نقاشات تويتر الحادة، اهرب نحو انستغرام كي اختبأ قليلا هناك. افتح التطبيق ويا إلهي، ما كل شلالات الوردي بدرجاته هذه ؟ هل دخلت منتديات حواء او سيدتي بالخطأ ؟ تلال و تلال من الترتر البراق اللامع و أكوام وأكوام من الورود و الزهور تغطي أجسادا بلون بيج فاتح، منحنياتها على شكل ساعة رملية مع شعر متموج لإضفاء مسحة من المحلية و لا مانع من وجود جسد يميل لونه للبني وإمرأة بغطاء رأس إغراقا في نفس المحلية، عملا بوصية مولانا نجيب محفوظ.
ارسمي لي أنثى تلمع
على هذه الصفحات، تتحول أجسادنا، أجساد النساء، لرسومات ملوّنة و جذّابة تخفي الواقع تحت طبقات سميكة من الوهم. جسد الإنسان (نعم، المرأة إنسان و ليست مخلوقا من الورود و الترتر) لحم و دم و جلد و شحوم و تصبغات ومسامات وبقع و شعر و زغب و ترهلات، كلها متوزعة بطريقة غير منسقة ولا متوازنة، و أوجاع و اضطرابات مختلفة تنغص حياتنا اليومية و تضايقنا و تجعلنا نشكك في حسن التقويم. يزدحم الخط الزمني بصور و فيديوهات نساء بابتسامة دائمة و حالة رضا مستمرة، لا يغضبن و لا يصرخن، يمارسن اليوغا ويشربن السموذي الأخضر. يعشن في بيوت جميلة و يمتلكن غرفا تخصهن وحدهن و لا يشاركنها مع أحد. نساء يشعلن شموعا ملونة عند الاستحمام ويرقصن أمام المرايا. نساء محتفيات، منتشيات، متصالحات، إيجابيات يهمن حبا بأجسادهن رغم عيوبها التي نجاهد ولا نراها بالعين المجردة،. ربما لأنها ليست عيوبا من الأصل حسب معايير الجمال العالمية و المحلية السائدة والبائدة. نساء يتصلن بأرحامهن و أرحام أمهاتهن وجداتهن و يستمددن منها الطاقة الأنثوية والإيجابية.
تحثنا هذه الخطابات بشدة على الاحتفاء والاحتفال بكوننا نساء، وعلى الشعور بالإمتنان أيضا لتلك الصدفة العظيمة و اللحظة التاريخية التي تقرر فيها أننا نساء أو إناث. و على أية حال، فهذه الصفحات لا تشغل بالها كثيرا حتى تضع تعريفا محددا لماهية كوننا نساء أو لماهية الأنوثة، عدا كوننا مجرد ارحام مقدسة قادرة على الخلق ومنح الحياة و أجسادا تتطلب اهتماما بالغا و عناية و رعاية ودلع و ابتسامات وعبارات تشجيع و تصفيق حار. في خطابات مدربات الأنوثة و استخراج الطاقة الرحمية، يتلخص وجودنا كنساء في ثلاث محاور رئيسية: علاقاتنا مع الرجال، الأمومة و الدورة الشهرية و المظهر الخارجي. و رغم محاولة هذا المنظور تقديم نفسه كمنظور يحارب اختزال و قولبة النساء في إطار محدد، إلا أنه يعيد صياغة نفس الأفكار التنميطية التي تقصي النساء العابرات أو من يعرفن انفسهن كنساء, وغير المعياريات أيضا بالتركيز على التعريف البيولوجي القاصر و السطحي للأنوثة و الذي طالما استخدمته المنظومة لتحبسنا داخل أجساد لا تشبهنا بالضرورة ولا نمتلكها، و داخل دور جنسي مغاير وأمومي وحيد.
المدربات ورثة الساحرات، حقا؟
كثيرا ما تتقاطع سردية الأنوثة المقدسة مع محاضرات التنمية البشرية. تحاول السردية الاولى ايجاد جذور لها في ازمنة موغلة في القدم وقتما كانت المرأة إلهة و كاهنة و ساحرة حسب ما تدعي المدربات، وترمز للطبيعة الأم و الأرض الخصبة وكلاهما كناية عن العطاء الأمومي غير المشروط حتى يأتي الإنسان/ الرجل و يخرب تماما هذه الصورة المثالية الوردية و ينتهي عصر السلام الأمومي و يحل محله زمن الحروب و الأبوية الدامي الذي جرد النساء من معارفهن السابقة كساحرات ومداويات وفقدن شيئا فشيئا القدرة على التواصل مع طبيعتهن الأنثوية المقدسة وأصبحن مجرد تابعات. تلك النسخة من أسطورة الخلق أفرزت خطابا كثيرا ما يستخدم صفة الطبيعية لإضفاء مصداقية على الحلول التي يقدمها، أو يستعير مفاهيم مثل الأمواج و الفصول والطاقة للحديث عن المشاعر والحالات المزاجية البشرية المختلفة التي تختبرها النساء. يحتل الجسد مساحة محورية في هذه السردية و بشكل خاص الرحم، حيث تبدأ معجزة الخلق الأنثوية التي تتمحور بدورها حول الدورة الشهرية.
بينما تستقي الاخيرة خطابها التحفيزي من خليط يمزج بين القليل من علم النفس و الكثير من الفردانية الحديثة التي تدعي تجميل الصورة التي نعرفها للعالم و الحياة عبر التمركز حول الإنسان ككيان مستقل و متفرد بذاته، لا يشغل باله الا البحث عن سلامه الداخلي و راحته النفسية حتى لو أحاطت به البراكين و لاحقته الأعاصير. كل ما عليه هو أن يغمض عينيه و يتنفس بعمق و يفكر في النجاة و سينجو حتما، أو هذا ما دأب كهنة التنمية البشرية و أنبياء الإيجابية على اخبارنا به، فكل ما تتعرض له نابع من قناعتنا الشخصية. و لا بأس برشة من الروحانية،و هل هناك افضل من الحضارات غير البيضاء شديدة البراءة في بدائيتها، الثرية بالتعاليم الإنسانية رغم فقرها حتى نستمد منها شرعية تاريخية و بعض حركات الصلوات المفرغة من معناها و التي تحولت لمجرد جيمناستيك يحتكر تدريسها من لا يعرفون حتى معاني اسمائها بلغة موطنها الأصلي،و لا بأس أيضا بالقليل من الترنيمات و اعواد البخور في أبهى صور الاستلاب الثقافي بحجة البحث عن الذات. كل هذا من أجل خلق فقاعات يعيش فيها الفرد وحيدا مع ذاته، معتزلا ما يؤذيه و من ضايقه، حيث أن السعادة قرار شخصي جدا.
ليس بالمستغرب أن تلقى مثل هذه الخطابات رواجا في مجتمعات منطقة MENA, حيث الواقع المزري للنساء و التحريض اليومي ضدهن و الانتقاص من بشريتهن، فمن الطبيعي أن يتبنين سردية الألوهية القديمة و الامجاد الغابرة التي لا بد أن تعود يوما و تحصل النساء على مكانتهن المستحقة قبل ظهور العالم الذي يصنعه و يتحكم به الرجال. كما أنه من المفهوم جدا أن تتماهى النساء مع كل ما يضفي أهمية وقداسة على مهماتهن اليومية المتكررة من أعمال رعائية وأمومية وأنها مهام ذات قيمة عالية خاصة أن المنظومة الرأسمالية تحتقرها و تعتبرها مجرد وقت ضائع غير انتاجي. و رغم كون سردية الساحرات مثلا غير متناسبة مع سياقنا التاريخي و استمرار التداوي بالأعشاب و الرقية و الطب النبوي و غيرها من أساليب الطبابة خارج اطار الطب الحديث لغاية اليوم، إلا أن الوصفات المتداولة على صفحات مواقع التواصل تجد رواجا كبيرا في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة و ثقافة ثلاث مكونات من مطبخك، خاصة أن هذه الصفحات تقدم محتواها بشكل عصري و بمفردات شبه علمية و أجنبية مغرية تركز كثيرا على العودة للطبيعة و الطاقة. يتزامن هذا الحنين لتاريخ نسائي متخيل مع تيارات الحنين لعالم ما قبل الاستعمار الأوروبي و تصويره بمثالية زائدة و ايضا لحضارات ما قبل الإسلام حيث كانت الأمم نسوية حد تقديس اناثها و عبادتها. لكن أيضا استعادة الخطاب النسوي الأوروبي لتاريخ ساحراته و كاهناته و استسهال البعض ترجمة المحتوى و تبني الخطاب دون أدنى اهتمام بالسياق المحلي ثقافيا و تاريخيا و لا حتى تهيئته كي يناسب المعتقدات الراسخة في منطقتنا. لكن، من الواضح ان اليوغا اشد اثارة من الصلاة الاسلامية، و الساحرات سكسي اكثر من العرافات و الحلبيات و الغجريات، و قراءة التاروت اكثر تحضرا من قراءة الكف و الفنجان او الرقية. أما محتوى التنمية البشرية فما أسهل أن يجد له صدى و اتباعا في مجتمعات تنبذ الفردانية و التفرد نبذا و تفرض على الأشخاص أن يكونوا جميهم نسخة وحيدة متشابهة وأن يعيشوا إجباريا معا في جماعات و تلقنهم أن الابواب المغلقة خلفها حتما جرائم أو أفعال مخجلة و الخصوصية مستباحة طوال الوقت، في كل مكان و على يد الغريب قبل القريب.
أقنعة الأبوية الأربعون
هذا الإحتفاء الأبله بأنوثتنا من ناحية، و بفردانيتنا من ناحية أخرى و الذي يحاصرنا من كل جانب، يحول بيننا و بين إعادة النظر في المفاهيم التي يطرحها و يضفي عليها صفة النسوية كي يبرر وجودها و يبيعنا إياها في غلاف تقدمي جديد. لكن الغلاف الجديد، رغم أطنان الترتر و الزهور ذات الألوان المبهجة لا يستطيع أن يخفي طويلا كونه يبيعنا بضاعة قديمة نعرفها جيدا و عالما ثنائيا لا يوجد فيه سوى انثى و ذكر على شكل طاقات متضادة لكنها متكاملة، تحمل كل منهما صفات الأنوثة و الذكورة التنميطية كما عودتنا عليها الأبوية و لا تحمل أية تصورات مختلفة لأحدهما أو كليهما. و تماما مثل الأبوية، تتحالف هذه الخطابات مع الرأسمالية، بقصد او بدون قصد، و تتحول صفحات حبي نفسك و تحتفي بدورتك لأسواق استهلاكية تبيعنا تيشرتات مكتوب عليها شعارات حماسية و ثمنه يتعدى متوسط الدخل اليومي لعشر اسر عربية على الاقل و شموع على شكل جسم امرأة مثالي المقاسات تماما مثلما تريده المعايير و تماما مثلما تدعي صفحات حب الذات رفضه. عدا جلسات التواصل مع الرحم و استدعاء الطاقة الأنثوية الكامنة في البويضة المقدسة و غيرها مما خف محتواه و غلى ثمنه بعد أن تحولت السرعة إلى بيزنس هائل يدر على أصحابه أرباحا خيالية و لا يحقق لمريديهم النجاة المنشودة إلا بالصدفة المحضة. هذا المنتج الجديد القديم هو ما يسميه Yves Charles Zarka اقتصاد الهوية و يشمل جميع انواع المتخصصين في “اعادة بناء الذات” و خبراء العلاقات و الجنس، الخ.
لكن، قد يكون أخطر ما أفرزته سرديات الأنوثة المقدسة و الإيجابية الجسدية هو الغياب المرعب للسياق السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الذي خلق خطابا مبتسرا معلبا، عبارة عن مسخ فقد لونه و طعمه من كثرة ما نسخ و استنسخ. يتمركز خطاب الإيجابية الجسدية حول الذات و الفرد كطوق النجاة الأولي و احيانا الوحيد الذي نمتلكه و يحب ان نسعى له. لكنه رغم منطقية و صحة هذه النقطة بالذات، إلا أنه يخادعنا عندما يوهمنا ان المشكلة تكمن في الذات وحدها و يروج للأنانية و النجاة الفردية و يشجع على الحياة داخل قواقع منفصلة عن العالم الخارجي و منفصلة أيضا عن باقي النساء رغم شعارات التضامن و النساء للنساء. هل نستطيع الحديث عن الصحة النفسية للنساء مثلا بمعزل عن الانظمة السياسية القمعية التي قد تعتقلنا او تعتقل اصدقائنا في أية لحظة و دون سبب ؟ ماذا عن موجة انهيار الاقتصاد في عدة دول في المنطقة و نزول اسر كثيرة تحت خط الفقر ؟ ماذا عن القيود الاجتماعية التي تفرضها علينا عائلاتنا قسرا و معها خيارات محددة لا يجب ان نحيد عندها و الا ذبحنا ؟ هل يكفيني أن ارقص أمام مرآتي حتى لا تسحقني تروس المنظومة العالمية التي ستستبدلني بعد ثوان من انهياري التام كي لا تتوقف عن الدوران و انتاج ثروة لحفنة لصوص من لابسي اغلى البدلات؟ ماذا لو كنت لا اريد الاحتفاء بدورتي، لماذا يصادرون حقي في كراهيتها أو الانزعاج منها؟ ماذا لو كانت مصدر قلق دائم لي لأنني لا أمتلك ثمن الفوط الصحية ؟او لأنني لا احب احساس البلل المصاحب لها و لا التقلصات ؟ ماذا لو كنت اعتبر وجود رحم داخل جسمي مجرد صدفة لا تثير اهتمامي من الاصل و لا اعرف ما افعله به ؟ ماذا لو كنت لا اكره نفسي رغم كل ذلك؟ و هنا يجدر بنا أن نتساءل، ماذا عن النساء اللواتي لا يمتلكن رحما ايا كانت الأسباب ؟ أولسن نساء ايضا؟ أو من يمتلكن رحما لكنه لن يحمل يوما الحياة ؟ و ماذا عن النساء اللاتي يطمحن فقط لحياة عادية و بسيطة كبشريات دون ألوهية و لا تقديس و لا مركزية ؟ و هل ستنهي عبارة كل النساء جميلات معضلة معايير الجمال و تفكك مفهوم الجمال في حد ذاته و ارتباطه شبه الحصري بالنساء ؟ و لم علينا كنساء أن نهتم به إلى هذا الحد و نسعد بهذا الوصف و نسعى له ؟
أيضا، يساهم هذا الخطاب في خلق نساء ينظرن الى دواخلهن فقط و لا يتصادمن ابدا مع الواقع المفروض عليهن من السياسيين و رجال الدين و الممسكين بزمام الاقتصاد، نساء بأجنحة وهمية لأن اجنحتهن الحقيقية تمت قصقصتها بنجاح بعد قولبتهن و تحويلهن لنسخ مكررة باهتة يفتخرن بنجاحاتهن الفردية بعدما استفدن من التمكين الحكومي او امتيازات طبقية و عائلية و لا يلقين بالا لمن لازالت ترزح تحت القيود بحجة أنها لم تعمل بجد كاف لتحقيق أحلامها. كما يعمل على وأد أية ترابط ممكن بين الأفراد خوفا من تحوله لحراك ثوري في حال ما إذا تركنا العنان لغضبنا ووجهناه نحو المتسببين حقا فيه و توقفنا عن اعتبار أننا مسؤولون بشكل فردي عن آلامنا و مآسينا و تعاستنا في ظل منظومة تستنزفنا يوميا في الفضاءات العامة والخاصة و لا تمنحنا حتى راحة النوم العميق بل تفسده علينا بنوبات الهلع والتوتر الدائم من غد لا نستطيع توفير وجباته أو كوكب لم يعد هواؤه صالحا لنا أو حروب و صراعات تجبرنا على الرحيل.
أما بعد…
فلنثر على كل من يصادر حقنا في الحديث عن معاناتنا و كل من يطالبنا بالهدوء و التأمل و الابتسام لجلب الطاقة و استدعاء الحظ السعيد،ولنثر ضد كل من يوهمنا ان سعادتنا قرار غير مرتبط بتدمير جميع روافد المنظومة التي تسحقنا أو على الأقل توجيه أصابع الاتهام لها و أن الرقص سيوقف بيع الأسلحة و تنظيف الشاكرا كاف لحماية البنات من الزواج القسري .
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.