نسوة سوريات يطلقن صرخة القهر في مهرجان برلين
يتحدين المجتمع الذكوري مسرحياً داخل الفيلم انطلاقاً من شهادات سيدات معنفات
هوفيك حبشيان|INDEPENDENT
عذابات المرأة السورية، وهي نفسها عذابات المرأة العربية عموماً، تصدرت عروض مهرجان برلين السينمائي (16 – 26 فبراير- شباط) من خلال فيلم وثائقي في عنوان “تحت سماء دمشق” إخراج طلال ديركي وهبة خالد وعلي وجيه. العنوان يذكّر بثاني فيلم روائي طويل سوري صوِّر في دمشق ويعود تاريخ انتاجه إلى العام 1932. ديركي مخرج معروف بفن تسجيل الواقع ولديه أفلام وثائقية أشهرها “العودة إلى حمص” و”عن الآباء والأبناء”. أما خالد ووجيه، فهما حديثان في هذا المجال.
في الصالة الكبيرة لمجمع “كوبيكس” المطل على واحدة من أجمل ساحات برلين وأكثرها حيويةً، “ساحة الألكسندر”، تجمّعت حفنة من المهتمين بالوثائقي وبالقضية النسائية وبسوريا (ليس بالضرورة بهذا الترتيب). معظم المشاهدين من الألمان أو من المشاركين في “البرليناله” الذين يأتون من
خارج البلاد، مع عدد قليل جداً من العرب والسوريين، رغم ان برلين أصبحت “عاصمة بديلة” لبعض السوريين المقيمين في أوروبا. العرض الذي شاهدته كان الثالث للفيلم في المهرجان، بعد افتتاحه قبل أيام، مع الذكر بأنه يشارك فيه ضمن قسم “بانوراما”.
في “عن الآباء والأبناء”، اختار ديركي “اقتحام” البيئة الحاضنة للسلفية الجهادية وخصوصيتها، وان ينجز فيلماً عنها “من الداخل” بحثاً عن جذور العنف. وللتسلل إليها لم يكن أمامه سوى حلّ واحد: أن يعرّف عن نفسه بصفته مصوّراً صحافياً متحمّساً لتلك الأفكار. هكذا صوّر فيلمه ودخل بيت السلفي أبو أسامة وتعرف إلى أولاده الثمانية. معه، عاش لحظات رعب كثيرة، نرى بعضها في الفيلم. تقنية التستر أو الإختفاء، للتصوير في بلاد يحكمها نظام سياسي متعطش للدم، يستعيدها اليوم في هذا الفيلم. لكن الأساليب مختلفة، لكونه غائباً جسدياً هذه المرة، وله شريكان في الإخراج. فتصوير فيلم كهذا عن بُعد، انطلاقاً من برلين، وهي مكان اقامة طلال ديركي وهبة خالد، شبه مستحيل، رغم أن عدداً من السينمائيين استعانوا بهذا الحل في مشاريع مشكوك في مناقبيتها. ذكاء الفيلم هنا في أنه يحول مسألة عدم قدرة المخرجين على الإنتقال إلى سوريا والتصوير فيها، موضوع من مواضيع الفيلم المتشعبة، ويتم توظيفه لصالحه. كل شيء يحدث أثناء التصوير يُستَثمر فيه، في أسلوب تفاعلي بين الفن والواقع. إلا أن التمسّك بعرض ظروف التصوير كثيراً والتباهي بها، يؤدي إلى صرف النظر عن المضمون، لمصلحة الاهتمام بالشكل وتقنيات السرد. هناك صراع مستمر بين الشكل والمضمون لمعرفة أيهما سيكون بطل “تحت سماء دمشق” في نهاية المطاف.
العنف الشامل
بعيداً من السياسة في مفهومها المباشر، يتطرق الفيلم إلى مكانة المرأة في المجتمع السوري قبل الحرب وخلالها وبعدها، وهي التي دمّرت البلاد. المباني المتداعية والمخترقة بالرصاص والمنهارة التي نراها بكثافة في الفيلم، ليست هي الأشياء الوحيدة التي قضت عليها مأساة استغرقت عقداً من الزمن واستنزفت البلاد. فالإنسان، وخصوصاً الفئات الأضعف في المجتمع، هم أكثر مَن يحتاجون إلى ورشة إعادة بناء. وهذا ما يسعى إليه الفيلم الذي يتسلل إلى يوميات دمشق، فنرى مشاهد وثائقية تلتقط واقعاً يغيب عن نشرات الأخبار والمسلسلات المليئة بالزيف. داخل هذا المجتمع البطريركي نساء قررن البقاء في بلادهن، ويعانين من سوء المعاملة والعنف المنزلي، بحيث أن لا صوت يعلو فوق صوت الرجل.
الذكورية المتفشية لا تفرّق على ما يبدو، بين سيدة وأخرى، مهما تكن توجهاتها السياسية وقناعاتها، فكل امرأة تحت سماء دمشق، أسيرة هذه العقلية المتخلفة التي تعطي الرجل سلطات مطلقة وتحرّمها على النساء. هذا ما يرويه الفيلم، مساوياً بين الجميع، مغيباً دور السلطة السياسية ومساهمتها في رعاية هذا النظام الذكوري، إلا إذا اعتبرنا أن مشهد موظّف حكومي في إحدى المصالح الحكومية، وهو يختم رزمة من الأوراق التي ستنام طويلاً على طاولة المحكمة، يفي بالغرض. يجب ألا ننسى أن للسينما هذه القدرة والبلاغة على احتواء عالم كامل في صورة واحدة. في أي حال، يبدو أن الرسالة وصلت إلى ألمانيين كانا خلفي في الصالة… فضحكا!
تحرش وابتزاز واستغلال جنسي وغيره من حالات القمع، سواء في الحياة الخاصة أو المهنية، من تمظهرات ممارسة سلطة الرجل على المرأة. هذه حرب أخرى تُستخدَم فيها أشد الأسلحة فتكاً ولا أحد يكترث. بيد أن ما يساهم في استمرار هذه الحالة إلى الأبد، هو التستر على هذه الممارسات، بالتواطؤ مع السلطات القضائية والسياسية، والدينية أيضاً (بالرغم ان الفيلم لا يتعرض إلى الأخيرة). نتيجة هذا كله، ينتهي أمر بعض النساء في مستشفى الأمراض العقلية!
على سبيل التصدي لهذه الحالة ونزولاً عند رغبة أصحاب الفيلم، تتولى مجموعة فتيات (إيليانا، إينانا، فرح، غريس، سهير)، يقال لنا أنهن ممثّلات، إقامة مسرحية موضوعها الأساسي التحرش والانتهاك الجسدي الذي يتعرض له العديد من النساء. هدف المسرحية؟ الدعوة إلى البوح وعدم السكوت وتحدي المحرمات في مجتمع محافظ.
لهذا الغرض، عليهن مقابلة سوريات أخريات والتحدث معهن عن تجربتهن. الشهادات (ترتكز خصوصاً على الطبقات الدنيا في المجتمع)، رغم أن لا جديد فيها ونعرفها جيداً، لكنها تنقل حجم الفاجعة. هذه الشهادات التي ستكون مادة دسمة للمسرحية، تولّد نقاشات بين الفتيات الخمس، وتظهر لنا علاقتهن مع أنفسهن ومع بيئتهن. ورغم أنهن قطعن شوطاً كبيراً في إعادة بناء الذات وتحدي المجتمع، لكن الهشاشة هي أكثر ما تميز خطابهن وسلوكهن.
ولسخرية القدر إعترضت المشروع مشكلة كبيرة، والمشكلة هذه على صلة مباشرة بالقضية التي يحاول الفيلم كشفها وتفكيكها وعرضها. مشكلة تؤكد أن حتى الدوائر الأكثر تعاطفاً مع قضية المرأة لا تكون دائماً محل ثقة. فكيف من الممكن لفيلم أن يتعاطى مع مشكلة هي منه وفيه؟ نتيجة هذه المشكلة، يسلك الفيلم طريقاً جديدة. يحاول المخرجون الثلاثة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الضربة قاضية، وهي أكبر من القدرة على استيعابها. ثم نحن أمام فيلم وثائقي في الآخر، وما يحدث أثناء التصوير هو جزء من الواقع.
فور خروج الفتيات من محيطهن السوري إلى لبنان حيث يتم استكمال التصوير، يدخل الفيلم في الغيبوبة. الفتيات خارج سوريا كالأسماك خارج مياهها. ينتهي الفيلم مبكراً، لكنّ هناك إصراراً ومحاولات لإعادة إحياء جسد يحتضر في النصف الساعة الأخير. وهذا مؤسف لأن كل الجزء الذي يأتي قبل اكتشاف المشكلة بديع إلى حد كبير، كتصوير وكلغة سينمائية وكشهادات وكأسلوب وثائقي يقرّب الفيلم من جماليات الروائي.
من الصعب أن نعرف ما نسبة الحقيقة وما نسبة المفبرك في الفيلم. في أي حال، هناك صعوبة في رفع سقف الطموحات السينمائية في بلد يعيش صراعات مفتوحة على كل المستويات وفي كل الاتجاهات، بعضها صامت وبعضها الآخر محل نقاش دائم. اللافت في جميع الأحوال، ان “تحت سماء دمشق” يبدأ فيلماً عن البوح وينتهي باستحالة البوح. ما لم نسمعه ولم نره، قد يكون أفظع بمراحل من الذي سمعناه وشاهدناه، وفي هذه القدرة على الإيحاء، بعض من أهمية الفيلم. فلكل شيء حدود في بلد مثل سوريا، حيث العاملون في مجال الفن، يعرفون بعضهم بعضاً جيداً، ولا مجال لتسمية الأشياء بمسمياتها الواضحة والصريحة، كم هي حال الممثلة صباح السالم التي تختصر كل شيء بكلمة واحد، كلمة “فساد” التي لا تعني شيئاً في هذا السياق.