ثورة الاتصالات : اختراق قوائم التحريم

وجدان ناصيف| صدى الجنوب

حقق القرن العشرين انتصارات قانونية كبيرة لصالح الفرد وحقوقه، كان أكبر مثال عليها هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي خص الانسان-الفرد في غالبية فقراته بالحقوق والحريات، لكن بقيت حقوق الفرد وإرادته في منطقتنا تُفَصّل على قياس المجاميع، فتذوب وتتلاشى في حقوق تجمعات الأسرة والطائفة والعشيرة والمجموعة الدينية والعرق، ولا زال الكثير من أعداء الحريات يصرخون بأن الفردانية والحريات هي مفاهيم غربيّة غريبة عن مجتمعاتنا، فالليبرالية جاءت لتقوض مجتمعنا وتعبث بشكل الأسرة التي هي نواة المجتمع الصلب، وفق رأيهم. هذا الخطاب يتشاركه القادة السياسيون ورجال الدين على حد سواء، فهؤلاء أكثر من يخاف التغيير.

لكن الحصار والجدران السميكة التي تم عزل مجتمعاتنا خلفها بدعوة الخوف من الخطاب الغربي الليبرالي الذي سيقوض قيمنا، لم تعد قادرة على أن تكون عازلة أمام الموجات الكهرومغناطيسية أو إشعاعات الوايفاي التي تخترق الحدود وجدران العزل الكتيمة، حيث لا يمكن تجاهل ما أسست له ثورة الاتصالات التي انطلقت في الربع الأخير من القرن الماضي وتطورت على نحو مذهل في القرن الحالي، والتي أقل ما يمكن أن يُلاحظ من إنجازاتها هي أنها حررتنا جميعا من أسر المصدر الأحادي للمعلومة، والأهم من ذلك أن مستخدمها هو الفرد، حيث أصبح قادراً على الحصول على كم هائل من المعلومات من خلال جهاز بحجم كفه، وأصبح بإمكانه هو أيضاً، أيّاً كان جنسه وطبقته الاجتماعية ولونه ولغته، أن يكون مصدراً للمعلومات.
نعم، أخطأ مارشال ماكلوهان في نبوءته حول أن العالم سيصبح قرية صغيرة، فالحال أن الفرد، مع ثورة الاتصالات، يصبح كوناً بذاته.
لطالما كانت الأسرة في مجتمعاتنا هي المصدر الوحيد لمعلوماتنا حول أجسادنا والتي يطلق عليها اسم “الثقافة الجنسية”، فلم تستطع أي سلطة أن تنقل هذه الثقافة للفضاء العام، إن كان من خلال المناهج التربوية، أو من خلال المؤسسات الإعلامية أو الثقافية، وبقيت مفردة “الجنس” ضمن ثالوث التحريم الصارم الذي عجزت أجيال عن كسره.
معلوماتنا حول التعامل مع أجسادنا نتوارثها ضمن دائرة مغلقة من جيل إلى جيل، غالباً لا تراعي تطور الحياة وسياقاتنا الفردية وأدوارنا المتغيرة، هي معلومات مبنية على التجارب العامة التي لا تأخذ بعين الاعتبار خصائص الفرد وحاجاته وميوله وخياراته، أُسس لها منذ أزمان غابرة، اعتمدت على المنع والتحريم للحفاظ عليها، تشرف عليها المؤسسات الدينية والسلطوية ويتبناها المجتمع الذي يأخذ دور الرقيب اللصيق على تطبيقاتها داخل بيوتنا، مستخدمة مفردات نسبية؛ مثل مفهوم الشرف الذي يقابله مفهوم العيب، تطبيقاتهما الصارمة غالباً تخص أجساد النساء في المقام الأول، فيوضع عبء الشرف الثقيل، الذي لا يسلم من الأذى “حتى يراق على جوانبه الدم” وفق قول المتنبي، على كاهل النساء؛ عبء ثقيل ازهقت بسببه أرواح كثيرات، ولا يزال حتى يومنا هذا مبرراً أساسيا للعنف الذي تتعرض له النساء.
دفع جيلي والأجيال التي سبقتنا أثماناً باهظة لأننا اخترقنا منظومة المعلومة الأحادية المصدر، التفكير خارج الصندوق واستحضار مفردات جديدة الى بيئاتنا المحلية، دفع الكثيرات والكثيرون ثمنه عزلاً ووصماً واتهامات بالتخريب، ويمكن القول أن جيلنا الدينكوشوتي هُزم أمام طواحين الهواء، فالمعارك الفردية حتماً هي الخاسرة في مواجهة الأعراف والتقاليد التي تتبناها الجماعات وتدافع عنها باستماته، لكن من نصِمهم اليوم بجيل الفيسبوك والتيك توك والانستغرام من أجل تصغيرهم، لن يكونوا بعد اليوم وحدهم، فمن خلال خوارزمية بسيطة توفرها مواقع التواصل الاجتماعي سيتوفر لهم حلفاء ونصراء من كل أرجاء العالم، وسيهدمون جدران التحريم مهما حاول حماة المجاميع تدعيمها في خطاباتهم. هي حركة جديدة لا تستطيع أي قوة إيقافها، ولا حتى السلطة في كوريا الشمالية والمجهزة بأقوى وسائل العزل ستستطيع الوقوف في مواجهتها للأبد.

لم يعد الجيل الجديد بحاجة لإخفاء المجلات والكتب واشرطة الفيديو الممنوعة وتعريض سمعته وحياته للخطر كما حصل لجيلنا والأجيال التي سبقتنا، كل ما يحتاجه الفرد هو رمز سرّي لقفل جهاز هاتفه الصغير في راحة كفه. هذه ليست بشرى سارة، سيقول كثيرون وسوف أوافقهم الرأي، فحرية الفرد ليست فقط حق له، بل مسؤولية كبيرة، وتعدد مصادر المعلومة واتاحتها للجميع لها وجه سلبي لا يمكن تجاهله، فعندما يصبح أي فرد قادراً أن يكون مصدراً للمعلومة يصبح من الصعب معرفة المصدر الحقيقي من المصدر الكاذب، المعلومة الصحية والعلمية من المعلومة الضارة والإشاعات.

من ناحية أخرى لثورة الاتصالات ضرراً كبيرا على الأطفال والمراهقين في غياب الرقابة أو الإشراف من قبل العائلة والسلطات، لكن كيف يمكن الحفاظ على الحريات واحترامها في ظل الرقيب؟ كيف يمكن ألا يتحول الرقيب إلى مستبد ومصادر للحريّات بدعوى الحماية؟ هذا السجال يدور في كل مكان في العالم، حتى في البلدان الليبرالية، فأضرار الثقافة الجنسية التي تعتمد على محركات البحث مثلاً قد تؤذي الأطفال والمراهقين على نحو كبير وتقدم لهم معلومات خاطئة، وقد يصبحون ضحايا لانتهاكات تترك ندوباً لا تمحى على أجسادهم وأرواحهم، كيف نحمي أولادنا إذن من دون أن نتخذ دور الحارس الأخلاقي ومن دون أن نحملهم ما حملنا إياه مجتمعنا؟ هي معادلة صعبة، لا مفرّ أبداً من الخوض فيها ومحاولة حلّها.
سيمشي هذا الجيل وربما جيل آخر قادم مترنحاً على حبل رفيع جداً كي لا يقع ضحية المنع والتحريم من جهة، وضحية المعلومات الخاطئة والمربكة والسّامة من الجهة الأخرى،

في هذا المكان الخطير يحتاج أولادنا للدعم والمساندة وليس للحراسة والأحكام الجاهزة، يحتاجون إلى أن تأخذ المدرسة دورها في أن تكون مصدرا أساسياً للمعلومة حول الأجساد والتعامل معها، يحتاجون أن نصادقهم، أن نعلّمهم أن يحموا أجسادهم، ليس لأن جسد البنت هو شرف العائلة، وليس لأن جسد الإنسان هو منبع الأخطاء والشرور، بل لأن جسد المرء هو ملكه وحده وعليه احترامه والحفاظ عليه وتجنيبه الضرر، وعلى الدول أن تسعى لسن قوانين تحمي أجساد الأطفال والمراهقين من الاستغلال، وعليها أن تجرم التحرش والعنف الجسدي والجنسي، خاصة العنف المبني على النوع الاجتماعي، بما فيها العنف الإلكتروني، وعلينا قبل كل ذلك أن نعمل على تفكيك ذهنية التحريم ومفاهيم العيب والشرف في ثقافتنا الجمعية، وفك ارتباط الشرف بأجساد النساء على نحو خاص، لكي لا تصبح وسائل التواصل عبئاً جديداً يضاف إلى أعبائهن، ومصدراً جديداً للعنف المسلط عليهن.

شاركنَ المنشور