روضة عبد الخالق| صدى الجنوب
لعبت التنشئة الاجتماعية بالعموم، والتنشئة الجنسية بالخصوص الدور الأكبر في تعزيز وتكريس وضعية القهر والتمييز التي عانت منها المرأة تاريخياً في جميع المجتمعات، ومازالت تعاني منها حتى يومنا في الكثير من المجتمعات المتخلفة كمجتمعاتنا، وبالرغم من الإنجازات المهمة على صعيد المدونات الحقوقية والثقافية على الصعيدين العالمي والمحلي، لكنّ تلك الإنجازات بقيت حبيسة السطح السياسي والثقافي النخبوي، ولم تستطع أن تحدث خرقاً حقيقياً في البنية الاجتماعيّة، ولم تتمكن من كسر الصورة النمطية الراسخة للمرأة في العمق النفسي للأفراد ذكوراً وإناثاً، ولا في القاع الثقافي للمجتمع المتجسد في العادات والأعراف والتقاليد السائدة، والتي أخذت التنشئة الاجتماعية على عاتقها مهمة نقلها من جيل إلى جيل، وتكريسها بجملة واسعة من المحرمات والمحظورات، ضمنت إخضاع النساء للسلطة الذكورية على مرّ التاريخ، وفرض قيودها وهيمنتها عليهنَّ، مما يعزز هذه السلطة ويضمن بقاء تماسكها، لتصبح المرأة كائناً مسلوب الإرادة وجزءاً من متاع الرجل وملكيته.
فمنذ الانقلاب الذكوري، وانتقال السلطة من المرأة إلى الرجل في مطلع العصر الحجري النحاسي، وبحسب “خزعل الماجدي” في كتابه “أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ” “1”، حيث تغيّر نمط الإنتاج بعد اكتشاف المعادن، وظهر مفهوم الملكية للمرّة الأولى، ليتمّ تقييد حرية المرأة في الجنس، وفق التشريعات والقوانين المنصوص عليها، بما يضمن للرجل، أن يكون الأبناء الذين سيعتني بهم وسيرثون أملاكه من بعده، هم أبنائه وليسوا أبناء رجل آخر. كلّ ذلك غيّر في البنية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية للمجتمعات البشرية، وأسس لكلّ الايديولوجيات التي تتغذّى على استلاب المرأة والرجل على حدّ سواء، وفي تكريس وضعية القهر للمرأة، كما عبر عنها “مصطفى حجازي” في كتابه “سيكولوجيا الانسان المقهور” “2”، حيث تمّ سجنها في جنسانيتها واختزال وجودها الى حدود جسدها، كأداة للجنس والتكاثر وإمتاع الرجل، وحصر وظيفتها في الحياة في حدود طبيعتها البيولوجية، وقدرتها على الإنجاب وعلى تربية الأطفال والاهتمام بشؤون أسرتها، وهذا ما قلل من شأن باقي قدراتها وإمكانياتها التي لا تصبّ في خدمة هذا الجانب أو تتعارض معه.
ما كان لكلّ هذا أن يحدث، لولا الاعتماد على جملة واسعة من الضوابط الاجتماعية والدينية والثقافية والقانونية التي تُلزم المرأة بما تفرضه موازين القوى المهيمنة. فلتطويع قوة هائلة كقوة المرأة وإخضاعها لإرادة السلطة الذكورية، ولترويض دافع أساسي من الدوافع المسؤولة عن حفظ البقاء، كان لابدّ من اخضاعها عبر الترغيب أولاً، وبإضفاء قداسة على أدوارها النمطيّة، كتبجيل مكانتها كأمّ، وتعظيم هذا الدور لدرجة أنّ أيّ أنثى لم تحظَ بهذه الفرصة ستشعر بمشاعر النقص والدونية وانعدام الكفاءة وفقدان المعنى في الحياة، وبالترهيب عبر ممارسة كافة أشكال العنف المادي والمعنوي، وصولاً الى أقصى وأقسى أشكاله، ألا وهو القتل، فهذه السلطة تملك الحقّ باللجوء إليه مدعومةً بالعرف الاجتماعي السائد، فالمرأة بوصفها رمز الشرف والكرامة، أصبح للجميع الحقّ في الدفاع عنها، حتى لو وصل الأمر إلى التصفية الجسدية للمرأة.
إنّ أول ما ستتعلمه الأنثى منذ لحظة ولادتها، هو كيف ستكون حارسة لجسدها الذي لا تملك الحق فيه؟ فهي مسؤولة عن الحفاظ عليه أولاً من نوازعه الطبيعية الغريزية عن طريق كبتها وقمعها، وثانياً عن منع الذكور من الطمع به أو الاقتراب منه، فهي لن تُرحم من العواقب إذا ما حدث بأنها لم تقم بواجب صون جسدها. وهذا ما يدفع الأنثى للخوف من أنوثتها، والتنكر لطبيعتها تماهياً مع ما تمليه عليها تابوهات المجتمع، فما تعلمته عن كون جمالها فتنة وجسدها عورة، وبأنها سبب الخطيئة وربة الإغواء وأصل كلّ الشرور، جعلها تعيش في ازدواجية الرفض والقبول لأنوثتها، فهي وراء كلّ ما تعانيه من قهر وظلم من جهة، ومن جهةٍ هي مصدر تفاخر واحتفاء بكون المعيار الذي سيحدد قيمتها، يرتهن بقدرتها على الإنجاب وتحقيق متعة ورغبات الرجل.
تسبب هذه الطريقة في التنشئة الاجتماعية للأنثى الكثير من المشاعر المؤلمة، فحياة النساء مجبولة بالخوف من عقاب محتمل على ذنب مفترض، وبالغضب المكبوت الذي لن يُسمح لها بالتعبير عن مكنونه، إلّا من خلال الانكماش والتقوقع أكثر في صورتها النمطيّة، فمشاعر الظلم الواقع عليها، وإحساسها بالعجز والذنب والعار والدونية، بمعنى أن نظام التحريم والتأثيم الذي تخضع له، سيكون وراء الكثير من المشكلات والاضطرابات النفسية، ومن ثمّ ستظهر آثارها عاجلاً على أبعاد شخصيتها، وعلى حياة أسرتها وأطفالها ذكوراً وإناثاً، فأيّ تفتّح لرغبات الجسد أو لمشاعر الحبّ هو خرق للمقدسات والمحرمات التي تشربتها خلال نشأتها، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من نسيجها الفكري والنفسي، الذي سيتولى لاحقاً مهمة تكبيلها بالنيابة عن المجتمع، وسيخرجها من دائرة الحياة الفاعلة، مما يتيح إدارة الحياة بوجهة نظر أحادية واقصائية، يشكل العنف طريقها الإجباري الوحيد.
إنّ توق المرأة إلى الحرية والانعتاق يجب أن يوازيه توق الرجل إلى ذلك أيضا، فكلاهما ضحية القيود الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية نفسها، وهي سبب حرمان الرجل والمرأة من إنسانيتهما الحقّة، ومن أن يكونا ذاتهما المتوازنة في ظل علاقة تقوم على التكافؤ والتكامل والتشارك، يصونها مبدأ الحقوق والواجبات، علاقة جذورها الحب وفضاؤها الحرية. إنّ أيّ رهان على ما عدا ذلك هو محاولات عرجاء، وهروب وإنكار لأصل المشكلة الاجتماعيّة كاملةً، كما أنها ستشكل عثرةً في وجه الطبيعة الفطرية للحياة، والتي لن تتوقف في بحثها عن طريقةٍ ستعبّر بها عن نفسها بأكثر ما تستطيعه من توازن.
حال المرأة عبر التاريخ تختصره عبارة هرمان هسه في كتابه “دميان” حين قال: “لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية، فلما كان ذلك بهذه الصعوبة؟”. “3” لهذا كلّه من الأجدر بنا أن نسأل الآن: ألم يحن الوقت لنكفّ “ذكوراً وإناثاً” عن طرح هذا النوع من الأسئلة، والبدء في عيش الحياة التي نستحق في ظل الحب أولاً وآخراً كمنقذ لنا وللإنسانية جمعاء؟ ألا يكفي ما أهدرناه حتى الآن على النزاعات والحروب والاقصاءات المتكررة، لنعي أنّ لا رابحاً في معادلة الوجود الكليّ إن كان هناك خاسر فيها؟
………………………….