تغير المناخ

وباء على بلاء: اللجوء السوري وهيكلة اللاعدالة في الاستجابة للأوبئة وتغير المناخ

رهام قنوت رفاعي| معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة

 

تراجع حضور القضية السورية دولياً بعد جائحة كورونا والحرب على أوكرانيا وتبعاتها الاقتصادية من أزمتي سلاسل توريد الوقود والغذاء، وبدء تلمس دول الشمال العالمي لآثار تغير المناخ في عقر دارها بفعل التعنت في سياسات نيوليبرالية، إضافةً إلى صعود اليمين الشعبوي في العديد من دول العالم، الذي لا يكل من طرح ملفات اللجوء والعودة على أنها حلول حقيقية للمشاكل الاقتصادية المتجذرة في قصور المنظومة الرأسمالية والاقتصادات الريعية.

تلك السرديات الخاطئة تستمد شعبيتها من نزعات عنصرية وبنى اجتماعية ذكورية لطالما وجدت في الفئات المهمشة شماعة سهلة لرمي اللوم والتنفيس عن الاستياء والغضب العام. يضيق الأفق وينحصر الحديث في دول جوار سورية على اللاجئين واللاجئات، ويجتر الخطاب السياسي الحكومي والأبواق الإعلامية، التقليدية منها والجديدة، تحليلاً سياسياً كسولاً بعيداً عن المعلومات الدقيقة عن واقع سورية وأثر الحرب وتغير المناخ على مواردها الطبيعية وبناها التحتية.

اليوم وتحت قناع العودة الطوعية وبحجة أن سورية أصبحت آمنة تعيد الدنمارك النظر في ملفات الإقامة لألف لاجئ/ة سوري/ة، كما وتسعى تركيا إلى ترحيل مليون لاجئ/ة سوري/ة عن طريق حملات التضييق والاعتقال التعسفي ورميهم/ن في الشمال السوري من دون اكتراث بمصيرهم/ن أو بالإرادة الفردية والحرية الشخصية. أما لبنان حيث يسود خطاب الكراهية فيأمل سياسيه بإعادة ١٥ ألف شخص بشكلٍ شهري.

يجدر الذكر هنا أن إعادة اللاجئين/ات المنظمة من قبل الحكومات المضيفة بشكل جماعي وفي وجود تهديد لحيواتهم/ن هو أمرٌ مخالف للقانون الدولي تحت البند ٣٣ من الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما تعريفنا للأمن والسلام؟ هل يكفي عدم تواجد الاقتتال المسلح في شوارع منطقة ما حتى نقول إنه عمّ الأمن والسلام؟ وعن أمن من نتحدث؟ ماذا عن أمن النساء من العنف المنزلي الذي يتضاعف خلال وفي خواتيم أي صراع؟ وماذا عن الاحتقان الاجتماعي بظل غياب العدالة الانتقالية التحولية؟ وماذا عن الأمن الغذائي؟

حسابات غير دقيقة

ظهرت آثار تغير المناخ في المنطقة منذ أكثر من عشرين سنة وتجلت بموجات التصحر والجفاف غير المسبوقة بحدتها منذ أكثر من ٥٠٠ عام، فطالت مناسيب المسطحات المائية مثل نهر بردى في دمشق ومستنقعات المياه العذبة في لبنان. في سورية تحديداً أثرت هذه التغيرات على حيوات مئات الآلاف ممن عملوا/ن بالزراعة والرعي مما أدى إلى نزوح مليون ونصف المليون شخص داخلياً في عام ٢٠٠٦ والذي بدوره حرك الهجرات العابرة للحدود كما هو الحال في العديد من دول الجنوب العالمي إذ يعد تغير المناخ من أهم أسباب النزوح والهجرة.

دولياً، أصرت البروباغندا الرأسمالية على أن تغير المناخ هو مشكلة للأجيال القادمة لأن آثاره لم تكن بعد مرئية في دول الشمال العالمي. إقليمياً ومحلياً ساد خطاب الأولويات على المشهد فتحرير الأرض يأتي قبل تَحرر النساء بتنوعاتهن، والثورة على استبداد السلطة الحاكمة يسبق الثورة على طغيان النظام الأبوي، وأن حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية يأتيان قبل العدالة البيئية، وأن الاهتمام بتغير المناخ هو رفاهية تستطيع ناشطية الشمال العالمي الانغماس بها.

لم تفلح عقلية خطاب الأولويات في إحداث تقدم، وها نحن نعايش كوارث بيئية إلى جانب إرث سياسي ما بعد استعماري نكل ويُنكل بكرامة الانسان بفعل الظلم الاجتماعي السياسي الممأسس. سورية اليوم مثقلة بأعباء سنوات حربٍ دمرت البنى التحتية وأحرقت أكثر من ربع مساحاتها الخضراء القليلة وسممت الكثير من الترب الزراعية وأفقرت البلد إلى أن أصبح ٩٠٪ من المقيميين/ات على أرضها تحت خط الفقر، والوضع يزداد سوءاً بسبب التسارع غير المسبوق لتغير المناخ.

مَثَلُ الذين واللواتي يعتقدن أن إعادة اللاجئين/ات إلى سورية هو حل جذري لمشاكل بلادهم الاقتصادية والسياسية هو مَثَلُ أولئك الذين أيدوا سياسات رفض اللاجئين/ات الأفغان في أوروبا في ٢٠١٧ بحجة انتهاء الحرب وقدرة اللاجئين/ات على إعادة الإعمار ولم يحسبوا/ن حساب أن بنى أفغانستان التحتية ونسيجها الاجتماعي الهشان عاجزان عن تحمل مثل هذه التحركات السكانية الكبيرة، وأن من أعيد قسراً إلى ديارٍ مدمرة هو أو غيره سيعاود الهجرة واللجوء من جديد.

وباء على بلاء

بعد سنتين من الاستنفار الدولي والمحلي خَفَتَ وقع جائحة كورونا بالمجمل، واليوم نرى صعود “نجم” الكوليرا في سماء لبنان. يُرجِح الخطاب الرسمي سبب هذا التفشي إلى لاجئ سوري أصيب بالكوليرا في مخيمٍ في عكار وذلك بعد انتشار المرض في سورية منذ سبتمبر/أيلول الماضي. هذا الخطاب الذي يُحمِلُ الضحية إثم بلاءها ويتناسى أن مشكلة تفشي أي وباء ليست مسؤولية أفراد فحسب إنما تقع المسؤولية الكبرى على عاتق الهياكل السياسية والنظم الاجتماعية والاقتصادية.

فمشكلة الكوليرا هي ليست أن أحدهم حمل الجرثومة أثناء تنقله من مكان إلى آخر، إنما هي مشكلة سياسات أدت إلى اهتراء نظم الصرف الصحي، وتلوث وشُح مصادر المياه الصالحة للشرب والاستهلاك اليومي بفعل سوء إدارتها وتغير المناخ، وهجرة الكفاءات الطبية، وغلاء العلاج أو عدم توفره، وغياب العدالة الاجتماعية وتعاظم الفجوة الطبقية وغيرها من الفروق الهيكلية، وعليه لن تكون الكوليرا أول أو آخر وباء سيتفشى بفعل هذه الأسباب.

بلاؤنا في هذه المنطقة هو وباءٌ متغلغل ومستدام وهو الأنظمة السياسية الاستبدادية و/أو الزبائنية الريعية الفاسدة وغير المبالية إلا بمصالح نخب السلطات الحاكمة التي تستغل القهر الطبقي لتجيش المجتمعات المضيفة على مجتمعات الهجرة واللجوء وتستخدم سياسات العودة القصرية كإبرة مسكن مؤقت للمشاكل الهيكلية والجذرية. تلك الهياكل غير المستعدة و/أو المكترثة بإيجاد حلول للحد من تغيرات المناخ التي لا تعترف بالحدود السياسية المرسومة على الخرائط.


عن الكاتبة

رهام قنوت رفاعي، (الضمير: هي) ناشطة نسوية تقاطعية وبيئية من سورية ومقيمة في لبنان. خلال الستة عشر عامًا الماضية، انتقلت من التصميم الجرافيكي، والإعلان، والإعلام الإذاعي، إلى التحليل الإعلامي، والدراسات الجندرية، والناشطية في الصحة النفسية. تطلق على خلفيتها المتنوعة واهتماماتها الواسعة عبارة خلق السرديات وتحليلها. تعمل حالياً كباحثة مساعدة في عدة مشاريع نسوية.

 

شاركنَ المنشور