يتناول فيلم حرائق/Incendies سرديةَ العنف الذي تتعرض له النساء أثناء النزاعات والحروب، والثمن الباهض الذي تدفعنه كضريبة أو عقاب على نضالهن أو تمرّدهن على مجتمعاتهن، وذلك من خلال استعراض قصة سيدة لبنانية اسمها نوال مروان، قامت باغتيال قائد ميليشيا مسيحي متطرف أثناء الحرب الأهلية وتمّ اعتقالها جرّاء ذلك وإيداعها في سجن الخيام لمدة خمسة عشر عامًا.
الفيلم من إخراج دينيس فيلنوف Denis Villeneuve وبطولة الممثلة البلجيكية لبنى آزابال Lubna Azabal، وميليسا ديسمورمو-بولين Melissa Desormeaux Poulin، وريمي جيرارد Remy Giraed. وهو مستوحى من مسرحية للمسرحي اللبناني وجدي معوّض تحمل الاسم ذاته. حاز الفيلم على ثلاثين جائزة وترشح لجائزة الأوسكار عام 2010 وقد تمّ تصنيفه من قبل صحيفة نيويورك كواحد من أفضل عشرة أفلام في تاريخ إنتاجه.
يُفتتح الفيلم بمشهدٍ صادم نرى فيه دارًا للأيتام تضمّ مجموعة أطفال بحالة مُزرية، يقوم رجلٌ بحلاقة شعر رؤوسهم، ومن ثمّ تأخذ الكاميرا المشهد بلقطة قريبة جدًا (كلوز) على كعب قدم طفلٍ موشومٍ بثلاث نقاط زرقاء داكنة، لتنتقل بعدها الكاميرا على اللقطة ذاتها بمشهدٍ آخر في إحدى مسابح كندا، يظهرفيه الطفل قد أصبح رجلًا، ومن خلفه نوال مروان تتقدم لتضعَ يدها على كتفه حتّى يلتفت إليها، وتُفاجأ بوجهه، ومن هول المفاجأة تسقط في هوة ألم الذاكرة لتصاب بأزمةٍ قلبية، تُنقل على إثرها إلى المشفى وتفارق الحياة بعدها تاركةً تاريخها وذكرياتها في ملف محفوظ عند كاتب العدل، الذي يخبر ابنتها جان وابنها سيمون بوصيتها الجريئة والصادمة، بأن تدفن عارية، ووجهها باتجاه الأرض وظهرها باتجاه العالم في قبر بلا شاهدة ولا اسم يُعرّفُها إلى أن ينفّذا وصيتها بإيجاد أبيهما وأخيهما المفقودين. هنا تبدأ صدمة ولديها وذهولهما من طلبها، كيف لا وهما اللذان يعتقدان بأنهما كنديان ومن أصول كندية، وقد كانا مُغيبَين تمامًا عن تاريخ والدتهما، ولم تخبرهما من قبل بأن والدهما على قيد الحياة وبأنّ لهما أخًا آخر مفقود، ويتضح لنا بالفعل حالة الاغتراب التي كانا يعيشانها، وفصلهما المقصود من قبل نوال عن معرفة أيّ شيءٍ عن أصولهما بما في ذلك اللغة العربية .
يعود بنا المخرج بإدارة موفقة للزمن ليستعرض لنا حياة هذه المرأة في شبابها وهي تحاول الهرب مع حبيبها وهّاب الشاب الفلسطيني ابن المخيمات، في ذلك الوقت يكتشف إخوتها الأمر، ويقومون بإطلاق النار على رأسه. هنا تبدأ مظلومية نوال الشابة المسيحية التي تحميها جدتُها سرًّا لتدرأَ العار الذي لحق بهم كعائلة بسبب حمل نوال من حبيبها المغدور، حيث تكفلت جدتها برعايتها إلى أن أنجبت طفلها فانتزعته منها وأودعته في دار الأيتام، وأرسلتها إلى المدينة لتكمل تعليمها، ولتعيش بعدها في كنف خالها. يتضح فيما بعد بأن هذه المظلومية لم تكن اجتماعية فحسب وإنّما سياسية في المقام الأول.
في رحلةٍ شاقّة للبحث عن الحقيقة تنفيذًا لوصية أمّها تسافر جان إلى جنوب لبنان، وقد أضاء الفيلم من خلالها على تاريخ قاسٍ دامٍ وعنيف مرّ به لبنان أثناء الحرب الأهلية وحرب المخيمات، تكشف عنها رويًدا رويدًا حقيقة ماتعرّضت له نوال مروان.
نرى من خلال الأحداث المتتالية للفيلم بأنّ نوال مروان بدورها تجسّد مثالًا عن شريحة من النساء في منطقتنا العربية، حيث يتعرضن لكلّ أشكال العنف اللفظي والجسدي والجنسي والسياسي والاجتماعي فقط لأنّهن مختلفات بطبيعة أفكارهن عن بقية النساء، فهذه الفئة تتلقّى عنفًا مضاعفًا من العنف الممارس على بقية النساء في مجتمعاتنا بسبب تمرّدها، ويزداد هذا العنف ويتضاعف في أزمنة النزاعات والحروب، فنوال مروان لم تكن امرأة نمطية بل امرأة تمرّدت على قوانين مجتمعها الدينية وأحبت رجلًا مختلفا في انتمائه الديني عنها، ووقفت ضد اليمينيين المسيحيين المتطرفين من أبناء دينها في حرب المخيمات، ونشطت في الحقل السياسي النضالي، ومن هذا المنطلق لم تكن خياراتها في الحياة خيارات تقليدية.
أشار الفيلم بشكلٍ غير مباشر على أثر النساء في حياة نوال مروان، ذلك من خلال رحلة ابنتها جان لقرية والدتها في جنوب لبنان. استعرض الفيلم شريطًا لذاكرة الناس الذين قابلتهم وسألتهم عن نوال مروان (فلاش باك) كجدّتها التي أنقذت حياتَها ورعتْها حتّى وضعت جنينها، والممرّضة التي ساعدتها في ولادتها في السجن بعد تعرّضها للاغتصاب من الجلّاد (أبو طارق) وحملها منه، حيث قامت برعاية ولديها التوأم فيما نوال تقضي حكمها في السجن، وهنا يخطر لنا سؤال مالذي يدفع الممرضة وهي المسيحية بأن تقوم برعاية أطفال قاتلة القائد المسيحي والمُغتصَبة؟ فهم بالمفهوم الشعبي هم “أولاد حرام”. لكن أراد الفيلم منا أن نلمس هذا التضامن والتعاطف النسوي مع نوال والذي لم يقتصر على الممرضة والجدّة فحسب، بل كذلك ظهر في تعاطف وتفهم ابنتها جان التي لم يكن تضامنها كابنة وإنّما كامرأة تُقيّم الأمور من منظورها، لقد غامرت وخاطرت حتّى تصل لحقيقة ماتعرّضت له والدتها وحقيقية والدها وأخيها المفقودين، في حين أن أخاها سيمون مازال يعيش حالة من الإنكار وهو مخنوقٌ بحكاية والدته.
نلاحظ من خلال سرديّة السيناريو أثر التربية الأسرية والمجتمعية التي يتلقاها الأطفال على مستقبلهم، فجان وسيمون هما بذرة اغتصابٍ ووُلِدا في السجن، ولكنّهما تلقيا تربية صالحة، ونشأا في بيئة آمنة (كندا) لذلك نجد أنّ مستقبلهما ومصيرهما مختلف تمامًا عن أخيهما الذي يتضح في نهاية الفيلم أنه والدهما المغتصب والجلّاد أبو طارق (نهاد مايو) الذي كان ثمرة حب نوال وحبيبها وهّاب، فنهاد أو أبو طارق تربّى في دار للأيتام وتمّ تجنيده في سن مبكرة في ميليشيا ولاء شمس الدين، ورأى في نفسه منقذّا يبحث عن الشهادة حتّى ترى أمّه صورته على كل الجدران، وتفخر به، لكنّه تحوّل إلى قاتلٍ وقد فاق العنف الذي في داخله الوصف، فهو يعرف نفسَه ضحية يحرّكه الشعور بالانتقام، ولايحرّكه الشعور بالعدالة والإنصاف، ومن ثمّ اعُتقِل من قبل اسرائيل، وأصبح جلاًدا في سجن الخيام، السجن ذاته الذي اعتُقِلت فيه نوال مروان.و بعد أنْ حطّت الحرب أوزارها غادر إلى كندا لتتعرف عليه في إحدى المسابح من خلال الوشم المرسوم على كعب رجله، فكان ضحيةً وجلادًا في الوقت ذاته.
من المآخذ على هذا الفيلم هي المبالغة في تضخيم الفاجعة، الفيلم في كلّ محاوره كان مفتوحًا بقسوة شديدة، الحرب الأهلية بحد ذاتها عنف، اعتقال النساء واغتصابهن عنف، وهذا العنف مرأيّ للجميع، فلم يكن من الضروري أن تُغتصبَ المرأة من قبل ابنها لنرى هول الفاجعة. الأمر الآخر أن أولاد نوال هم ناجون من براثن هذه الحرب، فلماذا حمّلتهم وزر ما تعرضت له؟ إن قول الحقيقة يُعدّ ضرورة لأن كل مسكوت عنه سيأتي يوم ما وينفجر، وأحياناً من الأفضل أن يبقى مسكوتاً عنه على أن يُحكى بطريقة قاتلة، ولربما كشفها للحقيقة بعد موتها طريقة للاعتذار منها لأولادها بسبب غيابها عنهم، فهي كانت حاضرة بينهم جسديًا إلى أنّها نفسيًا كانت غائبة ومعزولة بسبب ذاكرتها التي لم تتعافى.
سينمائيًّا نرى أنّ دينيس فيلنوف أدار العنصر الحكائي من خلال التقطيع، وهذه الإدارة بالمعنى البصري كانت خارجة عن تقليدية السرد، فالمخرج اعتمد على القطع وليس المزج وهو دليلٌ على الفصل بين الحكايتين، فقد وضع حدودًا قطعيّة بين حكاية نوال مروان وحكاية أولادها في محاولتهما البحث عن الحقيقة، لم يُدخل الحكايتين على بعضهما فكان هناك مهارة وتشويق في هذا الفصل، مثلًا مشهد رجال شمس الدين يأتون إلى الفندق، ويصطحبون سيمون لمقابلة شمس الدين وذلك من خلال محاولة بحث سيمون عن أخيه المفقود، حيث نرى سيارةً وقفت قربَ سيارةٍ أخرى (جيب سوداء) نعتقد أن الموجود في السيارة السوداء هو ولاء شمس الدين في الزمن الحاضر، في الحقيقة نجد ولاء شمس الدين ولكن بصحبة نوال بعد خروجها من المعتقل أيّ عاد بنا في الزمن للوراء.
كما نجد المخرج أقلّ من اللقطات القريبة جدًا ( الكلوزات) باستثناء كلوز الوشم المرسوم على كعب قدم نهاد مايو (أبو طارق) وكلوز لعيني نوال مروان، ونرى كوادر الفيلم عامّة وعريضة في أغلب المشاهد وكأن دينيس فيلنوف يريد منّا أن نرى البيئة المحيطة بنوال مروان وليس حكايتها فقط، فالبيئة في الفيلم مهمة جدًا بالمعنى الطبيعي وبالمعنى المعيشي أيضًا كمشهد دخول سيمون إلى مخيم من مخيمات اللاجئين الفلسطينين في لبنان.
إيقاع الكاميرا لم يكن إيقاعًا قلقًا أو متوترًا على الرغم من أنّ الحكاية كلّها متوترة، فالحدث فيه رويٌ وقد مرَّ زمنٌ على حدوثه لذلك روايته فيها استرخاء ومن الطبيعي أن تكون حركة الكاميرا أيضًا فيها استرخاء، نلاحظ أيضًا بطء حركة الكاميرا في بعض المشاهد وهذا يُحاكي الإيقاع الحسّي للبطلة.
أمّا الموسيقا التصويرية كانت قليلة جدًا، فحركة الكاميرا رافقتها أصوات الطبيعة/ صوت الريح في أغلب المشاهد/ صوت الباص/ أصوات التعذيب/ لهاث نوال مروان. المخرج لم يعتمد على الموسيقا التصويرية كثيرًا، فالفيلم موسيقيًا صامت، لكن يمكننا القول أن المشهد المتكرر الذي تغنّي فيه نوال مروان الأغنية الشعبية “نامي نامي ياصغيرة” في المعتقل لم تنجح في أدائه الممثلة البلجيكية لبنى أزابال بسبب عدم إتقانها للغة العربية الأمر الذي ترك فجوة في ردة فعل المشاهد وتفاعله مع هذه المشاهد.
يُعدّ فيلم حرائق من الأفلام السينمائية القليلة التي تناولت موضوع العنف الممارس على النساء في الصراعات والحروب، وهو فيلمٌ موجع يترك المشاهد في صدمة وذهول، فكم هناك من قضايا لا يمكن فيها تحقيق العدالة وإحقاق الحق.
قام منتدى مساواة الثقافي وفي إحدى جلساته بالإضاءة على الفيلم قراءةً وتحليلًا ونقاشًا.
نهى سويد: مدربة وناشطة نسوية ومنسقة المنتدى الثقافي لمنظمة مساواة