زينة قنواتي: “هربتُ بعيداً يا دمشق”… عن التحرش والتلطيش والأسماء العديدة لانتهاك أجسادنا

زينة قنواتي| رصيف 22

دعوني أحكي لكم عن دمشق.

مدينة الياسمين، والفل والزعتر والمليسة، وزهر البرتقال، وبردى والحنين…

لم تكن تعني شيئاً لفتاة بلغت الثانية عشرة، وتحتاج أن تمشي وحدها في شوارعها.

ورغم أنني سكنت كل حياتي في دمشق في منطقة تعتبر محمية، ويطلق عليها السوريين بأحياء “أبو رمانة”، ولا يسكنها “الغرباء” الذين يدعي أهل دمشق أنهم خربوا المدينة.

 لم أعتقد يوماً أن أهل دمشق أنفسهم كانوا أفضل من أي ساكن آخر في المدينة، فتلك المدينة لم تكن آمنة لي وللفتيات والنساء عموماً ، فأنا عشت في دمشق التي أعرف، التي لم تحمِ بناتها، ولكن تغنت بالشرف والعرض، والحمية والشهامة، والشجاعة والبسالة والنبل.

لكنني لم أنل من كل ذلك شيئاً، ولستُ أتكلم عن دمشق حصراً، لأنني عشتُ فيها، لكن ما سأرويه في الواقع يشمل كل سوريا، ويتجاوز ما سأرويه أشواطاً، فالمستور أقسى وأشد على نساء المدينة من أن يروى.

في دمشق تعرضت للتحرش في المساحات العامة منذ طفولتي المبكرة، تم لمسي في جميع أنحاء جسدي، دون أي استثناء، والالتصاق بي في المواصلات العامة، وتهديدي من قبل سائقي سيارات الأجرة بالخطف وبالاغتصاب، وسمعت كل أنواع التحرش اللفظي بي، الذي يطلق عليه اسم “التلطيش”، والذي يستقبله الشارع السوري بخفة ويجمع ما يقال فيه ضمن كتيبات للنكتة. ويقاس في مدينتي جمال الفتاة وجاذبيتها بعدد “التلطيشات” التي تطالها في الطريق لم يتوقف “التلطيش” بالنسبة إلي حتى عندما كنتُ حاملاً ببطن كبير في منتصف العشرين من عمري.

كما لم يحترم أحد كياني كفتاة صغيرة، ولم يفكر أحد بأن هناك حقاً للفتيات الصغيرات أيضاً في اللعب بحرية، والركض وقيادة الدراجة في الطريق، والقفز والضجيج ورفع الصوت. كل شيء كان محرضاً على التحرش. فوجودنا بحد ذاته كان كافياً لإثارة الغرائز الحيوانية في الطريق.

اعتقدت في مرحلة عمرية أن الرجال لا يمكنهم التحكم بلمس أعضائهم التناسلية في أي وقت، فهم بحاجة للإمساك بها في الطريق، ورغم استغرابي لتلك العادة اقتنعت لعدة سنوات أنه أمر لا يمكنهم السيطرة عليه. يحتاج الذكور في المدينة للإمساك بأعضائهم الذكورية في الطريق، لسبب ما لم يكن واضحاً بالنسبة لي.

كنت في الثالثة عشرة، أركض إلى حافلة المواصلات العامة، وألتصق بالمقعد قرب النافذة كي أحمي أحد جانبي وعلى الطرف الثاني أرفع حقيبتي المدرسية وأرميها بعنف بيني وبين أي رجل يحاول الالتصاق بي فور جلوسه بقربي، ولم يكن تأففي من هؤلاء أو تحركات جسدي أو حقيبتي المدرسية الغاضبة تعني أحداً من الركاب، لا النساء والرجال ولا أي كائن.

كان علي الدفاع عن نفسي في طريق شائك، وكنت ألام على ما أرتدي. ” لا يمكنك أن ترتدي بنطالاً ضيقاً دون أن تتوقعي ألا يتم التحرش بكِ، بدلي ملابسك وعيشي مرتاحة”.

صدقت لسنين طويلة أنني الملامة في كمية التحرش الذي أتعرض له في المساحات العامة، وغيّر ذلك طريقة ارتدائي للملابس حتى اليوم. كان هناك ضغط جسدي هائل علي، كنت أريد أمراً واحداً فقط، أن أمشي إلى أي مكان دون الشعور بالخطر، أن أخوض شوارع المدينة دون خوف. أن أركب المواصلات العامة دون أن يؤذيني أحد.

لم يتوقف الأمر على الطرقات العامة، كان ذلك يطالني ويطال كل صديقاتي عند صالون التجميل وقص الشعر، في مراكز اللغة، ضمن المراكز التعليمية الخاصة والعامة، في العيادات، وتقريباً في كل مكان.

لم تقدم لي أخلاق مدينتي الحميدة حماية، بل طورتُ وحدي أسلوباً غريباً للسير في شوارع دمشق.

أنزل إلى الطريق، وأعاين الوضع لعدة أمتار أمامي. أتجنب المرور قرب الشاب الذي يقف على ناصية الطريق، وأركض بسرعة عند الاضطرار لاجتياز مجموعة من الشبان، وأمشي في وسط الشارع ابتعاداً عن الرصيف، وأقطع الشارع فجأة بتهور لأهرب من أحدهم، وأتحايل على كل المتحرشين وغير المتحرشين في الطريق كي أصل وجهتي دون أي لمسة مؤذية.

وكانت هناك شوارع تعج بالمتحرشين، وكانت الجامعة أيضاً إحدى تلك المساحات المزعجة، والتي يتجاوز فيها التحرش اللمسة والكلمة، ويتعداها إلى الحصول على العلامات الجيدة والنجاح بالمواد فقط بعد زيارة خاصة إلى مكتب المدرس، أو دكتور المادة.

ماذا أذكر من دمشق؟ أذكر سخطي وغضبي ورغبتي الملحة في عيش حياة آمنة، وأنا لم أفكر عندها بوجود مكان أفضل. ولم أفهم أن ما أتعرض له والبنات الأخريات يسمى عنفاً، وانتهاكاً وتهديداً. كنتُ أعتقد أن هذا هو شكل العالم الحقيقي، وأنني سأنجو بالتحايل على الطريق، وبالاختفاء وربما بالزواج والسير إلى جانب صديق. كنا بحاجة في دمشق إلى الحماية.

ودون الدخول بتفاصيل التحرش، زودنا أبي بعصا صغيرة نحملها في حقائبنا أينما ذهبنا أنا وأختي، وببخاخ رذاذ الفلفل.

لكنني أيضاً كنتُ أخاف أن أقوم بأي ردة فعل، فما هي قوتي الحقيقية في شارع يعج بالمتحرشين؟

ومن كانت تلك الفتاة التي تتجرأ على الرد على المتحرشين؟

هربت مرة من سائق سيارة أجرة عند وقوفه على إحدى الإشارات الضوئية، هربت فجأة دون أن أدفع له، وركضت دون توقف خمس عشرة دقيقة باتجاهات مختلفة ولم أنظر إلى الخلف. لم يكن ذلك لأنه قال لي شيئاً، ولكنه كان يلتفت إلي بنظرات شبقة كل لحظة، ويمد يده إلى المقعد الخلفي ويتأمل قدمي الصغيرتين ووجهي، ويبتلع ريقه.

هربت بعيداً جداً يا دمشق… وليست لدي الرغبة بالعودة إليكِ.

على الناصية الأخرى من الحياة، تكبر ابنتي في مدينة “براغ” الأوروبية، تركب الدراجة في الطريق، تركض وترقص أحياناً، ترتاد المسابح العامة، تزور أصدقاءها في بيوتهم، وتبدو سعيدة.

لا تهتم لمعظم التفاصيل، أحاول أن أشرح لها كيف يجب أن تجلس الفتيات، تنظر إلي بدهشة ” “ماما هل أنتِ بخير؟”.

أريد أن أقول لها إن العالم هنا هو أفضل من هناك بالنسبة للفتيات الصغيرات، وإنها في الواقع محظوظة، ولكنني في قرارة نفسي لا أعتقد أنه مكان أفضل بسبب عدم رغبة المتحرشين بممارسة انتهاكاتهم بحقنا وبحق بناتنا، ولكن للقانون والآداب العامة سلطة على الجميع هنا، تنصاع المجتمعات هنا إلى قوانين صارمة تتعلق بالنساء والفتيات في الشوارع وفي الأماكن العامة، ويمكن لمتحرشي الطريق أن يساقوا إلى مخافر الشرطة، ولكنني أعرف أنهم موجودون وبكثرة، وهم يتحينون الفرص لمد أيديهم إلى أجسادنا، لستُ واهمة، لكنني أرى ما لم تره ابنتي وما لم تره معظم النساء الأوروبيات، أنا أتحسس التحرش من نظرة ومن لمحة، لأنني قد طورت حواساً خاصة لحمايتي. ولكن كيف تطور ابنتي هذه الحواس دون أن تتعرض لتجاربي، وهل يكفي الحديث المطول معها كي تدرك حجم الكارثة؟

في سنواتي الأولى في العاصمة التشيكية “براغ”، كنت أحب أن أرقص، وأن أذهب إلى محلات السهر كي أرقص حقاً. أنا دوماً كنت أريد أن أرقص بحرية دون أن يتحرش بي أحد.

أصاب مع صديقاتي بالذعر، هناك رجل يمسك يدي وآخر يعانقني من أجل صورة، وهو شخص مجهول تماماً بالنسبة إلي، ويبرر المتحرشون تصرفاتهم هنا بالسكر ونسبة الكحول في الدم، ويبرر المجتمع تلك التصرفات لنفس السبب.

وأعود أنا إلى اختناقي في الأماكن العامة.

طورت مجموعة  في العاصمة الألمانية “برلين” مؤخراً، مبادرة تسمى “سهرة”. هناك قائمة واضحة بأسماء الذين يمكن لهم أن ينضموا إلى “السهرة”. تُبعد هذه القائمة كل المتحرشين، والمسيئين وتعمل على خلق مساحة آمنة للنساء والفتيات كي يرقصن بحرية، ولو مرة في الشهر ولو مرة في السنة، ولو مرة في حياة كاملة.

شاركنَ المنشور