نهى سويد | يستعرضُ الفيلم السينمائي (ذا غلوريس) The Glorias حياةَ الأيقونة النسويّة والصّحفيّة الأمريكية (غلوريا ستاينم) Gloria Steinem ويُضيء على مسيرتها النضاليّة والمهنيّة مُبرزاً أهمّ إنجازاتها في الميدان الإعلاميّ النسْويّ، وانخراطها العميق بهموم المرأة خاصة والإنسان عامة، موضّحاً للمتلقّي أفكارها القائمة على مبدأ المساواة دون التمييز بين نساء بيضاوات وأخريات سوداوات أو أمريكيّات أصليات، وذلك من خلال بناء درامي قائم على تصويرها عبر أربع مراحل من حياتها، غلوريا ( الطفلة، المراهقة، الشابة، الناضجة) لعبت دورها في تلك المراحل العمرية كلّ من:
جوليان مور Julianne Moor وأليسيا فيكاندر Alicia Vikander ولولو ويلسن Lulu Wilson ورايان كيرا Rayan Kiera
الفيلم مبنيّ على كتاب من تأليف غلوريا ستاينم صدر عام 2015 يحمل عنوان: حياتي على الطريق. My life on the road
يتناول الفيلم عدّة محاور مستقلة ومتقاطعة في ذات الوقت، ولعلّ أوّلها وأكثرها أثرًا في حياة غلوريا، الدور الذي لعبته عائلة ستاينم في تكوّن شخصيتها الأولى وخاصةً تنقّل العائلة وسفرها من مكان إلى آخر.
في بناء سينمائي غير تقليدي قياساً بالأفلام التي تستعرض السير الذاتية، وبمشاهد بديعة يوضح لنا الفيلم عبر الشراكة الموفقة بين المخرجة جولي تيمور Julie Taymor وكاتبة السيناريو سارة روول Sarah Ruhl الأثر الذي أحدثته هذه الناشطة النسوية في حياة النساء الأمريكيّات، حيث يتّضح هذا من خلال مشهد نرى فيه غلوريا تترجّل من حافلة نقل بخطًى واثقة وقامة ممشوقة، تدخل إحدى الحانات لتتعرّف عليها سيّدة بسيطة من عامّة النّاس، تقول المرأة والدموع في عينيها من شدّة فرحها بلقاء غلوريا: كتاباتك في (مس مغازين Ms Magazine ) غيّرت حياتنا، تنتقل الكاميرا لغلوريا التي بدت على وجهها سعادة غير معلنة، عنوانها حصاد ثمرة ما زرعته خلال مسيرة نضالها الطويلة.
تجري أحداث الفيلم، في قفزات زمنيّة بين اللّحظة الرّاهنة، وبين ماضٍ متعدّد الأزمان، نرى غلوريا المراهقة التي تحمّلت مسؤولية رعاية والدتها المريضة بعد انفصالها عن والدها، ثمّ نقفز إلى رحلة غلوريا في الهند، قبل أن تعود إلى نيويورك وتعمل صحفيّة تحت وصاية زملائها الذكور، وما واجهها من تحدّيات أهمها محاولة تقزيمها، وتحجيم عملها بعدم السماح لها بالتطرّق للقضايا العامة، ذلك لكونها امرأة فقط ، ولكنّ شجاعة غلوريا وموهبتها وثقتها بنفسها مكّنتها من أن تنتزع لها مكاناً في ميدان الصحافة، وقد فهمت آليات هذا العمل ودوره المهم في إيصال صوت النساء، حيث ساهمت بتأسيس المركز الإعلامي للمرأة والذي يعمل على إظهارها، وبسط نفوذها في المجال الإعلامي والشأن العام، فسخّرت عملها هذا لخدمة قضيتها النّسْويّة، وتابعت نضالها، وتمكّنت من بناء علاقات مع قادة الحقوق المدنيّة في أمريكا، ومع نسويّات أخريات أمثال دروثي بيتمان، فلو كنيدي، بيلا أبزوغ، وأسّست مجلة السيدة فكانت غلوريا ستاينم من أهمّ النسويّات خلال الموجة النسْوية الثانية.
لقد شكّلت رحلة غلوريا إلى الهند نقلة مفصلية أضافت إلى فكرها الكثير، يمكننا القول هنا أنّ لقاءاتها العفوية مع نساء هنديّات، واطّلاعها على تجاربهنّ، أسست بدايات فكر غلوريا النسويّ، وقد أسهبت جولي تيمور بعرض مشاهد لحياتها في الهند، سواء في القطار أم في القرى المهمّشة، في إشارة منها لأهميّة هذه المرحلة، وشدّة تأثيرها على حياة غلوريا.
يستوقفنا مشهد رحلة غلوريا مع المرأة الهنديّة صاحبة الضيافة إلى القرى المجاورة، حيث ذهبتا لمساعدة نساء هنديّات متضرّرات من الصراع الدائر آن ذاك. غلوريا تبدي إعجابها الشديد بفكر غاندي السلميّ، وحركته اللاعنفية لتجيبها السّيّدة الهنديّة: ” نحن النّساء من علّمنا غاندي سياسية اللاعنف، سيما أمّه وخالاته”.
اعتمد الفيلم في عرض مشاهده على أكثر من أسلوبيّة بصرية، ولعلّ تعدّد هذه الأسلوبيات ونجاحها في خدمة سيرة غلوريا وأفكارها هي ما أضفت عليه صفة غير التقليدي، الذي أبدع في تصوريها المصوّر السينمائي رودريغو برييتوRodrigo Prieto.
بإمكاننا أن نلحظ الأسلوبيّة الرمزيّة في معظم مشاهد الحافلة مثلاً: غلوريا مسافرة في حافلة نقلٍ، وجهة السفر غير معروفة، المشهد باللونين الأبيض والأسود. وقد تكرّر هذا في مشاهد كثيرة مختلفة الأبعاد والدلالات الفكريّة، فثمة مشاهد تضمّنت الحوار والتقييم والمراجعة الدائمين، من خلال حوارياتها مع شخصياتها الأربع في مراحل عمريّة مختلفة، كما رأينا في مشاهد أخرى الحافلة ممتلئة بنساء ارتدين ملابس سوداء وينظرن لغلوريا بحنق وغضب، وكأنّ المشهد يريد أن يخبرنا هنا أنّ رحلة غلوريا في النّضال النّسْويّ لم تنضج كفاية بعد، ولم تتمكّن من بناء جسور ثقة بينها وبين النساء حتّى الآن.
في حين نرى مشهد الحافلة الأخير ممتلئةً بالنساء، غلوريا حاضرة بشخصيّاتها الأربع، كلّ شخصيّة تجلس على مقعد مختلف، وتحاور امرأة جلست بجانبها، الارتياحُ واضحٌ على وجوه النّساء، ثمّ تنسحب الكاميرا لنرى غلوريا الحقيقية البالغة من العمر 88 عامًا تأتي من خلفية الحافلة، وتجلس في المقدّمة، الإضاءة مُسلطة عليها حيث بدت الأكبر حجمًا في الكادر، وكأنّها هي المسيطرة في المشهد، هنا يتضح لنا بجلاء أنّ ستاينم أصبحت قائدة نسويّة الآن.
في سياق هذه الرمزيّة نقف عند دلالة اللون، ودلالة حركة الحافلة. لماذا كان الفضاء الداخلي للحافلة دائما باللونين الأبيض والأسود؟! بينما جاء الفضاء الخارجي ملوناً؟! هل المقصود هنا حياديّة غلوريا؟ أم أنّ غلوريا ترى الحياة إمّا أبيضاً أو أسوداً!
في الحقيقة ومن خلال سياق الفيلم نلاحظ أّنّ غلوريا كانت مرنة ومحاورة جيدة، ولكنّها لم تكن حياديّة قطعياً، لقد امتلكت مهارات عالية في التواصل، سيما في حوارها مع رجال الدين، لذلك نرى أنّ الدلالة تؤكد على أفكار غلوريا التي أصبحت واضحة بالنسبة لنسْويْة عانت، وواجهت، وصمدت، وغيّرت. في حين أن تحرّك الحافلة المستمر يشيرُ إلى تطور أفكار غلوريا من مرحلة عمرية إلى أخرى.
ثمّ نرى أسلوبية سرياليّة في مشهد لقائها التلفزيونيّ، حيث أضاءت جولي تيمور فيه – وبتكوين سينمائيّ ناجح- على بنية غلوريا ستاينم النفسية وتجربتها الخاصة ومفاهيمها الاجتماعية كموقفها من الزواج والإنجاب وحقّ المرأة في الإجهاض القانوني، في هذا المشهد السرياليّ الذي حاكى خيال غلوريا المبني على أفكارها ورغباتها، نرى مقدم البرنامج بعد أن وصفها بأنّها كائن جنسيّ، وترتدي ثياباً مثيرة، طائراً على كرسي ملولب يعصف به إعصارٌ من الغبار، ويتراءى له الغلوريات الأربع، وكأن غلوريا أرادت أن تحاكمه، وتنتقم منه.
على الرغم من أنّ الأسلوب الواقعي كان الأوسع على امتداد مساحة الفيلم، إلّا أنّ جولي تيمور أدخلت الأسلوبية الوثائقيّة لتختم فيلمها بمشهد وثائقي من عام 2017، فأضافت، وأغنت الحدث الحقيقيّ والمحتوى السينمائيّ فكريّاً وبصريّاً في آن معاً. حيث يُظهر المشهد الواقعي الناشطة الأمريكية غلوريا ستاينم تخاطب جمهورًا كبيرًا من النساء، فتستهلُّ خطابها بجملة في منتهى الأهمية والدلالة عندما تقول: إنّ الله موجود في التفاصيل، لكن الآلهة موجودة في التواصل .
ذا غلورياس من الأفلام السينمائية المهمّة، النسويّة منها على وجه خاص، إنّه فيلمٌ غني بصريّاً وفكريّاً، ويحتمل الكثير من القراءات والتحليل، خذلته حظوظه في المشاهدة كما يستحق، حيث أُنتج وعُرِض أثناء محنة الجائحة العالمية “كوفيد 19” وما استجرّت من إغلاقات.
قام منتدى مساواة الثقافي وفي إحدى جلساته بالإضاءة على الفيلم قراءةً وتحليلًا ونقاشًا.