كريستينا كايلي – فريدريش ايبرت | يستعرض هذا المقال الطرق التي تتيح للتدوين النسوي القدرة على إعادة تسييس الحركات النسوية، ويقدّم لمحة حول الاستراتيجيات الخطابية المستخدمة في مدونات النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بغية تعزيز النشاط النسوي والتضامن النسوي العابر للحدود.
لم تتوقف قط عن الكتابة. هي تشتاق إلى قرائها، ولا تزال تكتب. الكتابة هي الحياة. الكتابة هي الوجود. الكتابة هي كل شيء في حياتها. لم تفهم قط لماذا يريدونها أن تتوقف عن القيام بذلك. الآن وقد جُرّدت من كلماتها، باتت الكتابة عبارة عن معركة! هي تقاتل مستخدمةً إمّا قلمها أو لوحة مفاتيحها… الاستسلام؟ لا بد أنك تمزح!! بن مهنّي، 2010
لينا بن مهنّي ناشطة تونسية بارزة، رفعت صوتها من خلال مدونتها “بنيّة تونسية” مؤكدةً أن “الكتابة باتت عبارة عن معركة!” وأنها ستقاتل “مستخدمة إمّا قلمها أو لوحة مفاتيحها”. وبعد أن تم حجب مدونتها في بداية الثورة التونسية في عام 2010، تمرّدت ضد النظام القمعي الذي يحاول إسكاتها بشكل منهجي. وتقول لنا بن مهنّي إن التعبير عن آرائها وأفكارها بات صراعاً لكنها لا تود الاستسلام لأن الكتابة ليست مسألة شخصية فحسب بل سياسية.
لجأت الكثير من الناشطات النسويات في لبنان، وتونس، وسوريا، واليمن ومصر إلى التدوين بسبب مشاعر الإحباط والغضب جرّاء عدم وجود مساحة لأصواتهن في وسائل الإعلام التقليدية. لقد أردن تقديم روايات بديلة وخطابات موازية تدعو إلى التغيير الاجتماعي (خارج القواعد الأبوية المعيارية المغايرة). لقد واجهت الكثير من هذه الأصوات ردود فعل عنيفة عقب المساهمة في هذه المنصات الرقمية، مع تحوّل العنف الرقمي إلى شكل آخر أو امتداد لكافة أشكال العنف الذي واجهنه في الشوارع والمظاهرات. أعمال العنف الجسدي والجنسي والسياسي التي تمت ممارستها ضد المدافعات عن حقوق الإنسان من أجل إسكاتهن وتشويه سمعتهنّ وترهيبهنّ، هي أمور مرّت مرور الكرام ولم يتم الاعتراف بها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخارجها.
التدوين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
بعد مرور أحد عشر عاماً على الانتفاضات المدنية والسياسية العديدة التي شهدها العالم العربي عقب الثورة التونسية والإطاحة بالديكتاتور بن علي – وهي حقبة شكّلت فصلاً جديداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي حياة العديد من الناشطات – يتوجب علينا اليوم وضع التدوين النسوي ضمن الطابع الزمني حيث أنّه يركز على جوانب مختلفة من موضوع دينامي وواسع للغاية في مشهد رقمي دائم التوسع. تضع المدونات استراتيجيات عدة للتغلّب على التحديات الكثيرة التي تواجهها الناشطات النسويات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي تعمل على تنظيم وحشد وإظهار التضامن ضد النظام الأبوي وكافة الأنظمة التي تدعمه. ويبقى التدوين النسوي من الاستراتيجيات التي يتم اعتمادها حالياً لإعادة تسييس الحركة النسوية وتقويتها في جميع أنحاء المنطقة.
إنّ التحكم بالمدونات أصعب من التحكم بوسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمطبوعة. بالتالي، في المجالات الحساسة سياسياً، غالباً ما تسعى الأنظمة الاستبدادية إلى قمع المدونات و/أو مضايقة ومعاقبة الجهات المشرفة عليها. في الواقع، لقد لجأ الناشطون إلى التدوين كأداة للعمل السياسي بمساعدة الإنترنت، والتقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تساهم في نشر الأخبار عن الموجات الاحتجاجية المقبلة بشكل سريع. وخلال عقد من الزمن، غيّرت هذه التقنيات بشكل ملحوظ الأنماط المتغيّرة بشكل دائم للنشاط النسوي وللحركة (الحركات) النسوية العابرة للحدود.
لقد استخدمت المدونات والناشطات النسويات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كتاباتهنّ لفضح القمع المستمر بشكل استراتيجي. تنتج ممارساتهنّ في التدوين معارف وهويات وتنطوي على استراتيجيات مختلفة لتزعزع استقرار السلطة وتتحدى الخطابات الاستبدادية، والليبرالية الجديدة، والاستعمارية الجديدة والأبوية المهيمنة. ومن خلال خطابهن الإيجابي، ولهجتهنّ العاطفية أحياناً مقرونةً بالاستعارات والقصائد وأساليب مختلفة من الكتابة والوسائط المسموعة والمرئية، تعكس تدوينات النساء أشكالاً مختلفة من التعبير عن المقاومة الفردية والجماعية.
المدونات كأرشيف: المساهمة في كتابة التاريخ
يمكن تصوّر التدوين النسوي على أنه عبارة عن أرشيفات تاريخية للنسوية، كونه يوثّق الأحداث الاجتماعية والسياسية ويصنع ذكريات تُطبع في الأذهان. يعد إنتاج المعرفة النسوية ممارسة طويلة الأمد للنشاط النسوي، وبالتالي، يُنظر إلى توثيق التاريخ على أنه تكوين للذكريات قد يؤدي في نهاية المطاف إلى زعزعة موازين القوى. ومن خلال هذه العملية الديناميكية، يمتلك المدوّنون مساحة للتعبير عن الأصوات الأخرى ووجهات النظر المتداخلة. كما أن الصور القوية والمواد المسموعة والمرئية المشمولة في الخطاب الإيجابي لنصوص المدونات تتيح لنا، من دون أي رقابة، فهم ما يحصل من هجمات غير قانونية فضلاً عن أشكال العنف الذي تمارسه الأنظمة بحق الناشطين، والمدونين والصحفيين والمواطنين على الأرض. كما أن هذه الاستراتيجية هي عبارة عن عملية جمع للأدلة المرتبطة بجرائم مماثلة، طبع ما حصل خلال الأحداث في الذاكرة، وبالتالي تُعتبَر بحد ذاتها عمل مقاومة.
يثير التدوين الذي تمارسه الناشطات النسويات الأسئلة التالية: كيف نضمن الاعتراف بهذه الأعمال السياسية على أنها كتابة التاريخ تضع قصص النساء في المركز؟ كيف نضمن بقاء واستمرارية المعارف التي تنتجها المدونات النسويات في العصر الرقمي؟ هذه الأسئلة هي مجرد نقاط انطلاق للبحث المتعدّد التخصصات تضيء على ضرورة أن يتم الاسترشاد بهذه الروايات القيّمة في التدخلات الأكاديمية والاجتماعية والسياسية وصنع السياسات.
مجتمعات التضامن “العالمية والمحلية”
تنبثق عن ممارسات النساء في التدوين دروس جديدة للنسوية العابرة للحدود، وهي تساهم في المناقشات بشأن التضامن الشامل والهادف. على سبيل المثال، حشد مجتمعات التدوين من أجل التصدي للاضطهاد والعنف وتحقيق التغيير التشريعي، والعدالة، والمساواة والكرامة للجميع، هو جزء من دعوات متعددة للإطاحة بالأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُعتبر أبوية. وقد لعب التدوين النسوي خلال الثورات العربية في عام 2011 دوراً هاماً في التواصل مع الحركات المحلية لبناء التضامن والأخوة العابريْن للحدود، ويستمر هذا الدور في التوسع والتطور ليتحول إلى قوة فاعلة. ومن الأمثلة الأخرى، الحشد الذي رأيناه حول قضايا الأمن الرقمي والكراهية عبر الإنترنت ما أدّى إلى تغيير القوانين الوطنية ووضع قرارات تتعلق بالمرأة والمجال الرقمي. إن الدافع الأساسي وراء هذه التغييرات هو التضامن. وتمتد هذه العملية الدينامية إلى ما وراء الحدود المساحات الجغرافية.
وفي مسار المراحل التطورية الجديدة في الحركات الاجتماعية المعاصرة، تكشف المحادثات التي تجري في المدونات عن مجتمعات حديثة التكوين تحتجّ وتروّج للتنوع والعدالة الاجتماعية. والأهم من ذلك أنها تمنح الاعتراف السياسي للمرأة. يسلط ذلك الضوء على قيمة الديمقراطية التواصلية من خلال المشاركة الحوارية، وهي ممارسة دينامية للمواطنة تشارك في مجموعات المعارضة المتعددة، المحلية والعالمية، والمترابطة. إن الطابع المحلي والعالمي يتيح للأصوات النابعة من الهامش بأن تكون مرئية ويسمح بزعزعة استقرار السلطة من خلال إنشاء مجتمعات الكترونية تكون شاملة ومتعددة الجوانب. إن انخراط النساء في عالم التدوين النسوي يجمع ما بين الحقائق المحلية والمنظورات العالمية. كما أن المدونين المنخرطين في منصات الدعوة الرقمية مثل Global Voices و Medium و Majal، يحضرون تجارب النساء وأصوات أولئك اللواتي يعشن في المنفى والشتات من الهامش إلى المركز، ويقدمون تحليلات سياسية نقدية. هذه المشاركة التفاعلية في النظام الحيوي للمنصات الرقمية تسد فجوة ثقافية وسياسية، وتتخطى الحدود المحلية والأنظمة القمعية.
عالم التدوين النسوي هنا ليبقى
يُعدّ التدوين، إلى جانب المدونات المرئية والبودكاست (على سبيل المثال سلسلة البودكاست حمّام راديو ومساحة)، من الأدوات الحيوية في الجهود المبذولة لإعادة تسييس الحركة (الحركات)، وذلك على النحو التالي: 1) هي تساعد في إعادة مواءمة المجموعات النسوية مع المبادئ النسوية الأساسية، 2) تتشارك وتنتج المعارف التي تسد الفجوات القائمة بين النشاط النسوي والنظرية النسوية، 3) تجعل المعارف النسوية في متناول مجموعات متنوعة من النساء، 4) تسهّل وتوفّر مساحة للحوار حول التغيير الاجتماعي، والمطالب والرؤى المشتركة للعدالة الاجتماعية، 5) تعتمد استراتيجيات خطابية متنوعة من خلال الشبكات والمنصات الرقمية للمقاومة “العالمية والمحلية” ولحشد الجهود الجماعية للنساء كافة من قِبل النساء كافة بغية الكشف عن وجهات النظر الأساسية للفئات المهمشة. تواصل هذه المشاريع التحررية التشاركية تذكيرنا بأن النسوية متجذرة في صوت كل امرأة في كل مرة تواجه فيها القهر والاستغلال والظلم.