إعداد: شهد مصطفـــى وآلاء حســـن | ولها وجوه أخرى
تهيمن مسلسلات الــ١٥ حلقة على موسم رمضان الحالي على نحو لم تشهده الدراما المصرية من قبل، بعد أن كان النمط الغالب على مدى ما يقرب من نصف قرن هو المسلسلات التي تستمر حلقاتها حتى نهاية شهر رمضان وأحيانًا تمتد إلى نهاية عيد الفطر.
ويمكن تلمس الأثر الإيجابي لهذا التغيير على الأعمال الدرامية على مستويات عديدة وأبرزها المضمون، فقد أضفى تقليل عدد حلقات المسلسلات مع زيادة عددها لتغطي الشهر كاملًا حالة من التنوع والتعدد في الموضوعات المطروحة التي يثير كثير منها نقاشات واسعة ومتعددة الأبعاد داخل المجتمع، في ضوء ارتفاع نسب مشاهدة ومتابعة الدراما التلفزيونية خلال هذا الشهر أكثر من أي وقت آخر في خلال العام. كما أن وضع سقف الـ 15 حلقة ساهم في بناء حبكة درامية مُحكَمة للعديد من الأعمال التي اتبعت هذا المسار، وعلى رأسها وأكثرها تميزًا من وجهة نظرنا مسلسل «صلة رحم» للمؤلف محمد هشام عبية والمخرج تامر نادي، الذي يتصدر بطولته إياد نصار برفقة أسماء أبو اليزيد ويسرا اللوزي.
يعرج المسلسل من خلال الفضاء السردي الخاص بالقصة الرئيسة والقصص المتفرعة منها على عدد من القضايا الحساسة، عبر صياغة سردية غير نمطية تبدو أكثر انفتاحًا وتقدمًا وإنسانيةً بالقياس إلى ما هو معهود في تناول الدراما المصرية لهذه النوعية من القضايا، وبالأخص قضايا الإجهاض الطوعي والأم البديلة أو الحمل البديل، وهي الأمور التي تجرّمها القوانين المصرية وتُحرّمها المؤسسات الدينية الرسمية في هذا البلد.
ولعل ما يجعل سردية «صلة رحم» بشأن هاتين القضيتين مميزة عما سبقها في الدراما التلفزيونية هو أن مقصدها المركزي ليس الوعظ والنصح، ولا إخافة النساء من تجاوز الحدود المرسومة حولهن، ولا إرضاء الرقيب الاجتماعي والفني كما جرت العادة عند التطرق إلى القضايا المرتبطة بأجسام النساء وجنسانيتهن، إذ يتوخى السرد الدرامي في «صلة رحم» أنسنة تجارب النساء وقراراتهن عن طريق سرد خطي واستكشاف تصاعدي لذواتهن الهجينة، الممزقة بين تناقضاتها التي لا تنعزل عن تناقضات المجتمع. وتعد واحدةً من مزايا السرد الدرامي في هذا العمل هي عدم تأطير الشخصيات وعلاقاتها ببعضها بعض بأطر وأحكام أخلاقية، مما أفسح المجال لتطور منحنيات الشخصيات واستجلاء معالمها وتعقيداتها بعيدًا عن التصورات المسبقة والتصنيفات القاطعة
وفي هذا السياق، لا تأتي قرارات الإجهاض وإجراؤه تعبيرًا عن اعتراف بالوقوع في فخ خطيئة أو سلسلة من الخطايا، ولا يظهر كذلك الطبيب الذي يجري عمليات الإجهاض كشخص استغلالي بلا ضمير، يعتقد في قرارة نفسه أن ما يفعله جريمة «أخلاقية» لكنه يجريها لعلة الحاجة إلى المال أو الطمع فيه، وهي الصورة النمطية التي عكف الإنتاج الدرامي المصري إلى ترسيخها في أذهان المشاهدات والمشاهدين على مدى عقود.
طبيب أمراض النساء خالد، الذي يجسد شخصيته محمد جمعة، لم يرسم صناع العمل شخصيته على هذا النحو، فهو شخص يتخذ قراراته فيما يتعلق بعمليات الإجهاض الطوعي ارتكازًا إلى منطق علمي وفلسفة إنسانية وقناعة تامة وقارة بأن الإجهاض الآمن له مسوغاته الإنسانية التي لا تقل أهمية عن المبررات الطبية، كما أنه يرى في هذه العملية ضمانةً لحياة غير مثقلة بالوصم أو الأمومة القسرية، وقد يكون الضامن الوحيد لاستمرار حيواتهن.
لا يجري الطبيب خالد عملياته مخالفًا لمبادئه، وحينما يخضع للاستجواب بوصفه مرتكبًا لجريمة منصوص عليها في القانون يجيب عن أسئلة المحقق بثبات وثقة، مؤكدًا قيامه بعمليات إجهاض ترنو على المئة، إلا أن صياغته للإجابة تكشف عن فلسفته واقتناعه بأنه قد ساعد في الحفاظ على حياة ما يزيد عن مئة امرأة لم يكن ليتسامح معهن المجتمع المليء بالتناقضات، إذا ما استمر حملهن وتبين أنهن خرجن بأجسامهن عن محدداته. ويأتي مشهد استجواب الطبيب لينقل على الشاشة وجهة نظر طالما جرى استبعادها في الدراما التلفزيونية، اتقاءً لغضب المحافظين والمؤسسات الدينية.
ما يمثله الإجهاض كمنفذٍ إلى الفرص الثانية في حياة النساء، ليس مجرد وجهة نظر يعبر عنها الطبيب خالد بصياغة لفظية وتعبيرية مُحكمةٍ وصادقة، لكنه حقيقة مرئية في حياة كلٍ من حنان، تؤدي دورها أسماء أبو اليزيد، ونورا، تؤدي دورها نورا عبد الرحمن، اللتين تدخلان إلى غرفة العمليات من أجل الإجهاض ليبقى في حياتهما مجال لبدايات جديدة لا نهايات حرفية أو مجازية.
رغم هيمنة مسألة الإجهاض الطوعي على مساحة عريضة من السرد الدرامي، فإنها تظل خطًا فرعيًا ينبثق عن الخط الدرامي الرئيس المتعلق بقضية الأم البديلة والحمل البديل التي يصارع البطل كي يحقق مبتغاه منها بإنجاب طفل من زوجته التي فقدت جنينها بنزيف مفاجئ تبعه استئصال لرحمها إثر حادثة سير كان هو السبب فيها.
تتشعب تفاصيل هذا الخط الذي يمثل العامود الفقري للمسلسل، ويزداد تعقيدًا وتراكبًا مع تصاعد الأحداث التي يدفعها قدمًا رغبة البطل المستميتة في تحقيق هدفه، لتتبين تدريجيًا معالم فضاء إنساني تتزاحم فيه شخصيات رمادية دينامية، تسعى إلى الخلاص من بؤس ما في حياتها، ولذا تتخذ قرارات وتسلك مسارات تناقض بعضها بعض. ومع توغل المسلسل في أعماق الشخصية المركزية، شخصية حسام، واستظهار المحركات التي تدفعه للسعي المستميت لكي ينجب من زوجته ليلى، تؤدي دورها يسرا اللوزي، تتبدى أنانيته وشعوره بالاستحقاق إذ تغدو النساء في عينه مجرد أرحام أو أوعيـة سيختمر فيها الجنين الذي سيحقق له مأربه، لا في أن يصبح أبًا بل في أن ينجح ولو صوريًا في حماية زواجه وتكوين أسرة صغيرة من المرأة التي يزعم حبه الشديد لها، بيد أنه لا يرى سوى نفسه ولا يهمه شيء قدر الحفاظ على زيجته والنجاح في تكوين أسرة منها، وقد شدد حسام على عزمه أن «ينجح» في خلال حديثه الغاضب مع أمه بعد أن ثارت ثائرتها بسبب مسألة الحمل البديل، وقد أماطت كلماته اللثام عن رواسب الشعور بالفشل العالقة بكوامن روحه، والتي تراكمت على مدى السنوات بسبب تحميل أمه له مسؤولية فشل زواجها من أبيه وانهيار الأسـرة.
تتضافر أنانية حسام وذكوريته، وتظهر تجليات هذا التمازج بوضوح في علاقته بحبيبته السابقة جيهان، تؤدي دورها ريام كفارنة، التي يعلم بأن حبها له لا يزال واقرًا في قلبها، فيستغله من حين لآخر عندما يحبِطُه الآخرون أو لا يمكّنونه مما يريد، حيث تصبح وقتها جيهان هي الملاذ للوصول إلى هدفه، ولهذا يتخذ من الحب مدخلًا ليعرِضَ عليها أن تكون هي من تحتضن في رحمها ابنه/ابنته من زوجته الحالية، إلا أنها ترفض التعامي عما يطمره طلبه من استغلال، يريد منه أن يوثق علاقته بزوجته على حسابها نفسيًا وجسديًا.