أمل كعوش| جيم
“ما الذي تعرفينه أو تعرفه عن مي زيادة؟”
في أثناء تحضيري لهذه المادّة، رحت أطرح هذا السؤال على معارفي وأصدقائي، ولم أفاجأ كثيرًا حين تأرجحت معظم الإجابات بين أنها “كاتبة” وأنّها “كانت تحبّ وتراسل جبران خليل جبران”. حتّى أن أحد الأصدقاء اختلط عليه الأمر بين مي زيادة وغادة السمّان فسألني “أليست هي من كان يكاتبها غسان كنفاني؟”.
على الرغم من أن المرأتين كاتبتان، إلّا أن المظلّة تبقى هي هي؛ أديب يراسل أديبة أحبّها. ربّما نفهم الحضور القويّ لتلك المظلّة في حالة غادة السمّان التي أثارت ضجّة كبيرة حين نشرت بنفسها رسائل كنفاني إليها ومن ثمّ رسائل أنسي الحاج إليها بعيد رحيله. لكنّنا في حالة مي زيادة نقف أمام قضية مختلفة إذ تُهيمن بإجحافٍ على سيرتها قصّة مراسلاتها مع جبران فضلًا عن رواية دخولها إلى المصحّ العقلي، ما جعل اسم إحدى أبرز رائدات الأدب العربي والنضال النسوي في القرن العشرين مُقترنًا، ظلمًا، بالغرابة والجنون.
من باب تحرير مي زيادة (الناصرة 1886 – القاهرة 1941) وإرثها الأدبي والنضالي من ذلك الإطار كما تحرير ذاكرتنا الجماعية والشعبية أيضًا منه، تشاركنا الفنانة والكاتبة النسوية باسكال غزالي كتابها المصوّر الجديد “رحلة البحث عن مي” (2022، بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون – آفاق) الذي أتى نتيجة بحث بدأ في عام 2017 واستمرّ بضع سنوات في مشوار شيّق تخلّلته مصادفات ومفارقات تكاد تكون قدرية.
انبثقت نواة هذا البحث في ورشة “مركز القصّة المصوّرة” في بيروت بإشراف الفنانة لينا مرهج. كانت غزالي قد شاركت فيها برفقة عدد من الفنانات والكاتبات الشّابات في لبنان. محظوظة غزالي في “بحثها عن مي” لوجودها ضمن منظومة نسوية داعمة لبحثها ومهتمّة به أشدّ اهتمام سواء في “مركز القصّة المصوّرة” أو مع رفيقاتها في شبكة “صوت النسوة” وغيرها من ميادين. وإلى جانب ذلك، يحالف القدر غزالي في مناسبات شكّلت أساس دعم لبحثها كمحاضرات أكاديمية في بيروت عقدت حول أدب مي زيادة، أو لقائها بأكاديميات وأكاديميين وباحثات وباحثين بين لبنان ومصر من هم متخصّصون/ات بأدب مي زيادة وملمّون/ات بسيرتها الذاتية والتحدّيات التي واجهتها كامرأة وأديبة. المُحصّلة وثيقة سردية تاريخية بصرية غير تقليدية، سعت غزالي من خلال صفحاتها الخمسين لنصرة مي زيادة عبر إعادة رواية قصّتها كامرأة وأديبة وناشطة نسوية في مواجهة الذكورية والأبوية في مجتمعنا. تضيء باسكال غزالي في كتابها حول مركز مي زيادة في بدايات القرن الماضي ككاتبة ومترجمة، كرّست أدبها للنساء فضلًا عن توثيقها سير أديبات عربيات خلفنَها كعائشة تيمور ووردة اليازجي. كما وتبرز دور زيادة كناشطة ضمن حركات النهضة النسوية التي شهدها العالم العربي في ذاك الزمن، وككاتبة شابة جريئة وسبّاقة في مبادرتها لتنظيم وإدارة “ندوة الثلاثاء”، صالونها الأدبي الشهير في مصر والذي استمر مدة عقدين مستقبِلًا مفكّرين وأدباء مثل طه حسين، وأحمد شوقي، وعباس العقّاد وغيرهم.
إلى جانب كل ذلك، تقرّبنا باسكال غزالي من عالم مي زيادة الداخلي والخاص جدًا من خلال ما عانته بسبب القولبة المجتمعية غير المنصفة بحقها، على الرغم من كل إنجازاتها الأدبية والنسوية. فكونها امرأة، اجتهدت المنظومة الذكورية بمعاينة زيادة من خلال عدسة معايير المظاهر والشكل الخارجي والعلاقات العاطفية، كما تذكر غزالي في البحث. وتشير الفنانة بشكل ساخر إلى نقطة توصيف دور زيادة في “ندوة الثلاثاء” كمضيفته وكأنما كانت ضمن لجنة استقبال فيما كانت هي المبادرة لعقد حلقاته وتنظيمها وسط ذاك الجمع الكبير من الأدباء الرجال والذي كان لها بينهم معجبون كثر.
ولأن مي زيادة كانت رافضة لقوالب المجتمع السائدة، ولأن المرأة الناشطة في المجال العام أكثر عرضة لتقييمات وأحكام المجتمع، رُصدت صورتها كشخصية غريبة من دون احترام لخصوصيتها وحرية خياراتها، هي التي بقيت على حبّها لجبران في علاقة مراسلة استمرّت مدة عشرين عامًا حتى وفاته. تُعدِّد غزالي في كتابها بعضًا من الأحكام المسبقة أو الأوصاف التي طالت زيادة من “متفرنجة”، “لعوب” أو”سهلة” في مقابل النقيض تمامًا أنها “متحفظة”، “وحيدة” أو”عبقرية”.
وبدلًا من أن تنعم مي زيادة بما تستحقّه من تكريم مقابل إبداعاتها وإنجازاتها الأدبية، كان الرائج التحدّث حول “غرابتها” إمّا لتحصيل نوع من الشهرة أو بغية الربح المادي أو لأهواء شخصية. وأتت قصة دخولها المصحّ العقلي كمحفّز لاستمرار تلك الأقاويل، الأمر الذي لم يكن ليحدث لولا ظلم ذوي القربى لها وجشعهم في ميراثها بعد رحيل والديها، وهو جزء في حياة مي زيادة خصَّصت له الفنانة غزالي جزءًا مهمًا في كتابها رسمًا وسردًا لنفهم معها مدى عمق الكآبة التي استوطنت روحها.
مقابل تلك الفوضى، كان لمي زيادة مجموعة من الأصدقاء والمعارف شكّلوا شبكة الأمان التي ساعدت على انتشالها من مستنقع الجشع والتجريح، لتعود وتسترد حياتها وأملاكها وتثبت جدارتها كأديبة ومثقفة نسوية فارضة حضورها في المشهد الثقافي قبل أعوام قليلة من رحيلها. أمام كل ذلك التضليل، وجدت غزالي نفسها أمام تحدٍّ كبير في محاولتها لرفع صوت زيادة مجدّدًا في القرن الواحد والعشرين. فتقول: “علينا مسؤولية تاريخية بأن نستردّ حقّ السرد وأن نخبر قصصنا كما عشناها”. وهنا تحاول غزالي من خلال بحثها الإجابة عن سؤالين: من يملك حقّ رواية التاريخ بشكل عام والتاريخ النسوي بشكل خاص؟ وما هي مسؤوليتنا أفرادًا وجماعة في الحفاظ على ذاكرتنا الجماعية والشعبية بوجه التضليل والإندثار وربّما النسيان؟
من هذه النقطة، يمكننا أن نقرأ “رحلة البحث عن مي” من منظورين؛ سردي تاريخي وبصري فني، نجحت غزالي في الحفاظ على التوازن بينهما بتناغم غير مُتكلّف. سرديًا، نلحظ معالجة غزالي رحلة حياة زيادة بدقّة وإلمام بالتفاصيل التاريخية من دون أن تُختصر حصرًا في ما يتعلّق مباشرة بها. فالكتاب يعرض تاريخ زيادة وتاريخ من عاصرها وساندها من أصدقاء وبينهم شخصيّات معروفة، مثال الأديبة حبّوبة حداد، الناشطة النسوية روز شحفة، والكاتب أمين الريحاني الذي لعب دورًا أساسيًا في تحريك الإعلام والأوساط الأدبية حول قضيتها وتسليط الضوء على معاناتها.
ولا بد من الإشارة إلى أن غزالي في وفائها لقصة مي زيادة حافظت على الوفاء لمروية التاريخ مستندة إلى أدقّ تفاصيله لتدعيم قضيتها، ومقاومة بذلك الحقائق المُضلّلة حول حقيقة حياة تلك المرأة، فتهتم بابراز تاريخ الشخصيات التي أثرت في حياتها من خلال الوصف النصي والرسومات. ويأتي هذا ضمن اهتمام غزالي بتوثيق “تحوّل الأمكنة والذاكرة” فتتناول في بحثها مبانٍ سكنتها زيادة في مصر ولبنان أو مبانٍ كان لها دور في مسيرتها ومن ثمّ توثيق تلك المباني مرسومة. واحد من تلك الأبنية هو بناء “ويست هول” في الجامعة الأميركية في بيروت حيث ألقت الكاتبة في عام 1938 محاضرة بعنوان “رسالة الأديب إلى الحياة العربية”. تلك المحاضرة التي جاءت ضمن إطار مخطّط داعمي قضية زيادة لدحض سيرة “جنونها” واسترداد مكانتها كرائدة في مجال الأدب والمشهد الثقافي العربي. وهنا ربّما نجد مدخلًا في قراءتنا بصريًا للكتاب الذي أغنته غزالي برسومات بيانية وخرائط تقرّبنا من تلك الحقبة الزمنية، هي المهتمة بتطوير وسائل تجمع بين الفن والمعرفة والتاريخ.
للخيارات اللونية دور أيضًا في سردية غزالي لمي زيادة، فتقسّم الفنانة الرسومات في كتابها عبر الألوان ضمن مراحل ثلاث؛ أولًا حياة مي زيادة في مصر (تدرّج لوني دافئ ما بين الأصفر والبني)، ثانيًا مرحلة حياتها في لبنان (تدرّجات للأزرق)، وثالثًا مرحلة الحاضر في أثناء عمل غزالي على البحث (بالأبيض والأسود). هذه التدرّجات اللونية تسمح لنا بمرافقة مي جغرافيًا، واجتماعيًا، وعاطفيًا ونفسيًا. فالتدرّجات الدافئة في مصر تحاكي ما كان لزيادة في تلك المرحلة من نجاحاتها الأدبية والنسوية. ومن ناحية أخرى تحاكي تلك الألوان طبيعة مصر الطوبوغرافية ومناخ القاهرة الصحراوي. اختيار غزالي لدرجات الأزرق شديد البرودة يشابه قسوة الحياة على مي زيادة في لبنان ومعاناتها الطويلة في المصحّ العقلي وما رافقه من محاكم ونضالات قانونية لمناصرتها. هنا يصبح الحاضر محصورًا بألوان الصحف الورقية، لتخبر غزالي من خلالها مراحل بحثها بنوع من التحفّظ والتهذيب، إن صحّ القول، بحيث لا يطغى صوت الحاضر على صوت حياة زيادة بل يواكبه أنسًا ويجاريه قيمة.
فمي زيادة في بحث باسكال غزالي هي البطلة سرديًا وتاريخيًا إذ تستحضرها الفنانة صوريًا بداية كفتاة شابة بملامح عشرينية غضّة. ملامح زيادة العشرينية في رسومات غزالي شديدة الوضوح والقرب، تبرز استدارة عينيها ما يعكس ذكائها وسعة معرفتها التي جعلت منها فاتنة أدباء عصرها على اختلاف أعمارهم وخلفيّاتهم. مع التقدّم في الزمن، يغيب وجه مي عن الواجهة شيئًا فشيئًا. تتفكّك ملامحها بأحجية تحاول منها غزالي بناء الصورة المُهشّمة التي رسمها المجتمع لكاتبتنا آنذاك. تتقلّص ملامح مي مع الخطّ الزمني للقصّة، تصبح لغة الجسد أكثر اتضاحًا في رسومات الكتاب ونحن نرافق مي في تدهور حالتها النفسية ما بين الاكتئاب والعزلة، ثمّ مرحلة اختطافها إلى المصحّ العقلي. ومع اقتراب نهاية الكتاب، نكاد لا نرى مي وجهًا وجسدًا، بل تكثّف غزالي رسوماتها حول شبكة الأمان الاجتماعية لزيادة وإرثها الأدبي الذي تنصره العدالة وأخيرًا ليتمّ إنقاذه من بين براثن الأبوية والذكورية.
اللافت أيضًا في “رحلة البحث عن مي” هو خيارات اللغة التي تنوّعت بسلاسة وإيقاع منتظم ما بين العربية الفصحى خصّت بها غزالي السرد التاريخي لحياة زيادة، وبين العامية الشامية والمصرية في الحوارات التي تدور ما بين شخصيات الكتاب أو ما بين غزالي والقرّاء أو ما بين غزالي وأفكارها الداخلية، الأمر الذي أضاف لمسة من الحميمية والخصوصية للبحث جاعلًا منه أقرب لحكاية من القلب إلى القلب أكثر منه بحثًا أكاديميا.
في “رحلة البحث عن مي” تنجح باسكال غزالي بأن تبني معنا علاقة شخصية مع مي زيادة تخطّت كونها مجرّد شخصية تاريخية في بحث، لنتماهى معها ونرافقها في محطّات حياتها بكل جماليّاتها ونجاحاتها كما بكل تعقيداتها وانعطافاتها المفصلية. أمّا غزالي نفسها في الكتاب فهي ليست الباحثة فحسب بل الراوية وبطلة الزمن الحاضر، تمثُل بعفوية وبساطة في خلال صفحات الكتاب وهي تتابع بحثها بفضول وشغف كبيرين، كأنما في بحثها عن مي تبحث عن صديقة طفولة قديمة، مشاركة القارئات والقراء عبر الكتاب تساؤلاتها، دهشتها، إحباطاتها وفرحها بما وصلت إليه في خلاصة بحث هو محفّز لأبحاث أكثر حول تاريخ نضالات النساء.
فما تقوله غزالي في كتابها من فرضية حول دافع الأفراد الذين كرّسوا طاقاتهم ووقتهم لخدمة مي زيادة ونصرتها، هي فرضية تنطبق على دافعها للعمل على الكتاب المصوّر أيضًا. فبحسب الفنانة ربما كان الشعور بالواجب تجاه المجتمع هو ما دفع أولئك الأشخاص للوقوف إلى جانب ميّ زيادة، فقصة فرد منا هي جزء من قصصنا جميعًا ومن تاريخنا. وربما ما جاء في الكتاب على لسان الكاتبة والناشطة النسوية سارة أبو غزال يختصر ذلك، إذ تقول “قصة مي زيادة عقدة أساسية بتاريخنا. فحاضرنا النسوي لن يتغيّر إلّا إذا حلّت قضية مظلومية مي زيادة”.