رسالة

خاص مدونة المنصة : وجدان ناصيف

ابنتاي الحبيبتان،

تتنازعني أحياناً رغبتان متناقضتان؛ أن أنعش ذاكرتكما، أو أن أدعكما لشأنكما، كي تنسيا كلّ شيء.

 لم أقل لكما أنيّ بكيت عندما كنت أسمعكما قبل أيام، ترويان تلك الحادثة للصحفيّ، الذي قدم إلى بيتنا من أجل تقرير حول اندماج عائلتنا في المجتمع الجديد. كنت أراقبكما عندما سألكما ذلك السؤال المرّ: “هل ستعودان إلى سوريا؟”. تلعثمتما بالإجابة وتبادلتما النظرات، ثم كالعادة اتخذتما قراراً ثنائياً، بأن ترويا له تلك الذكرى عن سوريا، التي كنت أظنّ أنكما نسيتماها منذ وصولنا إلى هنا. الذي آلمني كثيراً هو أنيّ كنت أعتقد أنكما قد تعافيتما منها خلال السنوات الماضية. 

حدث ذلك في صيف عام 2012، عندما كان والدكما يقلّكما في سيارتنا من مركز الموسيقى في دمشق القديمة، حين أوقفته سيارة شرطة، لم تنسيا أن تشرحا له: “سيارتنا تلك احترقت تماماً بعد عدة أشهر، جرّاء قذيفة هاون حينما انهمرت مجموعة من القذائف، على حي البرامكة بالقرب من المدرسة، التي كان يعمل فيها والدنا مدرّساً… لحسن الحظ أنّه كان قد ركن السيارة وغادرها قبلها بدقائق”.

سوف أعود بكما إلى القصة التي كنتما ترويانها للصحفي، والتي لم أكن لأكتبَ عنها لو أنكما نسيتماها بالفعل، لكنّ ذاكرة طفولتكما احتفظت بجزء منها كجرح مفتوح. الصور المقطوعة عن سياقها تتركنا عالقين في اللحظة، لكن يمكننا من خلال إعادة قصّها أن نعيد تفسيرها، ووضعها في سياقها من أجل تحويلها من جرحٍ مفتوح في الذاكرة، إلى تجربة حياتيّة لنتمكن بعدها من التعافي والاستمرار في العيش.

أعود للحكاية: عندما توقفت السيارة طلبوا من والدكما هويّته، وتأكدوا من رقم السيارة، ثم أمروه أن يترجّل منها ويذهب معهم، فهمنا فيما بعد أنه كان مطلوباً من قبل فرع الأمن العسكري في دمشق. قال لهم أنّه لا يستطيع ترك طفلتين، أكبرهما في العاشرة من عمرها بمفردهما على حافة الطريق، توسّل إليهم كي يسمحوا له بأن يعيدكما إلى منزلنا، حيث كنت أنتظركما، لكنهم لم يستجيبوا لتوسلاته، طلب منهم راجياً أن يعطوه لحظة واحدة ليفكر أين يمكن أن يضعكما، ثم طلب منهم ـأن يسمحوا له بإعادتكما إلى مركز الموسيقى، حيث وضعكما في عهدة المعلمة، وغاب معهم دون أن يسمحوا له بتلويحة وداع.

 الدقائق القليلة التي انحفرت عميقاً في ذاكرتكما، هي تلك التي تفصل بين اللحظة التي قام بها الرجلان المسلحان بحشركما بينهما في السيارة، واللحظة التي نزلتما بها أمام مركز الموسيقا بمفردكما.

رويتما لي فيما بعد جملاً متقطعة عن الخوف، عن الرعب الهائل من سلاحيهما اللذين كانا ولأول مرة قريبين من جسديكما إلى هذا الحد، عن خوفكما الشديد عندما نطق أحدهما ذلك السؤال الخطير، الذي صوبه إلى براءة طفولتكما كرصاصة:

 – “هل تحبان سيادة الرئيس بشار الأسد؟”

تلعثمتما بالإجابة، وحاولتما البحث عن طوق نجاة في وجه والدكما الذي كان في المقعد الأمامي، الذي ولأوّل مرّة لم يكن باستطاعته أن يكون منقذاً لكما.

أستطيع هذه اللحظة تخيّل مقدار صدمتكما بالسؤال، تنظران في عيني إحداكما الأخرى، من أجل أن تستجمعا شجاعتكما، لطالما كنتما تفكّران بعقل واحد، ثم تخرج الكلمات منكما في اللحظة ذاتها، حتى وإن لم تكونا قد اتفقتما علانية على الإجابة، قلتما معاً:

” نعم”، فسألكما الآخر: ” نعم ماذا؟ ” فأجبتماه: ” نعم… نحبّه!”

أفكّر بالكثير من الأطفال في بلادنا الذين أجبروا على الإجابة على هذا السؤال-المصيدة، بسبب رعبهم من السلاح-السلطة، ربما لو عاد لهم الخيار، لما كان خطر في بالهم الإجابة بـ “لا”. فالسؤال “هل تحب سيادة الرئيس؟”  لا يشبه السؤال الذي يمكن أن يوجّه لصبا مثل: هل تحبين البيض بالبندورة (الجزمز)؟  والذي ستجيب عنه فوراُ بـ” لا”، وحتماُ لا يشبه السؤال لنغم إن كانت تحبّ (الفول)، والذي ستجيب عنه أيضاً بـ” لا”، حاسمة هذا السؤال المرعب والخطير، والذي يكلّف الأطفال خسارة أهلهم. كنتما قد فهمتماه باكراً، وأجبرتما على التعامل معه بنضج لا يتناسب وعمريكما حينها، وهذا أكثر ما يحزنني!

منذ قرّرت أن أصبح أماً، حاولت جاهدة أن أبتعد عن أيّ نشاط، يمكن أن يتسبّب في اعتقالي، ولكن مع قيام الثورة، اكتشفنا والدكما وأنا، أنّه من الصعب أن نبقى بين المتفرجين. 

صمت والدكما في تلك الدقائق القليلة، لم يكن ضعفاً، وتوسلاته لهم من أجل أن يسمحوا له بأن يقلّكما إلى مكان آمن، ليس امتهانا لكرامته، هو لم يهتم بكل ذلك، هو فقط فكّر بحمايتكما لأنه وضعكما دائماً في المرتبة الأولى، وهذه الـ ” نعم ” التي سحبت قسراً منكما، لم تكن مجرّد “كذبة” خرقت قاعدة ” لا كذب”، التي نشأتما عليها، بل هي كانت آلية فطرية للدفاع عن النفس، من أجل حماية والدكما وحماية نفسيكما كذلك.

عندما اخترنا الخروج بكما من ذلك الجحيم، كان ما يهمنا هو أن تعيشا في بلاد تحترم خياراتكما، حيث لا يمكن أن تسحب منكما قسراً، إجابات على أسئلة مرعبة، المغادرة كانت إلى حدّ ما في يدنا، ولكنّ محوَ حادثة أليمة من ذاكرتكما، هو أمر خارج احتمالنا وطاقتنا.

عدت لسرد الحكاية يا أحبتي من أجل إعادة خلقها بعد تفسيرها، وفهمها ووضعها في سياقها، وأقترح عليكما أن تعيدا النظر فيها وترويانها من منظور جديد، أن تتذكرا أن القصة التي حفرت “سوريا” في ذاكرتكما كـ” نعم” قسّرية، هي أيضاً ومن منظور آخر تجربة حياتيّة مهمة، هي قصة “الرعاية” و”الحماية” التي أظهرتماها في لحظة صعبة لبعضكم بعضاً، وتذكّرا دوماً أنكما ووالدكما أبطال هذه الحكاية الحقيقيون.

أمكما التي تحبكما كثيراُ

وجدان

شاركنَ المنشور